المعروف إن العقيدة الدينية قديمة قدم الإنسان ، وإن تفسير معظم مظاهر حياة الناس القدماء يتم عبر تفسير ديني سواء في المعابد أو المقابر أو الرسوم الطقوسية المختلفة أو النصوص التي توصل إليها علماء التاريخ والأنثروبولوجيا، والآثار وغيرهم.
فليس الدين بدعة اليوم أو أمس. بل هو حالة نفسية وعقيدية واجتماعية بكل أبعادها.. منذ الوجود الأول للبشرية، ولا يقلل من أهميته في حياة البشر -قديما وحديثا- موقف معاد له.. أو موقف رافض له.. أو عدم تفهم لطبيعته.. أو غير ذلك..! بل ولا يقلل من أهميته في حياة البشر تداخله مع أساطير المجتمعات.. بل يؤكد ذلك على ضرورة البحث والتحليل والتجريد
ولكن المعروف أيضا.. أن الدين استُغل من قبل المستفيدين منه أيما استغلال- وإلى درجة مؤلمة ومقززة ومؤثرة سلبا على حياة الناس العامة- ولكن – وكما يبدو لي من قراءاتي لبعض المقالات (خاصة تلك المنشورة على الإنترنيت) فإن منكري الدين قد ابتكروا دينا جديدا ، وبدا أنصاره-أو أتباعه- يروجون لديانتهم هذه.. ولكن بطريقة مغايرة للديانات المعروفة والمألوفة ..!
فالمعروف عن الديانات المألوفة أنها بنيت على قيم أخلاقية عموما- بغض النظر عن مدى تنفيذ هذه القيم واقعيا من قبل بعض أصحابها- لذا فكل التعاليم فيها تدعو إلى السكينة.. وإلى التعاون ..وإلى الارتباط بإله متعال ..وإلى احترام مشاعر وحقوق الآخرين..وغير ذلك.
أما الدين الجديد.. فهو دين فردي، يسمح لأتباعه أن يروا في الآخرين المختلفين معهم (المتدينون) بأنهم ليسوا سوى ” خنازير ومومسات قذرة وحمير تنهق و وقطعان فاسدة…”. كما يرد بالنص أدناه:
((ولن نهتم بكل محاولات ترسيخ المفاهيم القماماتية في العقول, فنحن في الضفة المغايرة لهواجس الاكليروس الدينوي في إجهاضه لكل القيم المنفتحة على آفاق لا نهائية, فما الدين إلا زريبة خنازير)).
((أمام هذه الديانات المومس القذرة والكارثية لا يمكننا أن ننهق مع الجوقة ونرحب مع الجوقة النهيقية بتراث ومخزون الإفلاس العقلي إلى درجة اللامعقول.))
هذا هو الدين الجديد وهذه قيم وتعاليم أصحابه..يشتمون الناس كما يشاؤون وبأي لغة كانت، غير مبالين بمشاعر الملايين من أتباع الديانات الأخرى،بحجة أيديولوجيات مختلفة (القومية أو الأممية أو التقدمية أو غير ذلك..!).
بلا شك.. ليست الغاية من هذا المقال مصادرة لحقوق الآخرين في النقد.. أو إبداء وجهات نظرهم في أية قضية كانت – ومنها الدين أي دين- ولكن الغاية أن اذكّر هؤلاء الكتّاب.. بأن اختلافهم في الرؤية لأية قضية، لا يعطيهم الحق في تجاهل مشاعر الآخرين، وصفعها بطريقة فجة وبدون حساب..! ولا أعتقد أن هذا الأسلوب له صفة المعقولية المنشودة بحال من الأحوال..!
كما ان هذا الأسلوب لا يصب في خدمة تطويرالفكر البشري في اتجاه صحيح.. بل قد يزيد من ظروف التصادم بين الاتجاهات الفكرية المختلفة ..ومنها التدين ..والتدين الإسلامية خاصة..!
قد اتفق مع هؤلاء في أن الكثيرين من مدعي التدين.. استثمروا الدين لمصلحة شخصية، وجعلوا منه وسيلة إفقار.. وتضليل.. وإذلال أيضا.. لشعوب أو جماعات أو أفراد.. ولا يزالون..!
ولكن هذا لا يعني أن نتجاوز على قناعات ومعتقدات الملايين من المؤمنين بهذا الدين أو ذاك، وننعتها بـ”المفاهيم القماماتية في العقول” أو ننعت قيمة آمنوا بها (أي الدين) بأنها “زريبة خنازير” أو” الديانات المومس القذرة”. وان ننعت أتباع هذه الديانات أو المؤمنين بها حميرا ينهقون..!
نحن نقدر للبعض حماسهم لقضاياهم التي آمنوا بها، وخاصة القضية القومية المظلومة (القضية القومية الكردية مثلا..) ولكن لا نريد لهم أن يصبحوا كالعروبيين ومنهم البعثييون وغيرهم.. فيعتبرون كل ما لا يوافق قناعاتهم، (أو كل ما يرون فيه – من وجهة نظرهم- معيقا لطموحهم هذا) بأنه مومس قذر، أو زريبة خنازير..!
أصحاب القضايا الحقة أناس يتمتعون بمزايا لا يتمتع بها الآخرون..
الحر لا يستعبد الحر، المظلوم لا يريد أن يَظلم، المهجّر لا يريد أن يقوم بالفعل المشين نفسه تجاه الغير..
نعم قد يتشوق إلى محاسبة من آذاه أو آذى شعبه. ولكن بأسلوب صحيح ونزيه وكريم ..(قانوني).
الكريم لا يفعل ما يفعله اللئيم(أو اللؤماء) بل يتصرف كنبيل وصاحب قضية..ووفق قانون أخلاقي نبيل.
التاريخ الكردي وتاريخ الشعوب المختلفة مليء بأمثلة من هذه..!
عندما قيل للمرحوم ” الملا مصطفى البارزاني” قائد ثورة 1961 الكردية في العراق:
اسمح لنا بتفخيخ بيت “ناظم كزار” رئيس الاستخبارات في عهد صدام الأول ورفيق نضاله البعثي ..والذي أرسل وفدا من العلماء المفخخين لاغتياله-البارزاني- وكاد أن ينجح لولا أن شابا كان يقدم الشاي لهم، افتداه بنفسه- قاصدا أو صدفة- فقال لهم البارزاني:
وهل تضمنون اغتيال ناظم كزار وحده..؟ قالوا : لا..! قال: فما ذنب الأبرياء..؟!
وعندما فتح الرسول صلى الله عليه وسلم، مكة قال: ما تظنون أني فاعل بكم..؟ فقالوا: خيرا أخ كريم وابن أخ كريم..قال: فاذهبوا فانتم الطلقاء.
نحن لا ننكر أن الشعوب(أو زعاماتها) التي استعمرت الكورد عربا أو تركا أو فرسا…بالغوا في الإساءة إلى الكورد الذين لم يشفع لهم انتماءهم إلى الدين الإسلامي في تجنيبهم الأنفلة.. والغازات الكيماوية في العراق. ومثله أو شبيه منه في كل من تركيا، وفارس، بل وسوريا أيضا..فثلاثمائة ألف إنسان حرموا عمدا من حقوقهم المدنية والإنسانية لمدة تكاد تتجاوز الأربعين عاما، إضافة إلى ممارسات لا تقل ضررا وإضرارا عما كان في العراق إلا في الشدة فقط ربما..!!
كل ذلك ليس غائبا عن بالنا.. بل وأكثر من ذلك.. فإن مواقف الشعوب في هذه البلدان لا تختلف كثيرا عن مواقف حكامها تجاه الكورد- وللأسف- فقد رُبّوا على نزعة شوفينية بالغة الأذى والانحراف..وهذا ما شعر به السياسي المعروف “صالح القلاب” وغيره من هذه الشعوب ومنهم مثلا (د إسماعيل بيشكجي التركي). وقد كتب السيد القلاب هذا مقالا نشره في مواقع إلكترونية مختلفة، ومنها موقع “عامودا” تحت عنوان مثير: الأكراد: لماذا الحقد عليهم وكرههم.. في كل العهود والمراحل ؟!
في كل يوم تتفتق عقلية الإفلاس ليس في العراق فحسب، وإنما في طول الساحة العربية وعرضها عن تلفيق تهمة جديدة ومن الوزن الثقيل وإلصاقها بالشعب الكردي وبمسعود البارزاني، فغير القادرين على لجم غول الذبح على الهوية والعاجزين عن إبعاد شبح التشظي والتفتت عن العراق، لا يجدون مشجباً يعلقون أخطاءهم وخطاياهم عليه سوى القيادة الكردية، التي كل الذين يسيئون إليها ويقولون فيها أكثر مما قاله مالك في الخمر، كانوا قد استظلوا بظلها هرباً من سطوة شمس صدام حسين يوم كانت ساطعة وحارقة.
ومن المثقفين العرب الذين يحاولون إنصاف الكرد باعتبارهم قومية متميزة عن الأقوام الأخرى إثنيا (عرقيا) ولكنهم ينتمون – عبر تاريخ طويل- إلى الإسلام. ومن هؤلاء المثقفين مثلا:
الدكتور احمد أبو مطر0الفلسطيني) والقاضي كاظم عبود(العراقي) والسيد منذر الفضل (العراقي) وفي لحظة ما السيد فهمي هويدي(المصري) وكذلك السيد إبراهيم درويش (ربما السوري) الرئيس الليبي: معمر القذافي. والسيد الوزير محمد بن علي اليمني (ﮔولان العربي عد 13/25/حزيران 1997)، وغيرهم من العرب الذين شعروا بالغبن اللاحق بالكورد، أناس يجعلوننا خجلين من التعاطي مع العرب بطريقة لا تنم عن احترام.. سواء لجهة السلوك الخاطئ الذي عاملونا به، أو لجهة التفكير الخاطئ الذي يعبرون به عن أحوالنا في التاريخ، وفي الحاضر، بل وفي تشكيل المستقبل.. إذ لا يدعون فرصة إلا ويتخذون أسلوبا وصائيا علينا ..!- إن لم يغرقونا في بحر من اتهامات وشتائم ما أنزل الله بها من سلطان.
إنني أدعوا الإخوة الكتاب والقراء جميعا.. إلى الترفع عن المهاترات.. أو العبارات المتهمة للآخرين، ولننتقل إلى أسلوب النقد الجسور بطريقة معبرة ومهذبة، تعلن عن نبل المقصد فيها. وتخلق حالة تأثير صحيحة. وكما يقول الله جل وعلا:
“ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم”.
وأعتقد أن تحرير الهند لم يتم بالشتائم والمسبات، بل بسياسة بسيطة ومؤثرة هي سياسة اللاعنف (أو فلسفة اللاعنف) التي تبناها “غاندي” الذي سمي من اجل ذلك المهاتما (أي المقدس) من قبل شعبه، واحتفل العالم عبر هيئة الأمم المتحدة بمرور مئة عام على وفاته،تقديرا لفلسفته المنتجة هذه.
كما أن الرسول محمد – وغيره من الأنبياء- لم ينجحوا في نشر رسالتهم إلا بالمضمون الأخلاقي ونبل المقصد، وتحمل الأذى، وأسلوب ((ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم)) صدق الله العظيم.