الأسى الكردي الطافح في رواية (العالم غابة) للروائية كلاويز

   فتح الله حسيني

في روايتها “العالم غابة” تقارن الروائية الكوردستانية كلاويز بين حياتين، حياة ملؤها البذخ واللامبالاة، وحياة ملؤها السذاجة الممزوجة مع الحقيقة المرة، وكلاهما حياة كوردية في منتهاها ونهايتها.

تبدأ الرواية بسيناريو قصير، مدروس، لتسرد بروين، إحدى أهم الشخصيات في الرواية، بسرد قدرها الذي رسمته لها الحياة من خلال خال مختلس، من جهة خارجية، ومن جهة داخلية معاناتها من تصرفات شقيقتها برشنك ووالدتها آسكه، اللتان تبدآن بالخروج من المنزل الى فضاءات مجهولة، بحجة زيارة الأهل والأقارب، للتركان شقيقها كاوه الصغير والأخت المتأملة في صلب الحياة بسوادها ومصائرها المجهولة لوحديهما في منزل أشبه بحظيرة، بين جدران أربعة، بعد أن كانت العائلة تعيش في أبهة قصر، أو في ربوع مُلكٍ كبير ولى أو اختلس على يد خال.
تقول بروين “ان كثرة خروج أمي وأختي المتكرر من البيت بحجة أن قلبهما مهموم ولاتطيقان البقاء فيه فترتديان العباءة دوما، وتزوران دار هذا القريب وذاك من المعارف والأقارب، دون أن  تفكرا بي أو بهذا الصغير لتعرفا هل نحن أموات أم أحياء في جحر الكلاب هذا”.
بين معاناة بروين وكاوه، ولهو أو لنقل لا مبالاة برشنك وآسكه خان، الشقيقة والأم،مسافة تجعل للحياة برزخاً آخر، هو بكل تأكيد ليس برزخ باذخ بقدر ما هو برزخ يرسم طريقاً لفتاة مقبلة على المجهول، وآتية لترسم طريقها، ومن ثم ليأتي شخص آخر من معاناة أخرى، وبطريقة مختلفة، وهو  شوان ليتلاحم قدره مع قدر شقيقة بروين برشنك، فيرسمان معاً حياة ثالثة، ربما تفضي الى بعض من التأمل.
تتقاطع حياة شكره خان مع قهقهتها فحسب، منذ أول انقلاب لـ “شكره” على والدها المغلوب على أمره، من تصرفات شكره، البنت اللعوبة، المتفاخرة بصدرها وبياض نهديها وقهقهتها البيضاء كجسدها، ومن ثم انقلابها على زوجة أبيها، واضطرار أخاها غير الشقيق، شوان، للعمل معها كظل يرافق سهراتها الباذخة مع الرجال في البيوت والمطاعم وأماكن اللهو، ليكون حاله حال أي أداة بيد شكره خان وقهقهة شكره وسهرات شكره ورائحة عرق وويسكي وجل مشروبات غرف وصالون وأيوان شكره، بعد ان يموت والده ومن ثم والدته.
تتفاجئ برشنك أن زوجها شوان ينقلب كلياً بمزاجه وطباعه، في فترة زعلها، أبان مكوثها القسري، ظرفاً، لدى أختها بروين، وهي فترة يوم أو يومين على الأكثر، بأن زوجها الذي كان يرفض العيش مستقلاً مع زوجته، في أنه يأخذها الى شقة جديدة، مؤثثة، فلا تصدق المسكينة حالها الجديد، وعندما يفتح لها شوان الباب، ويعطيها المفتاح تبقى متفاجئة بذلك التصرف أيضاً، الى أن تتجول وحيدة بين الغرف، لتجوب وتمعن في أركان غرفة النوم، وحصراً في دولاب الثياب، فتجد كل ثيابها الخاصة، التي هي ملكها واختيارها، فتصدق نوعاً ما، بأن هذا الباب كان يفضي فعلاً الى منزلها الخاص بها وبزوجها شوان الواقع أصلاً تحت تأثير أخته شكره، ولكنها، أي برشنك، تبقى خائفة إزاء الصمت الطافح على أجواء المنزل الجديد، خائفة من كل شئ، من بكاء طفل الجيران في منتصف الليل، من هواء عابر يسلم على الباب ويجري، ومن ثم لتقول في قرارة نفسها، يا إلهي، الساكن الجديد في الدار يخاف في النهار، فكيف في الليل، لا سيما وأن شكها المزمن بشكره خان وبزوجها لا يفارقها، الى أن تأتي خطوات الى داخل الدار، ليلاً، فيفتح الباب بهدوء، فيدار المفتاح في فتحة الباب، فتسد أنفاسها رويداً رويداً حتى تكاد ان تختنق، الى أن يأتها صوت معهود يقول لها بكل صدق غير معهود “أما زلت مستيقظة”.
في روايتها هذه “العالم غابة” تأخذك الروائية الكوردستانية كلاويز، بكل حواسك الى عوالم ومتاهات حياة الكوردي البسيطة، الاستثنائية، بمفارقاتها، بغموضها، بصدقها وبمعقوليتها ولا معقوليتها على حد سواء، لما لحياة الكوردي من استثناء واضح.
منذ الوهلة الأولى ومن العنوان المفضي الى متن الكتاب / الرواية تحس بمرارة أليمة وأن وعداً ما قد تاه الآن، أو بكاءً ما سينتابك في أي لحظة غير محكومة وأنت تقرأ قصص أولئك الشخوص الغائصين والمعاشين على هامش الحياة، بينما هم في واقعهم المر المرير في وسط وصلب الحياة ومتنها.
بين منى بطلة رواية “الزمن الموحش” للروائي السوري حيدر حيدر وبين شكره إحدى بطلات رواية “العالم غابة” للروائية كلاويز تقاطعات كثيرة، من حيث مرارة الحياة في  مجتمعات تحكمها قوانين وشرائع ملغاة أساساً، خاصة وأن زوج برشنك عندما يحادثها عن الحياة الخاصة بها، فتقول برشنك: من حقي شرعاً وقانوناً أن يكون لي منزل خاص بي، فيرد شوان: أي شرائع وأي قوانين، أنا لا أعرف إلا قوانين وشرائع شكره خان.
وشكره خان ليست شخصية شاذة في مجتمع يسوده التخبط، من حيث زواجها أيضاً من رجل يكبرها بسنين، أو لنقل بسن والدها، ثم تواجدها القسري كفتاة في منزل والدها وزوجته حيث الأم الحقيقية غائبة، فتجد نفسها عاقة بلا إرادة منها.
قبل بلوغ الرواية ذروتها الأليمة في موت شكره خان بحادث سير أليم بين كركوك وأربيل، تقول شكره: انا أحب الأغاني وأحاول ايجاد شريط ممتع، فيقول لها الرجل وهو يسوق السيارة: إفتحي هذا الصندوق الموجود أمامك فهو مليئ بالأشرطة الممتعة.
ليطول السيناريو والحوار في السيارة، فتقول شكره بحرارة مما يجعل من لون بشرتها أحمر حول مسألة كركوك “لاتأكلوه فهو مر، قسماً بحياة الذين ينهبون النفط لو قتلتم أنفسكم ولو أشتقتم الى الموت فإن كركوك تبقى كوردستانية وأن نفطها ملك لشعب كوردستان لكن انتظرونا إلى اليوم الذي سيأتي”.
“العالم غابة” رواية مليئة بالأحداث الأليمة لواقع أليم، تسلط الضوء على ماعانة أسرة ومن خلال تلك الأسرة على واقع شعب جميل، وذلك بلغة جميلة وممتعة.
يذكر ان الرواية كتبت أصلاً باللغة الكوردية، وترجمها الى اللغة العربية الأستاذ صلاح الدين المدرس وراجعها الأستاذ مصطفى صالح كريم نائب رئيس تحرير صحيفة “الاتحاد” البغدادية نائب نقيب صحفيي كوردستان.
هامش:
اسم الكتاب : العالم غابة
اسم المؤلف : كلاويز صالح فتاح
المترجم : صلاح الدين المدرس
المراجعة : مصطفى صالح كريم

طبع : مؤسسة حمدي للطباعة والنشر في السليمانية.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…