“إلى الرجل الذي رماني من جسر التردد إلى بحر الكتابة.. وعلمني كيف أصنع من الورق قارب نجاتي.. ومن القلم مجذافي .. ومن الكلمات أشرعتي.. حتى وصلت ضفاف الاشتعال..”
بهذا الإهداء الشاعري المعبر دخلت العالم القصصي “ثمانية أقدار” للكاتبة : “أزهار رحيم” التي تدون أقدار شخوصها بالدمع والدم.. لا بالحبر والقلم… فهي تمتشق جرحها.. راسمة أفقا مضرجا بالقهر والألم والموت.. كيف لا والحرب دائرة لا تبقي ولا تذر.. وآثار الحرب ملح فوق الجرح.. والبشر مطحونون.. تسحقهم أقدارهم التي فرضتها عليهم الأبالسة وشذاذ الآفاق ..ثمة إذا قتل وسجن ونطع واغتصاب وقطع أعناق وأرزاق… وثمة أشلاء بشرية مبعثرة واختناقات الروح التي لا تجد لها متنفسا في جحيم العراق المراق ..
على الرغم من كل الظروف القاسية فإ ن بطلات الكاتبة واعيات وصامدات من خلال تشبثهن بعفتهن والحياة ..
هناك شخصية محورية أنثوية تهتم بوالدها المريض الميؤوس من شفائه.. في الوقت الذي أهمله الكل.. فكأنها تريد إثبات ذاتها وإنسانيتها..بل كأنها الشخصية الرئيسية لكل قصص المجموعة القصصية… لذلك تقف سدا منيعا بين والدها المرشح للموت وبين مصيره المحتوم… كما تقف بالمرصاد لكل من تسول له نفسه أن يمس كرامتها بجرح ..
إن عالم “زكريا تامر” المكتظ بالبوليس والكوابيس والأحلام المهيضة ليبدو أمام عالم “أزهاررحيم” عالما جميلا ورديا ورومنسيا.. وكأنها تقول : ها أنتم أيها الرجال القوامون علينا تخططون لنا أقدارنا الكريهة وتحددون وتقصفون أعمارنا وتدعون الحرص على سمعتنا .. هاأنتم بهذه النذالة والانحطاط ..تصنعون الحروب والتشريد والاغتصاب.. ثم تمشون في جنازاتنا…عالم الكاتبة كابوسي مرعب يمر بنا يوميا في الصحافة ووسائل الإعلام دون أن نكترث به وكأن أحداثه جرت في عصور غابرة.. وما نراه هو مسلسل تاريخي فانتازي… لكن قصصه واقعية أقرب الى الخيال.. وكثيرا ما يكون الواقع أغرب من الخيال.. بل يفوقه في غرائبيته وعجائبيته…
بعد قراءة كل قصة تشعر أن الشخصيات ليست ورقية.. بل من لحم ودم.. حتى لتبدو الكاتبة نفسها الشخصية المحوريةالتي لا تستطيع الصمت بين صخب وأنين الجثث والخرائب وأنقاض الإنسان روحا وجسدا.. فتدوي من أجل إعادة عجلة الحياة إلى مسارها الصحيح… ولتؤكد لنا أن المرأة قادرة على صناعة الحياة ضد صناعة الموت…
بطلات القصص الثماني يحافظن على نقائهن الإنساني ويحاولن بناء ما دمرته الحرب ويؤكدن أن المرأة- إذا أرادت- قادرة على تغيير قدرها بإرادتها ووعيها وصلابة روحها…
لا يمكن لقارئ هذه القصص التراجيدية إلا أن يرثي نفسه وهشاشته حين يرى بشرا يتحطمون ولكن لا ينهزمون على حد تعبير” أرنست همنغواي” في رائعته ” الشيخ والبحر “
الأقدار الثمانية هي:
1- سند ملكية: في ذكرى تهجير الكورد الفيليين ..حدث في 1976فيها امراة يموت زوجها وتطرد من بيتها والآخرون يتفرجون عليها بضعف وانكسار… لكنها ترفض المختار الطامع فيها فقد ” أهانته أمام أهل الحي”
2- تحقيق: المرأة لا تستسلم للرجل المحقق معها.. بل” صعقا من بصاق غسل وجهه ” حدثت في 1985
3- تزوجت أبي رغما عني: فتاة تهتم بوالدها أثناء مرضه في الوقت الذي تخلى عنه الجميع
4- عصمت خان: امرأة تقاوم الموت.. موت الجديان والبشر والحياة.. حدث في 1988في قوره رش بالسليمانية..
5- دقات هامسة : البطلة عاشقة وسيدة نفسها… لسان حالها يقول : لا يمكن للحرب أن تلغي الحب فالحب أقوى…
6- في حضن الرئيس: امرأة تبحث عن عمل شريف بسبب عطالة وبطالة زوجها اللامبالي… لكنها لا تسلم نفسها ولا تستسلم للرئيس الذي استسلم للغزاة فيما بعد صاغرا.. ذليلا..
7- عطر الدم: امرأة تجد نفسها سعيدة بالحب وتعيسة بالحرب..
8- شهقة: “كل زوج يموت تدفن معه أنوثة المرأة… تجبر على الانتحار وفاء لذكرى زوج سواء أكان صالحا أم خسيسسا … صممت المرأة ألا تحترق بعد اليوم ..”
نلاحظ أن البطل في كل قصة امرأة ..وهذا دليل على وعي الكاتبة باختيار شخوصها كما تعرفها على أرض الواقع بعد صهرها في بوتقة الفن القصصي ” فن الرجل الصغير “
بين القصة الأولى والأخيرة نرى امرأة واحدة هي البطلة التي تواجه الحب والحرب.. وتنتصر للحب الذي لا يستسلم ولا يرفع راية الهزيمة وذلك ببساطةلأن الحب ولد ليبقى لا ليموت.. وهذا ما تؤكده بوضوح القصة الأخيرة ” ركع أمامي الرجل الإله… هل يسجد الإله للعابدة…؟ الليلة دنست الإله.. التهمت الإله.. مات الإله على مذبح جوعي “
إنها نهاية مدوية بانتصار إرادة الحياة.. وهذا الأمر ذكرني فورا بقصة” جميلة ” للكاتب القرغيزي” جنكيز ايتماتوف “… جميلة هي تلك المرأةالتي كانت مدفونة في الحياة.. محرومة من الحب.. مهدورة ومصلوبة ومسلوبة…لكن أخيرا يخفق قلبها بالحب.. فترقص وتغني معها سهوب وجبال قرغيزيا.. لهذا قال عنها أراغون: “إنها أجمل قصة حب”
تبدو العلاقة بين الكاتبة والكلمات حميمية وشديدة الخصوصية إذ تترك العنان لها تذهب وتجيء وتحلق في جو محاصر بالفجيعة والهلاك من خلال سرد رشيق وإيحاء عميق يضفي على الأسلوب ظلا ظليلا..وماء سلسبيلا..
ثمة مزج موفق بين الواقعية والرومانسية.. أماالصور البلاغية الشاعرية… فتعالوا نقرأ غيضا من فيضها:
“السماء حبلى بالغضب..تكسرت مرايا الأمل..التقاط ثمار الحزن من شجر الحياة..دفنت أفراحها المذبوحة في نعشه..الرهبة تتلو الصلوات في أتون روحها..يكسر بوابات الدمع لتتساقط شلالات مالحة..المياه نافورات مشتعلة ترقص تحت وابلها جنيات اخترقت المكان والزمان..متى ستصل سفنك التائهة لمرفأ القناعة..؟ موجة فرح تهاوت بنعومة في داخله..ملوحتها اغتالت خصوبة أرضي…..
عمدني بحبه..نجحت في إخفاء قلبي عن الكاشف فقلبي قنبلة موقوتة بحبك..أحاطتني عيونهم كمقابر فاغرة الأفواه تصرخ لابتلاعي..النجوم تصطلي ببريق ضوء مسروق من شمس بعيدة تنير الجانب الآخر من العالم..الرغبة في طبول بدائية..اليوم سأعلن إلحادي وسأسلخ تقواك على أسوار أنوثتي المجنونة بسحرك..إلخ…”
“أزهار رحيم ” اسم أدبي فواح.. يحلق بألف جناح… يضاف إلى حديقة فن القصة القصيرة التي جعلتنا ننغمس في عالمها ونتيه قليلا أو كثيرا في غياهبه ودياجيره.. لتبدأ رحلة البحث عن الذات الضائعة في صحراء الحياة… عسى أن تكون ثمة واحة ما….. نحتاج إلى من يرشدنا إليها في زحمة الأشواك ..هنا وهناك..!
جاء على الغلاف الأخير للكاتب” حسب الله يحيى” ما يلي:
” نبع جاد..ومسار ثر من كلمات البوح المتوفرة على الصدق الفني..يحمله حبر كاتبة تعنى بالتحليلات والطب والعلم ..لتنتقل إلى فن القصة وما تنبته من إرث ذاتي متجذر وفاعل ومؤثر..
أزهار رحيم….. تتنفس برئة كوردية.. تتفاعل مع الوجع الإنساني بدفق عميق وحميم وأثير…
بقيت أزهار مزهرة..كما لو أنها زهرة أنيقة وقد تحولت إلى حديقة……وإلى غابة من أزاهير الحروف ..قلم نير….. لقاصة بدأت الرحلة وستواصل..تعبيرا عن خزين معرفي ومباهاة أخاذة..”
——–
تصميم الكتاب مع الغلاف: منى محمد غلام
لوحات الكتاب بريشة الفنان: خالد جبر
الكتاب صادر عن وزارة الثقافة العراقية- دار الثقافة والنشر الكوردية- بغداد 2008