أقول:هل تجوز هذه المقارنة العشوائية والسمجة بين قصيدة وقصيدة بهدف الحط من قيمة السياب لغاية في نفس يعقوب..؟
إن التحامل على رموز الشعر قديم قدم الشعرنفسه…. فقديما هوجم أبو تمام وأبو نواس وأبوالعلاء المعري وأبو الطيب المتنبي وكل الآباء الآخرين.. ثم زال التحامل وبقي الشعر شاهدا على تهافت كل تحامل… فمثل هذا التحامل لم يخدم القضية الأدبية قط…وحديثا ماذا أفاد تحامل نعيمة على جبران… والبياتي على السياب.. وكذلك التحامل على شوقي و نزار قباني ويوسف الخال وأدونيس ..؟ حتى ” الأخطل الصغير” لم ينج من هذه الزوبعةالتحاملية… حيث تآمر عليه “عصبة العشرة” ولكنه واجههم جميعا ورجمهم ببعض الأبيات منها:
درة صاغها الذي ترك الحساد تجري.. ولا تطيق لحاقا
كلما أطبق الغبار عليهم حشرجوا تحته وماتوا اختناقا
علينا الاعتراف أن ثمة ظروفا عامة وأرضا خصبة هيأت الأجواء لميلاد قصيدة التفعيلة… فمن منا يستطيع إنكار دور جبران ولويس عوض والريحاني وباكثير وغيرهم..؟
أجل..إن رواد الحداثة جميعهم أسهموا في إخراج الشعر العربي من النفق الذي صار فيه… كل واحد منهم قد أضاء شموعا شعرية… ومسألة الفروق الفردية موجودة بين كل شعراء الكون قديما وحديثا..لا بل عند الشاعر نفسه ما بين قصيدة وأخرى…
لا أخفي أنني أحب قراءة شعر الرواد بين حين وآخر من دون القدرة على المفاضلة الجازمة بين هذا وذاك ..كما أستأنس أيضا بآراء كبار الشعراء من رواد الحداثة… وبودي أن أستشهد بأقوال بعض الشعراء في” البياتي” الذي فضله الكاتب على السياب وغيره:
يوسف الخال يرى في الشكل الشعري عند” البياتي” نثرامسجعا موزونا يتميز بالسهولة والتكرار كما يؤكد أن” البياتي” انصرف إلى قلمه كوسيلة لاكتساب الرزق وذلك على الرغم من إعجابه بالبياتي الذي حمل قضية الشعر العربي الحديث في قلبه وحقيبته من غربة الى غربة…
منذ فترة قرأت حوارا مع محمود درويش الذي قال عن البياتي:” إنني لم أقرأ للبياتي منذ عشرين سنة تقريبا وعندما مات شعرت بتأنيب ضمير وعندما أعدت الاطلاع على شعره وجدت البياتي يثقف قصيدته بالإحالة إلى عناوين ثقافية.. أي إنه يسمي ” طواسين الحلاج “مثلا.. وعندما أدقق في القصيدة لا أجد مبررا جماليا دائما لهذا التوظيف” والسؤال : لماذا لم يقرأ درويش البياتي منذ عشرين عاما؟ وكلي اعتقاد أن درويش متابع دؤوب لحركة الشعر العربي..؟ إذا هناك شعراء ينتهي مفعولهم الشعري… حيث يكررون أنفسهم الى درجة الملل.. وهذا ما حصل لنزار قباني.. فقصائده في السنوات الأخيرة من حياته خطابات رنانة وجمل إنشائية طنانة لا تمت إلى الشعر بصلة.. ولا يشفع له إلا تاريخه الشعري الغزلي عندما كان الغزل من الموبقات المنكرات
لهذا من الأفضل للشاعر ألا يتبجح ويكابر ويأخذنا إلى برق السراب بعد أن يغيض ماء الشعر وتقلع سماؤه عن المطر.. ثم يأتي في آخر الزمان من يسبح بحمد هذا الشاعر أو ذاك…
وقد قرأت حوارا آخر مع” أدونيس” في إحدى المجلات حيث يقول: ” مع بدر شاكر السياب” تبدأ الحداثة أو القصيدة الحرة.. في قصائده على الأخص” النهر والموت” و ” المسيح بعد الصلب” و” المعبد الغريق” مثل هذه القصائد أنا شخصيا أعدها بداية بالمعنى الفني الشعري لتأسيس حساسية جديدة ومقاربة جديدة للأشياء وللعالم “
أعود إلى بداية هذا الكلام:
لا ما نع من تدبيج المديح لشاعر ما… ولكن ليس على حساب غيره.. ألا يبنى مجد شاعر إلا بتقويض مجد شاعر آخر..؟ كل شاعر له جمالياته وسماجاته.. مناقبه ومثالبه.. وليس عبثا قول البحتري: ” أبو تمام جيده أفضل من جيدي ورديئي أفضل من رديئه ” أما المعري فكان له رأي آخر في الأمر حيث قال:”أبو تمام والمتنبي حكيمان والشاعر البحتري” أما ابن المعتز فقد قال عن البحتري:” لو لم يكن للبحتري إلا قصيدتاه في بركة المتوكل وإيوان كسرى لكان أشعر الناس” وقصة النابغة مع الأعشى والخنساء معروفة ولا داعي لذكرها….
ألا نستطيع القول أيضا: لو لم يكن للسياب إلا قصيدته ” أنشودة المطر” لكان أشعر الرواد…؟