فاطمة ناعوت
سألني الشاعرُ الإنجليزيّ: هل تعاني المرأةُ العربية المبدعة؟ قلتُ: نعم. قال: من تحرّشات الرجال بها؟ قلتُ: تعاني أولا بوصفها إنسانا في عالم يفقدُ فيه الإنسانُ كلَّ يوم درجةً من آدميته، ثم هي تعاني شأنَ كلِّ كاتبٍ لاصطياد الكلمة والفكرة والصورة، ثم هي تعاني كامرأة في مجتمعات بطريركية شأنها شأنَ كلِّ النساء العربيات، ثم هي تعاني كونها امرأةً تفكر، إذ المرأةُ كائنٌ ناقصُ الأهلية، ومن ثم يتحسّس الرجلُ مسدسَه كلما أمسكتِ المرأةُ قلما لتكتب، أولا يتم التعامل مع كتاباتها باستخفاف شأن تعاملنا (الخاطئ) مع الأطفال وغير ذوي الأهلية، ثم إن ثَبُتَ تفوقُها نبدأ في البحث عن “الرجل” الذي يكتب لها(!)، فإن لم نجده نشرعُ في رشقها بالحجارة، ذاك أن تَفوّقَ المرأة يعتبره الرجلُ “المريض” انتقاصا من ذكورته، ثم…. فقاطعني هاتفا: الأخيرةُ هي ما أعني. فقلتُ: نعم.
سألني: طيب، هل توجد تحرّشات من قِبل “مثقفين” (بين قوسين) تجاه كاتبات؟ فقلتُ: وماذا عن تحرّش الرجل “بعامة” بالمرأة “بعامة”؟ كأني بكَ يا روبرت، اسمه، قد قصرتَ الأمرَ على الكتّاب وحسب! لا يجوز أن نجمع كل المثقفين في سلة واحدة هكذا. بالعالمِ بعضُ القبح الذي يدهشنا فنحاربه، مثلما هو مليءٌ بالجمال الذي يدهشنا فنستلهمُه ونكتب. قال: نعم.
قال: لكنني لاحظتُ أن بعض الكاتبات يرفضن أن تظهر صورهن كي لا يتحرش بهن الرجالُ! قلتُ: المرأةُ مستهدفةٌ من الرجل منذ بدء الخليقة قبل الكتابة وقبل الطباعة وقبل الصحف وقبل الانترنت. فهل عدمتِ المرأةُ، على مدى التاريخ، وسيلتَها الخاصة في ردع من يحتاجُ ردعًا؟ هل حَجْبُ المرأةِ وجهها هو الحل؟ كأننا نجابه خطأ المخطئين بخطأ أفدح، هو الخجل من وجوهنا والت خفي وراء جدر!
المرأةُ العادية (التي لا هي كاتبة ولا مبدعة ولا حاجة) الطبيبة، المهندسة، الموظفة، المحامية، وحتى المرأة البسيطة: القروية، الشعبية، العاملة، الخ، تعرف كيف تردُّ عنها سخافاتِ الرجل وتحرشه بها في السوق والعمل والشارع والنادي؟ للمرأة أساليبُها في تأديب من يعوزه الأدب. والصَّبيةُ الصغيرة تعرف كيف تفعل ذلك، فهل يصعب أمرٌ كهذا على كاتبة ومبدعة؟ لماذا نعالج قبحَ الوجود بقبحٍ مماثل؟
الرجلُ “المأزوم” وحده هو الذي يُقزّم المرأةَ في مجرد فستان وجديلة شعر ووجه جميل؟! ثم يتساءلُ النقّادُ: لماذا لا توجد لدينا كاتبات في حجم كاتبات الغرب؟ هل ترون السؤال ذكيًّا وعادلا أم عبثيا وينم عن عماءِ؟ اعطونا مجتمعاتٍ صحيةً، ونظرةً راقيةً للمرأة، وحريةً فكرية وإنسانية، للرجل وللمرأة معا، أعطِكم كاتبات عربيات أعلى قامةً من فرجينيا وولف وآليس ووكر وإيميلي ديكنسون.
الكاتبةُ العربية تحارب في جبهات عدة، بينما الكاتب لا يحارب إلا في ساحة الكتابة. على المرأة أولا أن تقنع أباها وأخاها وأمها ثم زوجها وابنها أن لديها ما تقول، فإن سمحوا لها فعليها أن تقنع المجتمع أن عقلها غيرُ ناقص وأن بوسعها أن تبدع. ثم بعدئذ، وهو الأهم، عليها أن تبدع بحق (وهو العراك الوحيد المتشابهة فيه مع الرجل). ثم تأتي المعركة “غير النبيلة”، تلك التي بوسع المجتمع، لو كان راقيا، أن يوفر على المرأة خوضها. هي معركة المبدعة اليومية لتقنع القراء والأدباء أن كتابتها هي محض عمل فنيّ وليس سيرتها الذاتية. فكثيرةٌ هي العيون التي تفتش بين السطور عن أسرار الكاتبة! كأنما يعوزها الخيال لتبدع! هل نظر الكتّابُ الرجال لكل هذه الحروب التي تخوضها المرأة المبدعة قبلما يحاسبونها على الضوء الذي يُسلط على تجربتها حال قدمت شيئا مائزا؟
الرياضيات علمتنا أن المقارنة لا تجوز إلا إذا ثبتنا كل العوامل ووجوه المقارنة إلا وجها واحدا هو محل المقارنة. فهل المتاحُ للرجل الشرقي الكاتب متاحٌ للمرأة الكاتبة حتى نقارن النتائج بالنتائج؟
حدّثَنا التاريخُ أن جوديث شقيقة شكسبير كانت تمتلك موهبةً أكبر من أخيها، لكنها لم تنل ما نال من تعليم وترحيب بالوجود ثم ترحيب بالكتابة مثلما نال هو، فغدا هو مَن هو، وظلت هي خلف جُدُر الظلام لا أحد ثمة يعرف عنها شيئا. وفرجينيا وولف الفاتنة خاضتِ المرَّ ولم يُسمح لها بالذهاب إلى المدرسة مثل أشقائها البنين فعلّمتْ نفسَها بنفسها وغدت ما غدت. وهذه سيمون دو بوفوار تقول: المرأةُ لا تولد امرأةً، بل يجعلها المجتمعُ كذلك.
ثم سألني: بوصفك كاتبةً في مجتمع بطريركيّ كيف حللتِ المعادلة؟ قلت: تعلّمتُ أن أترك (نوعي) في بيتي وأخرج للمجتمع “إنسانا” وحسب. عقلٌ يتحاور مع عقول. عقلي هو الذي يُنصتُ إلى الوجود، هو الذي يكتب وهو الذي يتلقى النقدَ الحقيقيّ فيتحاور معه، وهو الذي يتلقى كلام المجاملة الأجوف فيضرب عنه صفحا، وهو الذي يواجه ما تسمونه تحرشًا فيُخرج سوطا ويبطش.
ليس نيتشه وحده الذي يمتلك سوطا لامرأته، أنا- وكل امرأة- لها سوطها الخاص الذي تؤدّبُ به من يعوزه الأدب.
فاطمة ناعوت
fatma_naoot@hotmail.com
——-
قال: لكنني لاحظتُ أن بعض الكاتبات يرفضن أن تظهر صورهن كي لا يتحرش بهن الرجالُ! قلتُ: المرأةُ مستهدفةٌ من الرجل منذ بدء الخليقة قبل الكتابة وقبل الطباعة وقبل الصحف وقبل الانترنت. فهل عدمتِ المرأةُ، على مدى التاريخ، وسيلتَها الخاصة في ردع من يحتاجُ ردعًا؟ هل حَجْبُ المرأةِ وجهها هو الحل؟ كأننا نجابه خطأ المخطئين بخطأ أفدح، هو الخجل من وجوهنا والت خفي وراء جدر!
المرأةُ العادية (التي لا هي كاتبة ولا مبدعة ولا حاجة) الطبيبة، المهندسة، الموظفة، المحامية، وحتى المرأة البسيطة: القروية، الشعبية، العاملة، الخ، تعرف كيف تردُّ عنها سخافاتِ الرجل وتحرشه بها في السوق والعمل والشارع والنادي؟ للمرأة أساليبُها في تأديب من يعوزه الأدب. والصَّبيةُ الصغيرة تعرف كيف تفعل ذلك، فهل يصعب أمرٌ كهذا على كاتبة ومبدعة؟ لماذا نعالج قبحَ الوجود بقبحٍ مماثل؟
الرجلُ “المأزوم” وحده هو الذي يُقزّم المرأةَ في مجرد فستان وجديلة شعر ووجه جميل؟! ثم يتساءلُ النقّادُ: لماذا لا توجد لدينا كاتبات في حجم كاتبات الغرب؟ هل ترون السؤال ذكيًّا وعادلا أم عبثيا وينم عن عماءِ؟ اعطونا مجتمعاتٍ صحيةً، ونظرةً راقيةً للمرأة، وحريةً فكرية وإنسانية، للرجل وللمرأة معا، أعطِكم كاتبات عربيات أعلى قامةً من فرجينيا وولف وآليس ووكر وإيميلي ديكنسون.
الكاتبةُ العربية تحارب في جبهات عدة، بينما الكاتب لا يحارب إلا في ساحة الكتابة. على المرأة أولا أن تقنع أباها وأخاها وأمها ثم زوجها وابنها أن لديها ما تقول، فإن سمحوا لها فعليها أن تقنع المجتمع أن عقلها غيرُ ناقص وأن بوسعها أن تبدع. ثم بعدئذ، وهو الأهم، عليها أن تبدع بحق (وهو العراك الوحيد المتشابهة فيه مع الرجل). ثم تأتي المعركة “غير النبيلة”، تلك التي بوسع المجتمع، لو كان راقيا، أن يوفر على المرأة خوضها. هي معركة المبدعة اليومية لتقنع القراء والأدباء أن كتابتها هي محض عمل فنيّ وليس سيرتها الذاتية. فكثيرةٌ هي العيون التي تفتش بين السطور عن أسرار الكاتبة! كأنما يعوزها الخيال لتبدع! هل نظر الكتّابُ الرجال لكل هذه الحروب التي تخوضها المرأة المبدعة قبلما يحاسبونها على الضوء الذي يُسلط على تجربتها حال قدمت شيئا مائزا؟
الرياضيات علمتنا أن المقارنة لا تجوز إلا إذا ثبتنا كل العوامل ووجوه المقارنة إلا وجها واحدا هو محل المقارنة. فهل المتاحُ للرجل الشرقي الكاتب متاحٌ للمرأة الكاتبة حتى نقارن النتائج بالنتائج؟
حدّثَنا التاريخُ أن جوديث شقيقة شكسبير كانت تمتلك موهبةً أكبر من أخيها، لكنها لم تنل ما نال من تعليم وترحيب بالوجود ثم ترحيب بالكتابة مثلما نال هو، فغدا هو مَن هو، وظلت هي خلف جُدُر الظلام لا أحد ثمة يعرف عنها شيئا. وفرجينيا وولف الفاتنة خاضتِ المرَّ ولم يُسمح لها بالذهاب إلى المدرسة مثل أشقائها البنين فعلّمتْ نفسَها بنفسها وغدت ما غدت. وهذه سيمون دو بوفوار تقول: المرأةُ لا تولد امرأةً، بل يجعلها المجتمعُ كذلك.
ثم سألني: بوصفك كاتبةً في مجتمع بطريركيّ كيف حللتِ المعادلة؟ قلت: تعلّمتُ أن أترك (نوعي) في بيتي وأخرج للمجتمع “إنسانا” وحسب. عقلٌ يتحاور مع عقول. عقلي هو الذي يُنصتُ إلى الوجود، هو الذي يكتب وهو الذي يتلقى النقدَ الحقيقيّ فيتحاور معه، وهو الذي يتلقى كلام المجاملة الأجوف فيضرب عنه صفحا، وهو الذي يواجه ما تسمونه تحرشًا فيُخرج سوطا ويبطش.
ليس نيتشه وحده الذي يمتلك سوطا لامرأته، أنا- وكل امرأة- لها سوطها الخاص الذي تؤدّبُ به من يعوزه الأدب.
فاطمة ناعوت
fatma_naoot@hotmail.com
——-
عن موقع ألف