صورة الجسر الروماني

     عمر كوجري

   لم نكن نعير اهتماماً واضحاً للصورة التي التقطت لنا لأول مرة في حياتنا نحن أبناء الريف عندما قادنا أهلنا كقطيع سائب لا يعرف بأية برية سيستقر أنا وأقراني من التلاميذ لنصطف ببلاهة ما بعدها بلاهة أمام رجل قادم من مدينة «المالكية» القريبة والبعيدة عن ضيعتنا، فقد تعب المصور كثيراً من أجل إقناعنا بأن نثبت بلا حراك، ولا نغمض عيوننا «حتى تطلع الصورة أحلى منا» نحن أولاد الضيعة الذين كان القمل يرتع في رؤوسنا
وشعرنا لم يكن يعرف مشطاً أو ما شاكله، ولم نكن- نحن الشياطين- نستجيب لتوسلاته بأن ” نقعد عاقلين” ظهرنا للحائط الترابي المتآكل جراء الأمطار التي كانت غزيرة في تلك الأيام، الحائط الذي لا يشبه حائط يحيى جابر في قصيدته ” هذا حائط”  حائطنا الذي غُيِّب بشقفة من قماش أبيض، بينما كان المصور ملكي الذي لايزال يمارس هذه المهنة في مدينته رغم أنه بلغ من العمر عتيا، كان يغمس رأسه في جهاز مسنود على قوائم غير متناسقة، ويبدأ ببرم شيء من الخارج عرفنا فيما بعد أنها العدسة التي تقرب وتبعد وتُصفِّي الصورة، وبعد دقائق كنا نعدها دهراً يقول : مشي الحال .. يلا يلي بعدو ياحيوانات..وكم كنا نشبه على آلة المعلم ملكي أي شيء إلا صورنا، كانت الصور الفوتوغرافية من تلك الآلة القديمة غائمة، وغير واضحة أبداً، والكثير منا كان يغط في عميق النوم لأن عينه رفت في لحظة طيش، ناهيك عن أن بعضنا كان يبدو مقطعاً إلى نصفين .. مشرشحاً لأنه لم يستجب لتعليمات المُصوِّر.
  الصورة الأولى لي لم أندمج معها ببراءة الطفولة، ولم أشعر بأي تناغم معها لأنها أبت أن تضعني في الإطار الذي هو أنا، فلم أكن أنا.. أنا، بدت عيناي جاحظتين بشكل مرعب، مالت بشرة وجهي إلى السمرة الفاحمة، وظهر شعر رأسي قائماً منتصباً يشبه إلى حد كبير موضة شباب هذه الأيام.
    أما الصورة التي شدتني فيما بعد، وأشعرتني بروعة وجمال الصورة الفوتوغرافية كانت صورة بالأبيض والأسود للجسر الروماني المعمر على نهر دجلة بالقرب من عين ديوار، أما من أين جاءت جدتي بهذه الصورة لا أعرف ؟؟ كانت من بين أشيائها القليلات، ورغم قدمها لكنها كانت محتفظة بالكثير من البريق، وكنت أنظر دائماً إلى هذه الصورة بإعجاب شديد، وأكثر من مرة سألت جدتي عن الجسر الروماني، فلم تكن تعطيني الجواب الذي يروي ظمئي، كانت تقول إن هذا الجسر بناه الروم، ربما كانت تقصد الأتراك، لا الرومان القدماء، كانت تبدي إعجابها بالـ  “هوستا حنا” أو المعلم حنا الذي كان من أبناء المنطقة حسبما كانت تقول جدتي، تفرط في إعجابها به، تشيد بعبقريته في بناء الجسور والعمارة، وتقول:  طَُِلب من المعلم حنا إنشاء جسر على نهر دجلة، فنظر إلى الماء وقال: هذا الجسر يلزمه هذا العدد من الحجر،  لما ذهب هو ورفاقه من أجل تصنيع أحجار متناسقة في بطن الجبل، وأخذوا ينقلون الأحجار إلى مكان بناء الجسر تقصد رفاق المعلم حنا أن يخفوا بعض الأحجار، فعرف عدد الأحجار الناقصة قبل أن يبدأ ببناء الجسر، تقول جدتي إنهم لم يجلبوا حجراً واحداً زائداً عن المطلوب.
     تعلقتُ بشدة بالجسر الروماني، الذي كانت تقول جدتي إن بيتنا- أي بيت جدي وجدتي-  كان بالقرب منه، وكنت أبحث عن أي أثر لبيتنا هناك، ولم أكن ألمح شيئاً فأضجر من جدتي، وتقول هي هنا .. ألا ترى آثار بيتنا وضيعتنا التي محاها دجلة في لحظة غضب؟؟ لم أكن أعلم أن دجلة نهرٌ، وليس كائناً بشرياً، جدتي كانت دائماً تؤنسن دجلة.. « لما استيقظ دجلة.. لما أحب دجلة.. لما غضب دجلة، لما أغار دجلة على القرية الفلانية.. لما ابتلع دجلة أحلى فتاة في القرية»
   كلما تذهب جدتي إلى المدينة القريبة من الجسر الروماني كنت أبكي، وأصرخ لعلها تأخذني معها لأرى منظر الجسر الروماني الذي ساقت جدتي عليه عشرات الحكايا والقصص، تزجرني أن: الجسر ليس لنا يا ولدي، الجسر للروم، إنه وراء الحدود، والحدود مغلقة، وإذا اقتربنا من الجسر سيقتلنا الجندرمة، لم تفتر همتي برؤيته، وستتحقق هذه الأمنية الطفولية في الصف الثالث الإعدادي، ظللت أكثر من ساعتين لا أشبع من التفرس بكل حجر .. بكل تفاصيله.. هذه التفاصيل التي حرمتني الصورة الفوتوغرافية من رؤيتها هذا الجسر، بيد أنها ساهمت في زيادة تعلقي به ، كان في الواقع أجمل من الصورة .. أحجار ضخمة، قناطر متناسقة في تناسق هندسي بديع، مازالت صامدة رغم مئات السنين التي مرت على إنشائه، ومن جهة الشرق هناك نقوش بديعة ورسوم في غاية الإتقان كأن يد الفنان التي أبدعها قد نفضت منها للتو، وإلى الآن ورغم أن الشام ابتلعت الكثير من وقتنا، والظروف حرقت أعصابنا لكن لا أتصور نفسي عندما أزور أهلي في  الحسكة دون أن أمر على قرية « عين ديوار» وأزور هذا الجسر العظيم.. فأتذكر جدتي، وحكاياتها الأسطورية عن الروم والهوستا حنا وآخرين كانوا هنا يوماً ما. والآن هم برسم الذاكرة الفوتوغرافية لي أو لك .. لا يهم.

emerkojari@hotmail.com
 
المساهمة منشورة في صحيفة « تشرين » الدمشقية

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ماهين شيخاني

ولد الكاتب والصحفي والمناضل الكوردي موسى عنتر، المعروف بلقب “آبي موسى” (Apê Musa)، عام 1918 في قرية “ستليلي” الواقعة قرب الحدود السورية، والتابعة لمدينة نصيبين في شمال كوردستان. ترعرع يتيماً بعد أن فقد والده في صغره، فحمل في قلبه وجع الفقد مبكراً، تماماً كما حمل لاحقاً وجع أمّته.

بدأ دراسته في مدارس ماردين، ثم انتقل…

أسدل يوم أمس عن مسيرتي في مجلة “شرمولا” الأدبية الثقافية كمدير ورئيس للتحرير منذ تأسيسها في أيلول 2018، لتبدأ مسيرة جديدة وسط تغييرات وأحداث كبرى في كُردستان وسوريا وعموم منطقة الشرق الأوسط.

إن التغييرات الجارية تستدعي فتح آفاق جديدة في خوض غمار العمل الفكري والأدبي والإعلامي، وهي مهمة استثنائية وشاقة بكل الأحوال.

 

دلشاد مراد

قامشلو- سوريا

19 أيلول 2025م

الشيخ نابو

في زمن تتكاثر فيه المؤتمرات وترفع فيه الشعارات البراقة، بات لزاما علينا أن ندقق في النوايا قبل أن نصفق للنتائج.

ما جرى في مؤتمر هانوفر لا يمكن اعتباره حدثاً عابراً أو مجرد تجمع للنقاش، بل هو محاولة منظمة لإعادة صياغة الهوية الإيزيدية وفق أجندات حزبية وسياسية، تُخفي تحت عباءة “الحوار” مشاريع تحريف وتفكيك.

نحن لا نرفض…

نجاح هيفو

تاريخ المرأة الكوردية زاخر بالمآثر والمواقف المشرفة. فمنذ القدم، لم تكن المرأة الكوردية مجرّد تابع، بل كانت شريكة في بناء المجتمع، وحارسة للقيم، ومضرب مثل في الشجاعة والكرم. عُرفت بقدرتها على استقبال الضيوف بوجه مبتسم ويد كريمة، وبحضورها الفعّال في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية. لقد جسّدت المرأة الكوردية معنى الحرية، فلم تتوانَ يومًا عن…