محمد علي علي
انه فنان بارع ، فقد رسم بورتريهات كثيرة للناس بأوجه مختلفة : حزينة ، مسرورة ، سعيدة و كئيبة ، بائسة و خائفة ، كان يحمل عدته على ظهره كل صباح ويخرج إلى الناس ، إلى السوق ، والى الطبيعة يبحث عن طريدة لريشته الجائعة للألوان والشرهة للحقيقة والتي لا تكل ولا تشبع من الخربشات. في احد الشوارع صادف متسولا عجوزا ، توقف أمامه وعرض عليه أن يرسمه ، ولكن المتسول أجابه غاضبا :
– إن لم يكن لديك عمل ، دعني أعمل !
– ولكن ياعم ستصبح بطلا لإحدى لوحاتي !
– وكم ستعطيني مقابل هذا العمل !
– سأعطيك اللوحة !
– وهل ستقدم لي هذه اللوحة الخبز واللحم !؟ أرجوك دعني استرزق يابني ..!
– ستصبح مشهورا وسيعرفك كل الناس !
ابتسم المتسول وهو يشعل سيجارته ، استنشق نفسا عميقا ، ثم قال من بين الدخان المتصاعد من شفتيه اليابستين:
-يا بني أنا لست بحاجة إلى قطعة خشبية وألوان لكي تجعلني بطلا ، فالبطل في هذا الزمان من يكسب لقمة خبزه ! ثم أنا معروف في كل شارع وطريق ، ومشهور لدى كل الناس بالتسول ، فالفقر لايصنع من المتسولين أبطالا !
بعد هذه الحادثة عاد إلى البيت كئيبا، فلم يكن يصدق بان متسول عجوز باستطاعته أن يؤثر فيه كل هذا التأثير الروحي ، جلس على كرسي ، واخذ يتذكر و يتأمل كل تفاصيل الدرس ، ذلك الحديث الذي دار بينه وبين المتسول العجوز .
جلست زوجته بقربه ، بعد أن رأته كئيبا ،و قالت له معاتبة :
– أنت ترسم النساء والفتيات العاريات ، ألا تخجل من نفسك ! ثم انك رسمت عشرات الفتيات ولكنك لم ترسم زوجتك ” أم أولادك” و أقرب الناس إلى قلبك !
– معك حق ! سأرسمك ولكن بشرط أن تلزمي الصمت ، وأن لا تنظري إلى اللوحة إلا بعد الانتهاء منها .
احتار الزوج الفنان بأي مذهب فني يرسم زوجته : بالتكعيبية أم بالتنقيطية ، بالانطباعية أم بالسريالية ، فهو يعرف جيدا ذوق زوجته الفني “المعقّد”، التي لا يعجبها المحسوب زوجها رجب ، ولا ابتسامة العمة “جو كندا ” في عجب ! وبعد إلحاح الزوجة المتواصل فقد قرر أن يرسمها بالمذهب “ألرضائي” لكي يرضي خاطر زوجته الشقية، ولكي يتجنب شرها ، ولا سيما إن زوجته لم يهبها الله ذلك الجمال الذي تتمناه كل النساء .
عندما بدأ الفنان بعمله ، لم تستطع الزوجة أن تلتزم بالصمت ، فقد بدأت تثرثر ، تتذمر من الجلوس طويلا،بل إنها كانت تقوم بين الفينة والأخرى بأعمالها المنزلية من شطف وكنس وطبخ وغسيل ، حتى إنها كانت تتابع مسلسلاتها المفضلة في التلفاز ، ناهيك عن دردشتها مع زوجها عن الحب والغرام ، وكذلك بالنق على ريشته وأصباغه” الباهتة الألوان “، حسب رأيها!
أما الزوج ، فكان غارقا في الرسم ، ولم ينقطع عن عمله ، كان برسمها كما يراها هو في خياله عندما كانت تغيب، مضيفا إليها بعض “الرتوش الزائدة” لكي يضفي على اللوحة بعض الجماليات الفنية: فقد رسم لها شعرا اسودا كالليل الحالك بدلا من شعرها المقصّف، ووجها مدورا مضيئا كالبدر بدلا من وجهها الشاحب كالليمونة ، ورموشا جارحة وطويلة ، و عينين كبيرتين سوداوين كحبتي زيتون لامعتين مغمستين بزيت الزيتون تحت ضوء باهر ،بدلا من عينيها الصغيرتين اللتين لا تريان مسافة أبعد من أرنبة انفها، وعنقا شفافا وطويلا كقنينة كريستالية عوضا عن رقبتها المقصوفة ،وأنفا صغيرا كاجاصة الكمثرى اليانعة ، وخدين متوردين كفلقتي رمانة خريفية ، أما الشفتين فقد رسمها صغيرتين ورقيقتين كحبتي كرز مكتنزتين بالحمرة والطراوة ، ثم أعطاها ابتسامة جميلة أرق وأحلى من ابتسامة الموناليزا !
بعد انتهاء الزوج من رسم اللوحة صاح بلهجة كرنفالية :
– الآن سترين المفاجأة ! انظري يا عزيزتي ..انظري إلى هذا الوجه الملائكي الصبوح!
وما إن رمقت الزوجة اللوحة حتى تغيرت كل أسارير وجهها “الملائكي”، بل تحولت إلى لوحة سريالية ريالية –حقيقية ، غير واضحة المعالم والألوان ، تشبه إلى حد كبير هرة متنمرة ابتلت بالماء وذات مخالب جارحة:
فقد انقلبت حبتي الكرز في شفتيها إلى كريات حمراء دموية نازفة، والى تجاعيد كطيات ثوب غير مكوي ، وانقلب وجه البدر الوضاح إلى خسوف شاحب، وأصبحت رموش عينيها خناجر وسكاكين ، أما حبتا الزيتون في عينيها فتحولتا إلى جمرتي فحم لاهبتين تقدحان نظرات مشوية بالشرر والدخان ، ثم صرخت باكية :
– أيها الغدار ، أيها الخائن ! يا ظالم ، أنت لم ترسمني ، بل رسمت لوحة كاريكاتورية !
– لا يا أم بيكسو ، لا يا عزيزتي ، والله هذه أنت ! انظري إلى نفسك في المرآة … انظري وقارني !
لم تتجرأ الزوجة على النظر في المرآة ، فهي لاتصدقها على كل حال !
وبعد أن هدأت الزوجة قليلا وجففت دموعها استدارت إلى زوجها ، وقالت له باستهزاء :
– أنا أم بيكسو ! أنا أجمل بكثير مما رسمته ، أيها الفنان الفاشل !
تأمل أبو بيكسو زوجته لحظة ، كما تأمل لوحته والأصبغة المبعثرة في الأرض، حمل ريشته ، تقدم إلى المرآة ، نظر إلى نفسه في المرآة ، فتراءى له وجه ذلك المتسول العجوز، ثم تمتم بألم شديد :
– أنت تكذبين آيتها المرآة ، فهذا ليس أنا !
– ولكن ياعم ستصبح بطلا لإحدى لوحاتي !
– وكم ستعطيني مقابل هذا العمل !
– سأعطيك اللوحة !
– وهل ستقدم لي هذه اللوحة الخبز واللحم !؟ أرجوك دعني استرزق يابني ..!
– ستصبح مشهورا وسيعرفك كل الناس !
ابتسم المتسول وهو يشعل سيجارته ، استنشق نفسا عميقا ، ثم قال من بين الدخان المتصاعد من شفتيه اليابستين:
-يا بني أنا لست بحاجة إلى قطعة خشبية وألوان لكي تجعلني بطلا ، فالبطل في هذا الزمان من يكسب لقمة خبزه ! ثم أنا معروف في كل شارع وطريق ، ومشهور لدى كل الناس بالتسول ، فالفقر لايصنع من المتسولين أبطالا !
بعد هذه الحادثة عاد إلى البيت كئيبا، فلم يكن يصدق بان متسول عجوز باستطاعته أن يؤثر فيه كل هذا التأثير الروحي ، جلس على كرسي ، واخذ يتذكر و يتأمل كل تفاصيل الدرس ، ذلك الحديث الذي دار بينه وبين المتسول العجوز .
جلست زوجته بقربه ، بعد أن رأته كئيبا ،و قالت له معاتبة :
– أنت ترسم النساء والفتيات العاريات ، ألا تخجل من نفسك ! ثم انك رسمت عشرات الفتيات ولكنك لم ترسم زوجتك ” أم أولادك” و أقرب الناس إلى قلبك !
– معك حق ! سأرسمك ولكن بشرط أن تلزمي الصمت ، وأن لا تنظري إلى اللوحة إلا بعد الانتهاء منها .
احتار الزوج الفنان بأي مذهب فني يرسم زوجته : بالتكعيبية أم بالتنقيطية ، بالانطباعية أم بالسريالية ، فهو يعرف جيدا ذوق زوجته الفني “المعقّد”، التي لا يعجبها المحسوب زوجها رجب ، ولا ابتسامة العمة “جو كندا ” في عجب ! وبعد إلحاح الزوجة المتواصل فقد قرر أن يرسمها بالمذهب “ألرضائي” لكي يرضي خاطر زوجته الشقية، ولكي يتجنب شرها ، ولا سيما إن زوجته لم يهبها الله ذلك الجمال الذي تتمناه كل النساء .
عندما بدأ الفنان بعمله ، لم تستطع الزوجة أن تلتزم بالصمت ، فقد بدأت تثرثر ، تتذمر من الجلوس طويلا،بل إنها كانت تقوم بين الفينة والأخرى بأعمالها المنزلية من شطف وكنس وطبخ وغسيل ، حتى إنها كانت تتابع مسلسلاتها المفضلة في التلفاز ، ناهيك عن دردشتها مع زوجها عن الحب والغرام ، وكذلك بالنق على ريشته وأصباغه” الباهتة الألوان “، حسب رأيها!
أما الزوج ، فكان غارقا في الرسم ، ولم ينقطع عن عمله ، كان برسمها كما يراها هو في خياله عندما كانت تغيب، مضيفا إليها بعض “الرتوش الزائدة” لكي يضفي على اللوحة بعض الجماليات الفنية: فقد رسم لها شعرا اسودا كالليل الحالك بدلا من شعرها المقصّف، ووجها مدورا مضيئا كالبدر بدلا من وجهها الشاحب كالليمونة ، ورموشا جارحة وطويلة ، و عينين كبيرتين سوداوين كحبتي زيتون لامعتين مغمستين بزيت الزيتون تحت ضوء باهر ،بدلا من عينيها الصغيرتين اللتين لا تريان مسافة أبعد من أرنبة انفها، وعنقا شفافا وطويلا كقنينة كريستالية عوضا عن رقبتها المقصوفة ،وأنفا صغيرا كاجاصة الكمثرى اليانعة ، وخدين متوردين كفلقتي رمانة خريفية ، أما الشفتين فقد رسمها صغيرتين ورقيقتين كحبتي كرز مكتنزتين بالحمرة والطراوة ، ثم أعطاها ابتسامة جميلة أرق وأحلى من ابتسامة الموناليزا !
بعد انتهاء الزوج من رسم اللوحة صاح بلهجة كرنفالية :
– الآن سترين المفاجأة ! انظري يا عزيزتي ..انظري إلى هذا الوجه الملائكي الصبوح!
وما إن رمقت الزوجة اللوحة حتى تغيرت كل أسارير وجهها “الملائكي”، بل تحولت إلى لوحة سريالية ريالية –حقيقية ، غير واضحة المعالم والألوان ، تشبه إلى حد كبير هرة متنمرة ابتلت بالماء وذات مخالب جارحة:
فقد انقلبت حبتي الكرز في شفتيها إلى كريات حمراء دموية نازفة، والى تجاعيد كطيات ثوب غير مكوي ، وانقلب وجه البدر الوضاح إلى خسوف شاحب، وأصبحت رموش عينيها خناجر وسكاكين ، أما حبتا الزيتون في عينيها فتحولتا إلى جمرتي فحم لاهبتين تقدحان نظرات مشوية بالشرر والدخان ، ثم صرخت باكية :
– أيها الغدار ، أيها الخائن ! يا ظالم ، أنت لم ترسمني ، بل رسمت لوحة كاريكاتورية !
– لا يا أم بيكسو ، لا يا عزيزتي ، والله هذه أنت ! انظري إلى نفسك في المرآة … انظري وقارني !
لم تتجرأ الزوجة على النظر في المرآة ، فهي لاتصدقها على كل حال !
وبعد أن هدأت الزوجة قليلا وجففت دموعها استدارت إلى زوجها ، وقالت له باستهزاء :
– أنا أم بيكسو ! أنا أجمل بكثير مما رسمته ، أيها الفنان الفاشل !
تأمل أبو بيكسو زوجته لحظة ، كما تأمل لوحته والأصبغة المبعثرة في الأرض، حمل ريشته ، تقدم إلى المرآة ، نظر إلى نفسه في المرآة ، فتراءى له وجه ذلك المتسول العجوز، ثم تمتم بألم شديد :
– أنت تكذبين آيتها المرآة ، فهذا ليس أنا !