فرمان صالح بونجق
للعنتريةِ طقوسُها الخاصة ، وللعنتريةِ نكهتُها المميزة ، وللعنتريةِ مزاجٌ اجتماعي شفّافٌ قلَّما تجده في مكانٍ آخر، ولا يدركُ هذه المزايا إلاّ من عاشَ فيها وأحبَّها وتحسَّس تفاصيلَ حياة سكانها ، والعنترية حيّ من أحياءِ مدينةِ القامشلي ، ولم تكنْ كذلك فيما مضى ، لأنها كانت واحدةً من القرى القريبة من القامشلي ، ولكنها اليومَ ومع التوسع والتمدد العمراني ، أصبحتْ من أهمِّ المناطق ذاتِ النشاطِ الاقتصادي على مستوى المدينةِ ، ولم تستطعْ تعقيداتُ العلاقات الاقتصادية الجديدة أن تمسَّ العلاقات الاجتماعية في جوهرها ، ومن أبرزِ ملامح أهلها أنهم يتميزونَ بروحِ الفكاهةِ والتسامح والتكاتف والتعاضد
للعنتريةِ طقوسُها الخاصة ، وللعنتريةِ نكهتُها المميزة ، وللعنتريةِ مزاجٌ اجتماعي شفّافٌ قلَّما تجده في مكانٍ آخر، ولا يدركُ هذه المزايا إلاّ من عاشَ فيها وأحبَّها وتحسَّس تفاصيلَ حياة سكانها ، والعنترية حيّ من أحياءِ مدينةِ القامشلي ، ولم تكنْ كذلك فيما مضى ، لأنها كانت واحدةً من القرى القريبة من القامشلي ، ولكنها اليومَ ومع التوسع والتمدد العمراني ، أصبحتْ من أهمِّ المناطق ذاتِ النشاطِ الاقتصادي على مستوى المدينةِ ، ولم تستطعْ تعقيداتُ العلاقات الاقتصادية الجديدة أن تمسَّ العلاقات الاجتماعية في جوهرها ، ومن أبرزِ ملامح أهلها أنهم يتميزونَ بروحِ الفكاهةِ والتسامح والتكاتف والتعاضد
وربما كان لطبيعةِ عملهم دورٌ في ترسيخِ هذه الملامح ، فقد كان القسمُ الأعظمُ منهم يعملونَ كمجموعاتٍ في مكتبِ الحبوب صيفاً يحملونَ أكياس القمح والشعير والعدس (عتالين) ، ومن أولى سمات هذه المهنةِ أن يساعد قويُّ البنية ضعيفهم ، وأن يعطف كبير السنِّ على صغيرهم ، وبالتعبير الشعبي فإنهم يحملون بعضهم، أو يرفعونَ بعضهم بعضا ، ولكنهم أي أهلُ العنتريةِ يمضون جلَّ أوقاتهم بتبادل الشتائم البريئةِ ، فهم قومٌ شاتمونَ لا يعلو عليهم عالٍ ، وقاموسُ العنتريةِ الثقافي غني جداً بالشتائم المستنبطة والمبتكرة ، ومع أنَّ جلّ شباب العنترية وبناتها توجهوا صوب التعليم ، وقد تخرجوا ، فمنه المحامي ومنهم المهندس ومنهم المدرس ، وهكذا .. ولكنهم لم يتنازلوا عن عنتريتهم قط !.
وقد يمرُّ أحد المتعلمين (المثقفين) بلباسهِ الأنيقِ وربطةِ عنقهِ المشرقةِ وعطره الفواح على رهطٍ من كبار السنِّ وهم يتسلون ، فيرمي عليهم التحيةَ ، فيردون تحيته بأحسنِ منها : أهلاً..أهلاً أستاذ ، ويتبعونها بشتيمةٍ ، فيسمعها المتأنقُ ويسعدُ بها ويبتسمُ ثم يمضي في طريقهِ. ومِنَ العائلاتِ التي تسكنُ حيَّ العنتريةِ أو قريةَ العنترية : عائلة حاج حميد وعائلة داوود وعائلة هيبت وفرحان و رِهْ زَرْ وهَسَام وصباغ وجتو وكورو وعرفو وتناتي وسليمو وأمينو وحسينو بالإضافة إلى بعضِ العائلاتِ العاموديةِ التي استوطنتْ أطرافَ العنتريةِ ، كعائلة إبراهيم وأولاده مهيد وصلاح وفهد وغيرهم ، وهناك العديد من العائلات التي قَدِمت من منطقة آشيتا كعائلة رشيد وعرنو وغيرهم ولكنهم سرعان ما اندمجوا مع سكان الحيّ .
ومن الشخصيات المميزة في العنترية ، أو على الأقل مَنْ لفتَ انتباهي منهم المرحوم حسين هيبت ، وكان سبعينياً عندما تعرفتُ إليه ولم يكنْ الرجلُ يشتمُ كثيراً ، ولكنه عندما كان يشتم كانت أبدانُ أهلِ العنتريةِ تهتزُّ طرباً ، وكان الرجل يكنُّ لي معزّةً خاصةً ربما لتطابقِ الأسماءِ بيني وبينَ أكبرِ أبنائهِ ، وبطلُ العنترية في كمال الأجسام أمينو والذي لم يكن يشتمه أهل العنترية إلاّ نادراً وفي غيابهِ فقط وهذه الحالة غريبة نوعاً ما وقد حاولت أنْ أفهمَ أسبابها ولكنني فشلتُ ، ومن أبرزِ وجوه العنتريةِ قاطبةً (جلّي) ، وتعني بالعربية الخفاش ، وجلّي هذا وفي صِغَرهِ كانَ يبحث عَّمنْ يشاتِمُه ُفي الليل أكثر مما هو في النهار، وكانَ سيّدُ الشاتمينَ في العنتريةِ ، ولم يكن يوَّفرُ أحداً ، وعلى الغالب كان يرغبُ في مشاتمةِ أهل العنتريةِ في زوجاتِهم ، ولم يكن يشتمُ أمهاتهم قط . وعندما تعرفتُ عليه كان قد بلغ الثلاثين من عمره ، وكان قد امتنعَ عن الشتائم وكَيْلِ السِبابِ ، ولمّا كانَتْ مجموعةٌ من أهل العنتريةِ يعملون في مركز الحبوب في (تل كوجر) ، فقد كان جلّي ـ وهو أعرجٌ آنذاك ـ قد نَصَبَ شبهَ خيمةٍ يبيعُ فيها أكواب الشاي وزجاجات المياه الغازية (الكازوزة) لأبناء حيِّهِ ويعتاشُ منهم ، ولم يكن أحدٌ منهم ليرمي عليهِ السلامَ أبداً ، كصباح الخير مثلاً ، ولكنهم كانوا يرمون عليه الشتيمةَ بدلاً منها ، ولم يكن الرجلُ ليرُدَ على أحدٍ ، ومنذ الساعاتِ الأولى والشتائمُ تنهالُ عليه وحتى الساعاتِ الأخيرةِ من النهارِ ، فأدهشني حالُ الرجل ، وسألتهم : لِمَ تشتمونَ الرجلَ وهو لا يردُّ عليكم ؟. وكان سؤالي من بابِ الشفقةِ على حالهِ ، ولكنهم أجابوني دفعةً واحدةً وكانوا أكثر من عشرين رجلاً : لقد أدّبناهُ .. أليس كذلك ياجلي ؟. فتساءلتُ وسألتُ كيفَ أدبتموهُ ؟.
وبعد جدلٍ فقد فوَّضوا أفصحهم لساناً وأخفهم ظِلاًّ وأكثرهم حفظاً ليخبرني عن الواقعةِ :
وبعد أن كانَ جلّي قد تمرّسَ في شتم زوجاتِ آبائنا وزوجاتِنا وزوجاتِ أهلينا وأقربائنا ، فقد احترنا كيف نردُّ عليهِ ، إلى أن جاءَ اليوم الذي أراد جلّي أن يتزوجَ ، وبطبيعةِ الحال كانَ قد دعا أهلُ القريةِ جميعاً لحضور حفلِ الزفاف ، ولما كان يومُ الخميس أي ليلة الجمعة وهي ليلة الدخلةِ ، فاجتمعنا زهاءَ سبعينَ رجلاً وقررنا الانتقامَ من هذا الـ جلّي مشيراً بأصبعه إلى الرجل ، ولمّا بلغنا مكان الفرحِ ، استقبَلَنا والده ورحبَّ بنا ترحيباَ حارّاً وقدْ بَدَتْ على محياه علاماتُ السرورِ والسعادةِ والفرحِ ، وأشارَ إلينا أن نتفضَّل بالجلوسِ في المكان المخصصِ للرجال ، ولكننا قاطعناهُ قائلين : أين العروس ؟. فاستغربَ الرجلُ مما أبديناهُ ، ولكننا صمَّمْنا على أنْ يدلّنا أحدٌ على مكانِ العروسِ ، ولمّا رأى الرجلُ ما رآه منّـا ، فقد سألنا : وما الذي تريدونه من العروس وأنتم زهاء سبعينَ رجلٍ ؟؟. فأجبناهُ دفعةً واحدةً : لقد جئنا لنأخذَ بثأرنا من ابنك جلّي ، فهو لم يترك لنا زوجةً إلاّ وشتمها ، واليوم جاء دورنا ، ولكن أين هي العروس ؟. سنثارُ لأنفسنا ولزوجاتنا دفعةً واحدةً . فما كان من الرجلِ إلاّ أن طأطأ رأسه وأدارَ ظهره ومضى مكسورَ الخواطرِ، لكنه أشارَ إلى جلّي أن يأتي ليعرفَ ما نريد ، ولما أدركَ لِما نحنُ قادمونَ ، تغيَّرتْ حاله من حالٍ إلى حالٍ ، لأنه أدرك حجمَ الورطةِ التي وجدَ نفسه فيها ، فانهال يُقبِّلُ الأياديَّ والأرجلَ ، وحصلنا منه على وعدٍ قاطعٍ بألاّ يشتمَ أحداً من أهلِ العنتريةِ بعد الآن ، ووعدنا وهو لا يزالُ متمسكاً بوعدهِ خوفاً من نعيدَ الكرَّةَ ، وهذه المرة قد نفعلها . أليسَ كذلكَ يا جلّي ؟. وبينما كان جلّي يُشْغِلُ نفسه بتحضيرِ أكوابِ الشاي ، كانتْ الشتائمُ تنهالُ عليهِ من الحاضرين ، والمحيّرُ في الأمر أنه كان يبتسم …
وقد يمرُّ أحد المتعلمين (المثقفين) بلباسهِ الأنيقِ وربطةِ عنقهِ المشرقةِ وعطره الفواح على رهطٍ من كبار السنِّ وهم يتسلون ، فيرمي عليهم التحيةَ ، فيردون تحيته بأحسنِ منها : أهلاً..أهلاً أستاذ ، ويتبعونها بشتيمةٍ ، فيسمعها المتأنقُ ويسعدُ بها ويبتسمُ ثم يمضي في طريقهِ. ومِنَ العائلاتِ التي تسكنُ حيَّ العنتريةِ أو قريةَ العنترية : عائلة حاج حميد وعائلة داوود وعائلة هيبت وفرحان و رِهْ زَرْ وهَسَام وصباغ وجتو وكورو وعرفو وتناتي وسليمو وأمينو وحسينو بالإضافة إلى بعضِ العائلاتِ العاموديةِ التي استوطنتْ أطرافَ العنتريةِ ، كعائلة إبراهيم وأولاده مهيد وصلاح وفهد وغيرهم ، وهناك العديد من العائلات التي قَدِمت من منطقة آشيتا كعائلة رشيد وعرنو وغيرهم ولكنهم سرعان ما اندمجوا مع سكان الحيّ .
ومن الشخصيات المميزة في العنترية ، أو على الأقل مَنْ لفتَ انتباهي منهم المرحوم حسين هيبت ، وكان سبعينياً عندما تعرفتُ إليه ولم يكنْ الرجلُ يشتمُ كثيراً ، ولكنه عندما كان يشتم كانت أبدانُ أهلِ العنتريةِ تهتزُّ طرباً ، وكان الرجل يكنُّ لي معزّةً خاصةً ربما لتطابقِ الأسماءِ بيني وبينَ أكبرِ أبنائهِ ، وبطلُ العنترية في كمال الأجسام أمينو والذي لم يكن يشتمه أهل العنترية إلاّ نادراً وفي غيابهِ فقط وهذه الحالة غريبة نوعاً ما وقد حاولت أنْ أفهمَ أسبابها ولكنني فشلتُ ، ومن أبرزِ وجوه العنتريةِ قاطبةً (جلّي) ، وتعني بالعربية الخفاش ، وجلّي هذا وفي صِغَرهِ كانَ يبحث عَّمنْ يشاتِمُه ُفي الليل أكثر مما هو في النهار، وكانَ سيّدُ الشاتمينَ في العنتريةِ ، ولم يكن يوَّفرُ أحداً ، وعلى الغالب كان يرغبُ في مشاتمةِ أهل العنتريةِ في زوجاتِهم ، ولم يكن يشتمُ أمهاتهم قط . وعندما تعرفتُ عليه كان قد بلغ الثلاثين من عمره ، وكان قد امتنعَ عن الشتائم وكَيْلِ السِبابِ ، ولمّا كانَتْ مجموعةٌ من أهل العنتريةِ يعملون في مركز الحبوب في (تل كوجر) ، فقد كان جلّي ـ وهو أعرجٌ آنذاك ـ قد نَصَبَ شبهَ خيمةٍ يبيعُ فيها أكواب الشاي وزجاجات المياه الغازية (الكازوزة) لأبناء حيِّهِ ويعتاشُ منهم ، ولم يكن أحدٌ منهم ليرمي عليهِ السلامَ أبداً ، كصباح الخير مثلاً ، ولكنهم كانوا يرمون عليه الشتيمةَ بدلاً منها ، ولم يكن الرجلُ ليرُدَ على أحدٍ ، ومنذ الساعاتِ الأولى والشتائمُ تنهالُ عليه وحتى الساعاتِ الأخيرةِ من النهارِ ، فأدهشني حالُ الرجل ، وسألتهم : لِمَ تشتمونَ الرجلَ وهو لا يردُّ عليكم ؟. وكان سؤالي من بابِ الشفقةِ على حالهِ ، ولكنهم أجابوني دفعةً واحدةً وكانوا أكثر من عشرين رجلاً : لقد أدّبناهُ .. أليس كذلك ياجلي ؟. فتساءلتُ وسألتُ كيفَ أدبتموهُ ؟.
وبعد جدلٍ فقد فوَّضوا أفصحهم لساناً وأخفهم ظِلاًّ وأكثرهم حفظاً ليخبرني عن الواقعةِ :
وبعد أن كانَ جلّي قد تمرّسَ في شتم زوجاتِ آبائنا وزوجاتِنا وزوجاتِ أهلينا وأقربائنا ، فقد احترنا كيف نردُّ عليهِ ، إلى أن جاءَ اليوم الذي أراد جلّي أن يتزوجَ ، وبطبيعةِ الحال كانَ قد دعا أهلُ القريةِ جميعاً لحضور حفلِ الزفاف ، ولما كان يومُ الخميس أي ليلة الجمعة وهي ليلة الدخلةِ ، فاجتمعنا زهاءَ سبعينَ رجلاً وقررنا الانتقامَ من هذا الـ جلّي مشيراً بأصبعه إلى الرجل ، ولمّا بلغنا مكان الفرحِ ، استقبَلَنا والده ورحبَّ بنا ترحيباَ حارّاً وقدْ بَدَتْ على محياه علاماتُ السرورِ والسعادةِ والفرحِ ، وأشارَ إلينا أن نتفضَّل بالجلوسِ في المكان المخصصِ للرجال ، ولكننا قاطعناهُ قائلين : أين العروس ؟. فاستغربَ الرجلُ مما أبديناهُ ، ولكننا صمَّمْنا على أنْ يدلّنا أحدٌ على مكانِ العروسِ ، ولمّا رأى الرجلُ ما رآه منّـا ، فقد سألنا : وما الذي تريدونه من العروس وأنتم زهاء سبعينَ رجلٍ ؟؟. فأجبناهُ دفعةً واحدةً : لقد جئنا لنأخذَ بثأرنا من ابنك جلّي ، فهو لم يترك لنا زوجةً إلاّ وشتمها ، واليوم جاء دورنا ، ولكن أين هي العروس ؟. سنثارُ لأنفسنا ولزوجاتنا دفعةً واحدةً . فما كان من الرجلِ إلاّ أن طأطأ رأسه وأدارَ ظهره ومضى مكسورَ الخواطرِ، لكنه أشارَ إلى جلّي أن يأتي ليعرفَ ما نريد ، ولما أدركَ لِما نحنُ قادمونَ ، تغيَّرتْ حاله من حالٍ إلى حالٍ ، لأنه أدرك حجمَ الورطةِ التي وجدَ نفسه فيها ، فانهال يُقبِّلُ الأياديَّ والأرجلَ ، وحصلنا منه على وعدٍ قاطعٍ بألاّ يشتمَ أحداً من أهلِ العنتريةِ بعد الآن ، ووعدنا وهو لا يزالُ متمسكاً بوعدهِ خوفاً من نعيدَ الكرَّةَ ، وهذه المرة قد نفعلها . أليسَ كذلكَ يا جلّي ؟. وبينما كان جلّي يُشْغِلُ نفسه بتحضيرِ أكوابِ الشاي ، كانتْ الشتائمُ تنهالُ عليهِ من الحاضرين ، والمحيّرُ في الأمر أنه كان يبتسم …
وفي الأحاديثِ الجانبيةِ بيني وبينَ البعضِ من أصدقائي من أهلِ العنتريةِ ، أسرّوا لي بأنهم مغتاظون من هذا الرجلِ الذي لا تحرِّك له الشتائم ساكناً ، فلابدَّ من سِرٍٍ يخبئه ، وهذا دفعني إلى مناورةٍ ومحاورةٍ ومداورةٍ مع جلّي لأستبينَ منه ذلكَ السرَّ الدفينَ ، وبعدَ شهرين ونيِّف ، انفجرَ جلّي قائلاً : بحسبِ خبرتي الطويلة في الشتيمةِ والمشاتمةِ أدركتُ أنَّ الشتيمةّ تلفُّ وتدووورُ وتعود على صاحبها. (يا خبيث يا جلّي).