رحيل العظماء والمعطاءين ليس كرحيل غيرهم من الناس ، فهم يتركون وراءهم نتاجهم السخي ، فتُخلّد أسماؤهم ويُكتَب تاريخهم بأحرفٍ من ذهب، والأدب العربي الحديث يزخر بأسماء العديد من المبدعين ، الذين كانوا بلا شك عاملاً أساسياً من عوامل تميزه وتطوره خلال تاريخه الطويل.
تميز الراحل إلى جانب كونه شاعراً ، بفصاحته ، وبراعته في الخطابة ،فقد كان خطيباً جيداً ، يؤثر في وجدان البسطاء والمثقفين ، حين كان يلقي الشعر في المهرجانات ،والمناسبات الأدبية والقومية في معظم عواصم الدول العربية وخارجها .
كانت حياة الراحل مليئة بالأحداث ، وقد عاصر معظم الانتكاسات والحروب خلال نصف القرن المنصرم ،فقد ولد في عام 1941 في قرية (البروة)، التي دمرت كليّاً فيما بعد، وفي عام 1948 نزح مع من نزح إلى لبنان ،لكنه عاد إلى فلسطين بعد عامٍ واحد، ودرس هناك حتى حصل على الثانوية العامة.
انتسب الشاعر محمود درويش إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي، وشغل عضوية اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينيّة لدورتين متتاليتين ؛ لكنه استقال منها بعد بدء مفاوضات أوسلو 1993 ، لكنه ظلّ قريباً من الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات .
أمضى الشاعر حياته متنقلاً بين فلسطين ولبنان وباريس وعمان وموسكو ، ومدن أخرى في العالم .
أصدر مجموعته الشعرية الأولى عام 1960
وله عدد كبير من المجموعات الشعرية أذكر منها :
عصافير بلا أجنحة .
أوراق الزيتون .
عاشق من فلسطين .
آخر الليل .
مطر ناعم في خريف بعيد .
يوميات جرح فلسطيني .
حبيبتي تنهض من نومها .
محاولة رقم 7 .
احبك أو لا احبك .
مديح الظل العالي .
هي أغنية … هي أغنية .
لا تعتذر عما فعلت .
عرائس. .
حصار لمدائح البحر .
شيء عن الوطن .
وبالإضافة إلى الشعر ، فقد كتب القصة والخاطرة والمقالة .
شغل منصب رئيس رابطة الكتّاب والصحفيين الفلسطينيين .
كتب في عدد من الصحف والمجلات مثل : الاتحاد والجديد والكرمل .
حاز على عدد كبير من الجوائز ، أذكر منها :
جائزة لوتس عام 1969.
جائزة البحر المتوسط عام 1980.
درع الثورة الفلسطينية عام 1981.
لوحة أوروبا للشعر عام 1981.
جائزة ابن سينا في الاتحاد السوفيتي عام 1982.
جائزة لينين في الاتحاد السوفييتي عام 1983.
لم يكتب الشاعر محمود درويش عن معاناة شعبه الفلسطيني فحسب ؛لكنه كتب عن شعوب أخرى كانت تجترع كؤوس المرارة أسوةً بالشعب الفلسطيني .
ففي عام 1963 م وحين شنّّ الجيش العراقي وبقرار من حزب البعث حربه ضد الكرد ؛كتب الشاعر محمود درويش قصيدة ( معكم ) ، ندد فيها بالعدوان الظالم على الشعب الكردي في العراق ، قال فيها:
يا شهرزاد الليل يفترس الصباح
وحقول كردستان موسمها جراح
الحبُّ ممنوع وهمس الجار … لاشئ مباح
إلاّ دم الأكراد … نفط الموقدين
مصباح عارهم بموت الآخرين
يا شهرزاد
صدئت أساطير البطولة في لياليك الملاح
والذكريات البيض والمهر الذي ركب الرياح
والحبُّ والأمجاد والسيف الذي ملّ الكفاح
عارٌ على بغداد ما فيها مباح إلا دم الأكراد في المذياع صحف الصباح
حبر الجرائد في مدينتنا دمٌٌ
إنّا أبدناهم وتعتزّ الذئاب وتبسم
إنّا زرعنا أرض كردستان لحداً عارياً من فوق لحد
إنّا زرعناها جماجم لا تعد
يا شهرزاد
الليل يفترس الصباح والحبُّ ممنوع ومخدعك الوثير
ملقى على أقدام سيدك الحقير
ودماء كردستان تغرق سافحيها
واللاعب المأمون بالثيران سوف يموت فيها
يا شهرزاد
ما مات إلا الموقدون
مصباح ليلهم بزيت الآخرين
وإلى اللقاء مع العصور القادمة
في قصة العصر الذي
صنعته كفُّ الثائرين
ورفض الشاعر المتاجرة بالعروبة ، وصمت العرب إزاء الظلم الذي يتعرض له إخوتهم الكرد ؛ فكتب قصيدة ( تحيا العروبة ) التي يقول فيها :
هل خرّ مهدك يا صلاح الدين
هل هوت البيارق
هل صار سيفك … صار مارق
في أرض كردستان حيث الرعب يسهر والحرائق
الموت للعمال إن قالوا ” لنا نحن العذاب “
الموت للزراع إن قالوا ” لنا نور الكتاب “
الموت للأكراد إن قالوا ” لنا حقُّ التنفس والحياة “
ونقول بعد الآن فلتحيا العروبة
مرّي إذاً في أرض كردستان مرّي يا عروبة
هذا حصاد الصيف هل تبصرين
لن تبصري إن كنت من ثقب المدافع تنظرين
يا أمتي هجمت على تاريخك الإنسان أشباه الرجال
باسم العروبة يستباح الدمُّ تحكمك النعال
بعثت لمزبلة الزمان أخسّ ما عرف الزمان من الرفاة
باسم العروبة يطعن التاريخ في شطيان دجلة والفرات
يا أمتي لم يكفنا إنا براء
منهم ومن طابورهم لم يكفنا إنا براء
القِِي لمزبلة الزمان أخسّ ما عرف الزمان
القي عروك يا عروبة
لنقول بعد الآن فلتحيا العروبة
لا على الموت
فلتحيا العروبة
وفي قصيدة (كردستان)، بيّن الشاعر التلازم والترابط الوثيق بين قضايا الشعوب المُضطَهدة ؛ كما أوضح مساندة الشعب الفلسطيني للشعب الكردي، ومشاركته في محنته قائلاً :
معكم قلوب الناس لولا طارت قذائف في الجبال
معكم عيون الناس فوق الشوك تمشي لا تبال
معكم عبيد الأرض من خضر المحيط إلى الشمال
معكم أنا معكم أبي وأمي و زيتوني وعطر البرتقال
معكم عواطفنا قصائدنا جنود في القتال
يا حارسين الشمس من أصفاد أشباه الرجال
ما فرقت الريح إنّ نضال أمتكم نضالي
إن خرّ منكم فارسُ شدت على عنقي حبالي
رحل محمود درويش وبقيت كلماته، وصدى صرخاته، وأنين أوجاعه .
مضى غير آبهٍ للموت، يتحداه بعنفوان الأبطال ، وكيف له أن يخاف وهو من تحدى الموت مراراً ؛ دفاعاً عن قضيته .
غادر دنياه وأخذ معه أحلامه الجميلة ، دون اعتذار هذه المرة .
اخذ معه الزيتون ، ورائحة اللوز ، وسلة تينٍ كبيرة، ولحظات الانتظار.
ترجلّ فارس الشعر النبيل عن صهوة جواده، بكل عنفوان الرجال، فاستحق لقب العظيم .
تحية عطرة إلى روحك الطاهرة ،وعزاؤنا فيما تركت لنا من نتاج سيخلد عبر الزمن .
افتقدك شعبك الفلسطيني ، لأنك كنت ضميرهم الحيّ في كلّ مكان.
وافتقدك العرب ، لأنك كنت المدافع عن العروبة بغير تزلف أو عنجهية .
وافتقدك الكرد أيضاً ، لأنك وقفت معهم يوماً وقفة شجعان .