عدنان بوزان*
بدأتَ بالرحيل وأنهيتَ بالرحيل الكبير … كم كنتَ وفياً للرحيل يا صديقي … رحلتَ ومازال الخنجر الذهبي يتراقص في قلب مدينتك الجريحة … بدأتَ بخبز أمكَ الذي يفوح منه رائحة الحزن … رائحة كل قطرة من دم شهداء الحرية , شهداء الإنسانية … رائحة البرتقال والليمون … رائحة سنبلة حمراء عندما تملئ الوديان … رائحة زيتونة تقاوم دبابة الغدر يا محمود … بدأتَ بالحب … الوطن الحر … الاستقلال للماء والشجر …
بدأتَ بالرحيل وأنهيتَ بالرحيل الكبير … كم كنتَ وفياً للرحيل يا صديقي … رحلتَ ومازال الخنجر الذهبي يتراقص في قلب مدينتك الجريحة … بدأتَ بخبز أمكَ الذي يفوح منه رائحة الحزن … رائحة كل قطرة من دم شهداء الحرية , شهداء الإنسانية … رائحة البرتقال والليمون … رائحة سنبلة حمراء عندما تملئ الوديان … رائحة زيتونة تقاوم دبابة الغدر يا محمود … بدأتَ بالحب … الوطن الحر … الاستقلال للماء والشجر …
كما يطالبه غيرك من المضطهدين والمشردين من بيتهم وأرض أجدادهم … في هذا العالم الواسع … وأنهيت بالأمل الذي تضيق عليها الدروب … بدأتَ بالكلمات والسطور … الحروف والقصيدة … القلم والقنبلة … الفكر والإبداع … عبر قطار الزمن العابر يا عزيزي … بدأت بالعشق للغة الشعور لا تفرق بين لون وجنس… ولا تفرق بين الدين والمذاهب … ولا بين قومية وقومية أخرى … ولم تنسى اسم كردستان ونضال شعبها وجبالها الشاهقة عبر قصائدك الثورية … رغم هذا لم ينتظرك أحدٌ .. من شهداء حلبجة وأطفال الحجارة .. ولا محمد الدرة ومحمدات نوروز … ولا مظلوم وزويا تركعا لهما الأصفاد … بدأت بحزن الصيف الأصفر … وترهات السفر … الأصفاد والاعتقالات … وأنهيت بخفقان قلبك الكبير يا محمود !!
يا لهذا الصيف , كم كانت رياحه محرقة وقاسية علِّي , ثقيلة على قلوب محبيك , فقد حملت في هباتها واحداً من أعزائنا الذين كانوا يسخرون من الموت في كل لحظة … فمسيرة الشعر لن تتوقف … ولكم وعلينا أن نشعر بالألم ومرارة الفقدان … فأنت الإنسان الصلب يا محمود … ورقيق المشاعر … والمخلص لقناعاتك حتى الرمق الأخير … رحلتَ بصمت ودون مقدمات .. رحلتَ وبريق عينيك مليء بالحزن والأمل … كما رحل الكثيرون .. من عظماء التاريخ من الأكراد وجميع القوميات .. وكما قال شاعرنا العظيم بابلو نيرودا : ” قد يقتلون الأزهار كلها , لكنهم لن يمنعوا الربيع من المجيء “ …
كثيرة هي المرات التي شاركت بجنازات , ونادراً ما ألقيت رثائياتي … رغم ذلك , لم أستطع تفسير رغبتي بتقديم كلمة رثاء , إلا نوعاً من الحب الدفين , أكنَّه لشخصك النبيل يا محمود ! …
آه يا صديقي لو تعرف كيف تلقيت نبأ رحيلك !
في يوم 9 / 8 / 2008 عندما بثت القنوات التلفزيونية عن نبأ رحيل شاعر الحرية الكبير , وبصوت متهدّج مكسور: محمود درويش …!
لك أن تتخيل يا صديقي حالتي آنذاك ! خبرٌ بمثل هذا الحجم من الفجيعة .. وأعصابي ودمي تجمد في عروقي … لقد كنتُ كعاشق يتذكر حبيبته وهو يراقب عصفوراً شقياً يداعب أنثاه ويطاردها بمرح , فيلتفت إلى الجهة الأخرى باسماً منشرحاً , فتصطدم عيناه بمنظر طفل رضيع يذبح !!
لم أصدق ما سمعت وعدتُ إلى تفكيري من جديد معتبراً أن الخبر الذي سمعته مجرد كابوس يقظة … من كثرة الفجيعة ! فقد اختلطت علّي الأمور وعشت حالة من انعدام الوعي وكأنني في اللا مكان واللا زمان . لدرجة أحسست بالاختناق , بالتمزق …
فهذا مكتوب على الكتّاب والسياسيين في هذا الشرق البائس , مكتوب علينا الموت إما بالسرطان أو الأزمات القلبية أو الدماغية .. أو ..
نعم يا محمود ! هذا هو قدر المناضلين والمبدعين الشرفاء أمثالك ..
في ذلك اليوم حاولت أن أخفف من حزني وعذابي لفقدانك .. مشيتُ بين الجبال والوديان , وعبرتُ السواقي والوهاد حتى تمزقت ثيابي من الحراج الشوكية .. ومع ذلك لم يفارقني طيفك الغالي …
كنت أمني النفس بهذا المسير الشاق , مساعدتي على ألاّ تشرئبّ صواري الحزن في داخلي .. ألاّ تفوح مساماتُ قلبي برائحة الردى والغضب السقيم .. والنتيجة كانت أن بقبقت قدماي ونزّ الدم منهما .. لتذكرني بحالتي عندما استضافتني الحكومة في أحد أقبيتها الرهيبة , بغية (تأديبي وإعادتي إلى رشدي ..) فازداد الألم على ألم ..
يا لخجلنا كمثقفين منك يا محمود ! بأن لا تكتب كل صحيفة على رحيلك الكبير ..
ليتني ما أحببتك يا محمود ! ولا تعرفت إلى قصائدك التي تشير إلى الروح الإنسانية والحرية ..
أيها الكتاب والمثقفين ! .. أيها الأدباء والمبدعين !
بعض الشعوب تعتقد بأن الروح تبقى سابحة في الفضاء إلى أن تلتقي مع من تحبّ , وإلى أن تلتقي يا محمود ! … هل التقيت صلاح الدين .. وحامد بدرخان .. وملاي الجزيري .. وشهداء الحرية .. لك مني ومن كل محبيك , كل التحية والوفاء والمحبة . وأقول لك :
أيها الحبيب ! رغم إقراري الصريح بثخن الجراح وعوسجة المدى , إلا أن الحياة كما الطبيعة لا تتزين بلون واحد .
أيها النبيل الخالد لك الوفاء وقلبي يرتل صفير الحزن صيفاً ويقطر دماً صافياً فوق شظايا الصبح الهالك وفوق الربا تتجمع ثرى روحي لأهديك عبر الأثير قبلة الوداع الأخير أيها الثائر الأحمر
* كاتب وشاعر كردي سوري
Bave-araz@hotmail.com
يا لهذا الصيف , كم كانت رياحه محرقة وقاسية علِّي , ثقيلة على قلوب محبيك , فقد حملت في هباتها واحداً من أعزائنا الذين كانوا يسخرون من الموت في كل لحظة … فمسيرة الشعر لن تتوقف … ولكم وعلينا أن نشعر بالألم ومرارة الفقدان … فأنت الإنسان الصلب يا محمود … ورقيق المشاعر … والمخلص لقناعاتك حتى الرمق الأخير … رحلتَ بصمت ودون مقدمات .. رحلتَ وبريق عينيك مليء بالحزن والأمل … كما رحل الكثيرون .. من عظماء التاريخ من الأكراد وجميع القوميات .. وكما قال شاعرنا العظيم بابلو نيرودا : ” قد يقتلون الأزهار كلها , لكنهم لن يمنعوا الربيع من المجيء “ …
كثيرة هي المرات التي شاركت بجنازات , ونادراً ما ألقيت رثائياتي … رغم ذلك , لم أستطع تفسير رغبتي بتقديم كلمة رثاء , إلا نوعاً من الحب الدفين , أكنَّه لشخصك النبيل يا محمود ! …
آه يا صديقي لو تعرف كيف تلقيت نبأ رحيلك !
في يوم 9 / 8 / 2008 عندما بثت القنوات التلفزيونية عن نبأ رحيل شاعر الحرية الكبير , وبصوت متهدّج مكسور: محمود درويش …!
لك أن تتخيل يا صديقي حالتي آنذاك ! خبرٌ بمثل هذا الحجم من الفجيعة .. وأعصابي ودمي تجمد في عروقي … لقد كنتُ كعاشق يتذكر حبيبته وهو يراقب عصفوراً شقياً يداعب أنثاه ويطاردها بمرح , فيلتفت إلى الجهة الأخرى باسماً منشرحاً , فتصطدم عيناه بمنظر طفل رضيع يذبح !!
لم أصدق ما سمعت وعدتُ إلى تفكيري من جديد معتبراً أن الخبر الذي سمعته مجرد كابوس يقظة … من كثرة الفجيعة ! فقد اختلطت علّي الأمور وعشت حالة من انعدام الوعي وكأنني في اللا مكان واللا زمان . لدرجة أحسست بالاختناق , بالتمزق …
فهذا مكتوب على الكتّاب والسياسيين في هذا الشرق البائس , مكتوب علينا الموت إما بالسرطان أو الأزمات القلبية أو الدماغية .. أو ..
نعم يا محمود ! هذا هو قدر المناضلين والمبدعين الشرفاء أمثالك ..
في ذلك اليوم حاولت أن أخفف من حزني وعذابي لفقدانك .. مشيتُ بين الجبال والوديان , وعبرتُ السواقي والوهاد حتى تمزقت ثيابي من الحراج الشوكية .. ومع ذلك لم يفارقني طيفك الغالي …
كنت أمني النفس بهذا المسير الشاق , مساعدتي على ألاّ تشرئبّ صواري الحزن في داخلي .. ألاّ تفوح مساماتُ قلبي برائحة الردى والغضب السقيم .. والنتيجة كانت أن بقبقت قدماي ونزّ الدم منهما .. لتذكرني بحالتي عندما استضافتني الحكومة في أحد أقبيتها الرهيبة , بغية (تأديبي وإعادتي إلى رشدي ..) فازداد الألم على ألم ..
يا لخجلنا كمثقفين منك يا محمود ! بأن لا تكتب كل صحيفة على رحيلك الكبير ..
ليتني ما أحببتك يا محمود ! ولا تعرفت إلى قصائدك التي تشير إلى الروح الإنسانية والحرية ..
أيها الكتاب والمثقفين ! .. أيها الأدباء والمبدعين !
بعض الشعوب تعتقد بأن الروح تبقى سابحة في الفضاء إلى أن تلتقي مع من تحبّ , وإلى أن تلتقي يا محمود ! … هل التقيت صلاح الدين .. وحامد بدرخان .. وملاي الجزيري .. وشهداء الحرية .. لك مني ومن كل محبيك , كل التحية والوفاء والمحبة . وأقول لك :
أيها الحبيب ! رغم إقراري الصريح بثخن الجراح وعوسجة المدى , إلا أن الحياة كما الطبيعة لا تتزين بلون واحد .
أيها النبيل الخالد لك الوفاء وقلبي يرتل صفير الحزن صيفاً ويقطر دماً صافياً فوق شظايا الصبح الهالك وفوق الربا تتجمع ثرى روحي لأهديك عبر الأثير قبلة الوداع الأخير أيها الثائر الأحمر
* كاتب وشاعر كردي سوري
Bave-araz@hotmail.com