بدرخان علي
ـ 1 ـ
حين أتانا محمود درويش إلى الجامعة لإحياء أمسية شعرية، كانت جماهير طالبية، وسواها، غفيرة قد احتشدتْ خارج وداخل المدرّج الضّاج بالحضور من شرائح وأجيالٍ مختلفة. وكان الفضول إلى لقاء الشاعر الفلسطينيّ الشهير بادياً على الجميع. وإنْ كان الشّطر الأعظَم منّا لم يقرأ له سوى بضع قصائد في الكتب المدرسيّة أو ـ على الأرجح ـ حَفِظ تلك القصائد التي غنّاها الفنان مارسيل خليفة الذي أضفى عليها، هو الآخر، حُزناً على شَجَن و ألَماً على ألم.
وبدا لَنَا درويشٌ الشّاعر الرّقيق على هيئة جادّة وبالغة الصرامة في تلك الأمسية التي أحياها بجامعة حلب في بحر عام 2000م على ما أذكر، مُلقياً مُنتخبَاتٍ من شعره القديم وبعض الجديد. تلك التي تعكس مسيرته الشعرية الممتدّة على سيرة شخصيّة ووطنيّة وأدبيّة حافلة بالتحوّلات والمنعطفات الجمّة. نظراته من وراء النظّارة وحَمْلقته أوحَت لنا برجلٍ قاسٍ وجَسور خلاف توقعاتنا. إيماءاتُ يديه وأنامله أثناء إنشاد شعره، أشارت بنا إلى أنّ ثمة شيئاً ما ضاعَ منه ويريد منّا أن نطارده ونلاحقه إلى مكانٍ بعيد، قد يكون في انتهاء الأفق. لكنْ هيهات.
وبينما الشاعر يلقي قصائده بصوته الجهوريّ المازج للرّخامة في الوقت ذاته، ظَننّا أن كمنجاتٍ (وهي عنوان إحدى القصائد التي ألقاها على أسماعنا فاستمرّ وقعها حتى آخر اللقاء) مخبّأة في مكانٍ ما تعزف له خلفية للمشهد الشعريّ المتألّق بامتزاج صوته الأنيق وقامته المهيبة والمنتصبة في الفضاء الشعريّ الطّافح بالإنسانيّة والحبّ الذي أشاعه “اللازورد” (من قصيدة أخرى له) في الصالة المغلقة والمكتظّة.
ـ 2 ـ
ومحمود درويش، في مسيرة العقود التي أمضاها في الشعر والأدب والسياسة، نموذجٌ فذّ لـ “المثقّف العضويّ” الذي أراده إدوارد سعيد للمثقف من بعد “غرامشي”. صحيحٌ أن انخراطه المباشر في السياسة، فضلاً عن نشأته تحت احتلالٍ غاشم اقتلع قريته “البروة” وشرّد أهلها، إلى جانب تجربته الغضّة، قد ألحق بعض الضرر في شعريته ابتداء مشواره الكتابيّ. لكنه سوف يستدرك الأمر فيما بعد ليحلّق بشعره إلى مصاف أدبٍ إنسانيّ راقٍ لا يتوقف عند حدود “شعر المقاومة” في صورته التبسيطيّة والحماسيّة وحسب التي ستكون السبب في إسقاط شاعرنا مجموعته الأولى “عصافير بلا أجنحة” من أعماله الشعرية لاحقاً. غير أنه يبقى وفيّاً وأميناً لحقيقته البسيطة فهو لم يكتب شعراً من أجل الشعر يوماً ما. ولا هو بقادر على تدبيج الأناشيد الحماسيّة بنفس الوقت. فكانَ مزيجاً من طيّبات كثيرة لا فكاكَ منها ولا غنى عنها.
فـ”صنعةُ الشعر” ظلّت عنده بلا رتوش أو افتعالات أو نظريات شعرية في ذروة نضجه الأدبيّ. وحتّى في رؤاه النقدية القليلة المبثوثة في حواراته ليس لديه ذاك الميل إلى الاتّكاء على قوالب جاهزة في الكتابة والقراءة. إنه هكذا إنسان طبيعيّ إلى الحدّ الأقصى،إنّما ليس لحدّ الاستسهال الأدبيّ و التبسيط الجماليّ بالتأكيد.
ـ 3 ـ
غير أن لشخصية محمود درويش وجهٌ أدبيّ وثقافيّ لا يقلّ أهميّة عن شعره ووثيق الصلة به. فقد كان الراحل مسكوناً، على ما تبدي مقالاته ونصوصه الشعرية والنثرية المتأخّرة بالخاصّة ومحاوراته وافتتاحياته في مجلة “الكرمل” التي أسّسها ورافَق ترحالها، مَسكوناً بقلق الهويّة والاستلاب والذاكرة والتاريخ والمكان والمنفى إلى حدّ الكينونة. هذا المركّب سيكوّن مصدراً ثريّاً لرؤيته الشعريّة ومنظوره الثقافيّ العام .بل الخلفية الأكثر حضوراً في شعره. وهو المركّب ذاته الذي أَلَهَبَ مُخيّلة مواطنه الآخر “إدوارد سعيد” المفكّر الفلسطينيّ الأمريكيّ المعروف. ليندرج الانتماء إلى القضية الفلسطينية، لدى كليهما، في إطارٍ رحب من رابطةٍ كونيّة جامعة ليستمدّا من هذا الانتماء الفسيح بعض عناصر الحساسية الفنيّة والأدبيّة والجماليّة فضلاً عن التصاق الذاكرة الجريحة و المهشّمة بجذور راسخة في الأرض والمكان والإنسان. كأنّ المرء أياً كانت “قضيته المركزية” لا بدّ وأن يستعين في النظر إليها بمنظارٍ شموليّ وأوسع، ويتحرّر من إسَارِها وشِبَاكها وإنْ لقليل من الوقت، كي يكتشف تجادُلها الدّائم مع قضايا التحرر والإنسانية بعامّة. وتراهُ، وهو الكاره للاحتلال وسياساته البغيضة، متحفّظاً على سياسات سَلَكتها تنظيمات فلسطينية في الأعوام الأخيرة من منطلق ما يسمّيه بضرورة “التفوّق الأخلاقيّ للضحيّة” الواجب واللازم بنظره. تفوّق الفلسطينيّ الرّازح تحت الاحتلال على الإسرائيليّ المحتلّ. وإلّا فإنّ علّةً خطيرة تَكْمنُ في الدعوى السياسة.
وفي هذا السياق، تجدُر الإشارة إلى موقفه الإنسانيّ المُرهف من القضية الكردية وأحوال الكرد. بل وتشنيعه لطرازٍ مرعبٍ من العروبة. تلك التي مرّت بأرض كردستان العراق، عروبة المجازر وسَفْك الدّماء والطّعن بالتاريخ كما وصفها درويش في قصيدته “تحيا العروبة”.
ـ 4 ـ
الآن.حانَ الوقتُ لنومٍ مُستقطع من هذا الزمن الطويل والكئيب.
لا تقُل كلاماً صاخباً في الموت ولا تُنشد له.فقد التهم الموت حياتك مراراً.
والموتُ آتٍ بلا استئذان. لا ترحّب به كثيراً.لا تحسبه مضيافاً.ولا تكن مضيافاً أنت.
أتركه وشأنه. فقد هَزَمْته في حياتك مراراً.
لكَ أن تُحلّق حول أشجار اللّوز و الليمون.
أأنتَ عاجزٌ عن الحِراك واللّعب؟
أم لا أشجار باقية على قيد الحياة؟
راقدٌ أنت الآن في أحضان “الأرض”.
كنتَ تقول فيها الأناشيد والملاحم.فهنيئاً.
هي التي أنشَدتَ لها حتّى انتفاخ قلبك الصغير وانفجار شرايينك.
واليوم أقربُ لنبض “الأرض” أنتَ.
في البرزخ بين حياتنا الفانية وحياتك الهادئة.أكتب لنا عن ولادتك الثانية في فلسطين.
اكتب لنا، نحن المفجوعين بك،
عن الحياة بلا تشرّد.
بلا حصار
إلى أنْ
نعثرَ على شِعرٍ يليقُ بك.
على قصيدةٍ تليقُ بك
وبفلسطين.
—————————–
وبينما الشاعر يلقي قصائده بصوته الجهوريّ المازج للرّخامة في الوقت ذاته، ظَننّا أن كمنجاتٍ (وهي عنوان إحدى القصائد التي ألقاها على أسماعنا فاستمرّ وقعها حتى آخر اللقاء) مخبّأة في مكانٍ ما تعزف له خلفية للمشهد الشعريّ المتألّق بامتزاج صوته الأنيق وقامته المهيبة والمنتصبة في الفضاء الشعريّ الطّافح بالإنسانيّة والحبّ الذي أشاعه “اللازورد” (من قصيدة أخرى له) في الصالة المغلقة والمكتظّة.
ـ 2 ـ
ومحمود درويش، في مسيرة العقود التي أمضاها في الشعر والأدب والسياسة، نموذجٌ فذّ لـ “المثقّف العضويّ” الذي أراده إدوارد سعيد للمثقف من بعد “غرامشي”. صحيحٌ أن انخراطه المباشر في السياسة، فضلاً عن نشأته تحت احتلالٍ غاشم اقتلع قريته “البروة” وشرّد أهلها، إلى جانب تجربته الغضّة، قد ألحق بعض الضرر في شعريته ابتداء مشواره الكتابيّ. لكنه سوف يستدرك الأمر فيما بعد ليحلّق بشعره إلى مصاف أدبٍ إنسانيّ راقٍ لا يتوقف عند حدود “شعر المقاومة” في صورته التبسيطيّة والحماسيّة وحسب التي ستكون السبب في إسقاط شاعرنا مجموعته الأولى “عصافير بلا أجنحة” من أعماله الشعرية لاحقاً. غير أنه يبقى وفيّاً وأميناً لحقيقته البسيطة فهو لم يكتب شعراً من أجل الشعر يوماً ما. ولا هو بقادر على تدبيج الأناشيد الحماسيّة بنفس الوقت. فكانَ مزيجاً من طيّبات كثيرة لا فكاكَ منها ولا غنى عنها.
فـ”صنعةُ الشعر” ظلّت عنده بلا رتوش أو افتعالات أو نظريات شعرية في ذروة نضجه الأدبيّ. وحتّى في رؤاه النقدية القليلة المبثوثة في حواراته ليس لديه ذاك الميل إلى الاتّكاء على قوالب جاهزة في الكتابة والقراءة. إنه هكذا إنسان طبيعيّ إلى الحدّ الأقصى،إنّما ليس لحدّ الاستسهال الأدبيّ و التبسيط الجماليّ بالتأكيد.
ـ 3 ـ
غير أن لشخصية محمود درويش وجهٌ أدبيّ وثقافيّ لا يقلّ أهميّة عن شعره ووثيق الصلة به. فقد كان الراحل مسكوناً، على ما تبدي مقالاته ونصوصه الشعرية والنثرية المتأخّرة بالخاصّة ومحاوراته وافتتاحياته في مجلة “الكرمل” التي أسّسها ورافَق ترحالها، مَسكوناً بقلق الهويّة والاستلاب والذاكرة والتاريخ والمكان والمنفى إلى حدّ الكينونة. هذا المركّب سيكوّن مصدراً ثريّاً لرؤيته الشعريّة ومنظوره الثقافيّ العام .بل الخلفية الأكثر حضوراً في شعره. وهو المركّب ذاته الذي أَلَهَبَ مُخيّلة مواطنه الآخر “إدوارد سعيد” المفكّر الفلسطينيّ الأمريكيّ المعروف. ليندرج الانتماء إلى القضية الفلسطينية، لدى كليهما، في إطارٍ رحب من رابطةٍ كونيّة جامعة ليستمدّا من هذا الانتماء الفسيح بعض عناصر الحساسية الفنيّة والأدبيّة والجماليّة فضلاً عن التصاق الذاكرة الجريحة و المهشّمة بجذور راسخة في الأرض والمكان والإنسان. كأنّ المرء أياً كانت “قضيته المركزية” لا بدّ وأن يستعين في النظر إليها بمنظارٍ شموليّ وأوسع، ويتحرّر من إسَارِها وشِبَاكها وإنْ لقليل من الوقت، كي يكتشف تجادُلها الدّائم مع قضايا التحرر والإنسانية بعامّة. وتراهُ، وهو الكاره للاحتلال وسياساته البغيضة، متحفّظاً على سياسات سَلَكتها تنظيمات فلسطينية في الأعوام الأخيرة من منطلق ما يسمّيه بضرورة “التفوّق الأخلاقيّ للضحيّة” الواجب واللازم بنظره. تفوّق الفلسطينيّ الرّازح تحت الاحتلال على الإسرائيليّ المحتلّ. وإلّا فإنّ علّةً خطيرة تَكْمنُ في الدعوى السياسة.
وفي هذا السياق، تجدُر الإشارة إلى موقفه الإنسانيّ المُرهف من القضية الكردية وأحوال الكرد. بل وتشنيعه لطرازٍ مرعبٍ من العروبة. تلك التي مرّت بأرض كردستان العراق، عروبة المجازر وسَفْك الدّماء والطّعن بالتاريخ كما وصفها درويش في قصيدته “تحيا العروبة”.
ـ 4 ـ
الآن.حانَ الوقتُ لنومٍ مُستقطع من هذا الزمن الطويل والكئيب.
لا تقُل كلاماً صاخباً في الموت ولا تُنشد له.فقد التهم الموت حياتك مراراً.
والموتُ آتٍ بلا استئذان. لا ترحّب به كثيراً.لا تحسبه مضيافاً.ولا تكن مضيافاً أنت.
أتركه وشأنه. فقد هَزَمْته في حياتك مراراً.
لكَ أن تُحلّق حول أشجار اللّوز و الليمون.
أأنتَ عاجزٌ عن الحِراك واللّعب؟
أم لا أشجار باقية على قيد الحياة؟
راقدٌ أنت الآن في أحضان “الأرض”.
كنتَ تقول فيها الأناشيد والملاحم.فهنيئاً.
هي التي أنشَدتَ لها حتّى انتفاخ قلبك الصغير وانفجار شرايينك.
واليوم أقربُ لنبض “الأرض” أنتَ.
في البرزخ بين حياتنا الفانية وحياتك الهادئة.أكتب لنا عن ولادتك الثانية في فلسطين.
اكتب لنا، نحن المفجوعين بك،
عن الحياة بلا تشرّد.
بلا حصار
إلى أنْ
نعثرَ على شِعرٍ يليقُ بك.
على قصيدةٍ تليقُ بك
وبفلسطين.
—————————–
نوافذ -المستقبل – الاحد 17 آب 2008 –