يصنع الشاعر سليم بركات فسيفساءه الشعرية (شعب الثالثة فجرا من الخميس الثالث) الصادرة حديثا في بيروت، من صلصال بلاغي مرن.
والأعالي، مقشرة، تطحن في دهن السيرج، الذي سيغمسون
فيه كسرة الأبدي قبل أن يأكلوها.
هنا ظاهر الوصف العيني (المقشّر) حينما يكون الوصف صورة بصرية مترادفة، تختزل المشهد وتنقيه من نصاب العقل الذي ينحل هكذا بين صدع النص وتشققه، فتلونه بلون(المنطق) الرمادي وبلون (البداهة) القاتم، والنص إذا استوي فيه العقل والمخيلة تشاركا على استجلاب الفوضى والهرج وإثارة الفتن بين الكلمات التي لا ترضى حتماًً بسيطرة الفكر عليها راضية بهيمنة البلاغة المتخفية في الكثافة والإيحاء المتواريين بدورهما عن بوح روحهما ليدعما كيان النسق ويقودا النص إلى معناه المتلقف .
وقد لا ينصاع نص (شعب ….. ) إلى نداء يواتيه من شروخه، من شقوقه، من أطرافه المترامية في رمال اللغة، ليصبح النص بلادا وشعوبا يقصدها قراء يأتونها من الداخل والخارج، ويرتادها الداني والقصي، ويصبح النص مسيّر إعمال المخيّلة ومدبرا شؤونها الخاصة المستعجلة، وحكيم أوضاعها المتراكمة المتشنجة، وحتى إن تدبرت اللغة هنا إصلاح النص وأفرجت عن كرب المفردات وأصبحت الدلالات أدوات إنتاج نشيطة وفاعلة، فإن شاغلا ما قد يشغل محل النص من تكرار الأسماء والأشياء والإنشاء وترداد الأشكال والأفعال والتعاريف وتبدل الشبهات مع التشبيهات وتنافر الصفات عن الأصوات وتقزم القول أمام معنى القول، هي لعبة الشبهات تمارس في نص سليم بركات لتقبض السياقات أمكنتها كما يقبض القارئ بأسنانه على مقعد ما في مكان ما من النص دون أن يدفع تذكرة تذكر، ليتفرج على مشهد تذبح فيه الكلمات كلمة تلوأخرى، ومن من ؟ من الكلمات نفسها، من شقيقاتها وهن يستولين على بياض النص دون رأفة :
سيكون المذهل منسيا بعد قليل
سيكون الغمر كنز المشكل يعفي الأبدي من التفسير الصاخب للنشآت
ويعفي الفكرة من سطوالفكر .
سيكون النشوات التلف، عراك اباريز وطباخين وراء حجاب الطهوالدموي
نبات رعديد يؤكل كالحمى طازجة
فوضى في المرجان ومجزرة في اللؤلؤ
شرذمة من اجرام .
هجرات دائخة.
(شعب الثالثة فجرا من الخميس الثالث) كتاب أوورشة (الألفاظ) التي تنسق وتنتج الدلالات والاستعارات التي لا نظام لها ولا مخطط لذاتها (الدائمة ) (المتحركة) والذي يخطط الشكل البهي هوذلك البناء المتقلب ذوالملامح الغامضة، وهنا يسأل النص نفسه: من أي نسق هو؟ لتأتي الأجوبة مخططة مجهزة ومبتسرة ليغدوالسؤال تحيرا واجتيازا للتعبير الأرعن بالنسبة للدلالي نفسه، كما يقول الجرجاني (وأمَّا رجوع الاستحسان إلى اللفظ من غير شِرْكٍ من المعنى فيه، وكونِه من أسبابهِ ودواعيه، فلا يكاد يَعْدُونمطاً واحداً، وهوأن تكون اللفظة مما يتعارفه الناس في استعمالهم، ويتداولُونه في زمانهم، ولا يكون وَحْشِياً غريباً، أوعامّياً سخيفاً، سُخْفُهُ بإزالته عن موضوع اللغة، وإخراجه عما فرضتْه من الحكم والصفة) وما التحول في نظام الدلالة سوى تحول في جسد النص وبنيته المجتمعية الخاضعة لرقابة واهية من قارئ مستنفر يتخفى ويتعالى في جنبات النص يوغل فيه مشاركا في بنائه وهدمه، مغيّرا تحته وفوقه، ضمنه وشكله، وملبسا مساره وطوافه، موغلا في جوهره وسطوحه، كأنه الجوهر نفسه أوباطن الجوهر، كاشفا قوانينه الداخلية والسيكولوجية، منبها إلى الفراغ الذي قد يدلق من اللغة، فيفرغ البياض ويطغى الآسن المبهم، وتتكشف الكلمات معرّاة مختنقة، لتقود اللغة الرخيمة بفرسانها جمع المفردات وتقتل هناك بالقرب من ذاك السبات الطويل الطويل للسديم الأبله :
هي جونة العطر ممزقة تتداولها الساحرات، مذ رأيتهم ينحرون المعجم الثاني، الكبش في قطيع السّير، وينتحرون بتمام غيومهم، وتماثيلهم الفاكهة، وايامهم الطبول، والمتناثرة على سفوح الآيات كزرد الله .
والمجازات في نص (شعب الثالثة ..) تتراكب وتتفارد في مجموعات لغوية حصينة، تأخذ البلاغة قسطا من حصانتها والسياق التأويلي أمكنة لا تزحزح إلا ما تزحزحه سنابك اللفظ وسوطها : (هم أولاء، هم، من الخصيصة الصغرى، التي دولت العندم والشك سواء بسواء، أثثوا للعصبة الظل رواق الرحلة الخامسة بضروب من هذاء السعة، وتراقين الهذاء).
في كل صنع جديد لسليم بركات عود إلى الافتتاحيات السردية، إلى طيش الياقوت وسيره الطفولية المصطفاة ببهاء ذلك الطفل الذي لا يهدأ ولا العالم أن يهدأ، بدايات تحضر بعنف المكان وبقباحة العقل عندما يصبح العقل والياً على المشهد (الطفولي ) ويجعله نهشًا ودريئة للمنطق المتذرع بالفضيلة والرزانة، المنطق الذي يخذل الحديد ويبرده كما يبرد البناؤون الهياكل بآلات الظل . رجوع خاسر بالتأكيد الممل الذي يخفي بطولات شعب خارق لا (سماء) له سوى انه شعب ولد في الثالثة فجرا وانتهى في الخميس الثالث من ولادته، شعب اُخترع بتلك المخيلة الآدمية الهادرة وصار جزءًا من التاريخ والكون، شعب سقط من العتبة فتناثر بلغته وغده وقيلولته، ليخون في الأخير جرحه العادل، جرح عادل وخسارة عادلة وسيخونان ما يخان :
عمدا اسقطوا السماء من أيديهم على العتبة الحديد
قطعوا الوقت بشحمه وعصبه
علقوه هيكلا عظاما على شجرة الأصل الساحر
إلى جوار الجهات معلقة من أثدائها .
دائما دائما يخدع سليم قارئه، مغمضا عينيه يتصور ماكينة الحياة وألوانها، يخدعه بصوره وتشبيهاته التي تمتثل حياة أخرى أكثر بذخا وحركة، حياة برزخية ممهورة بكلمات تتشابه في غموضها وتتنافر في معجميتها، وقد تصل الحياة هنا إلى ذلك القتل الزمني وتكون لحظة الموت هي (لحظة الكمال الواثق الممتلئ بنفسه) .
الكتاب:شعب الثالث فجرا من الخميس الثالث
شعر: سليم بركات
الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت 2008
——–
صحيفة تشرين -ملف الاسبوع الثقافي – السبت 23 آب 2008