الحداثة… « لغة واصطلاحا ونشأة ومضامين»

دهام حسن

الحداثة لغة كما ورد في المنجد هي مصدر للفعل الثلاثي المجرد “حدث ” ..  والحداثة من الأمر ، أوله وابتداؤه، وتقابلها في المعنى القدامة، وهي مصدر لفعل قدم، وقدامة  الشيء أي مضى على وجوده زمن طويل… ونقول عن الشيء هو قديم، أو هو حديث….
لكن ما يهمنا هنا هو المعنى الاصطلاحي للحداثة، فالحداثة من المفاهيم التي جرى حولها جدل ولغط كبيرين، فإذا كانت الحداثة انبنت بالأساس على المعنى اللغوي، فإنها حملت إيحاءات ومعاني ومضامين جديدة، وبالتالي من المتعذر أن تخرج بتعريف جامع متفق عليه، أو حتى بإيضاح يتقبله كل الأفرقاء..
حيث تتضارب دلالات الحداثة عندهم، فالموقف من الحداثة، لا بد أن يتأثر  بالموروث الثقافي, الديني، الأخلاقي، وما اكتسبه الخلف من السلف، وعلى العموم، لابد أن يتأثر بالواقع الاجتماعي الطبقي، والواقع الاقتصادي المهيمن، وبطبيعة الطبقة السياسية التقليدية الحاكمة، وهذا التضارب أو التقاطع في مفهوم الحداثة سوف نعود إليه بعد قليل عندما نستعرض آراء المتحمسين للحداثة وأيضا آراء المناوئين لها، ولنعكف بداية على نشأة مصطلح الحداثة…
إذا كان الأفرقاء مجمعون على نشأة الحداثة في الغرب، فإنهم مختلفون على التأريخ لها، فغالبية الباحثين يرون أن بواكير الحداثة بدأت منذ أواخر القرن التاسع عشر في الغرب وفي حقول الأدب بعد أن قوضت الرومانسية أركان الكلاسيكية، فنشأت الحداثة على أيدي شعراء فرنسا شارل بود لير، ورامبو، ولامارليه، أي مع نهاية الرومانسية وبداية الرمزية، ثم ظهرت مذاهب أدبية أخرى كما هو معروف. دعا الحداثيون إلى التحرر من الكثير من القيود، والثورة على التقليد والمحاكاة، ورأى بعضهم أن الحداثة جاءت نتيجة تراكمات وإرهاصات  للمذاهب والتيارات الأدبية  والفكرية السابقة للحداثة..
 ولكن هناك من يعود بمصطلح الحداثة إلى القرن الخامس عشر، أي ربما إلى حركة مارتن لوثر الذي قاد الشقاق البروتستانتي ضد الكنيسة والتمرد على سلطتها الروحية، دون أن نغفل عن التقانة التي سهلت ومهدت لهذا التمرد، لاسيما اختراع الطباعة التي قال قيها “مارتن” نفسه :إنها من أسمى فضائل الرب على عباده…ومنهم من يربط الحداثة بديكارت صاحب مذهب الشك في القرن السابع عشر، أي إعمال العقل، وإعادة النظر في كل شيء، ومنهم من يربط المصطلح بعصر التنوير في القرن الثامن عشر، حيث ميدانه العقل والاستنارة على ضوء العلم والتكنولوجيا، وأخيرا هناك من يربط مفهوم الحداثة بمطالع القرن العشرين، أي بالامبريالية على خلفية احتلالاتها الاستعمارية. أي في عصر الإذاعة والكهرباء ووسائط النقل السريعة، ووسائل الاتصالات المبتكرة.. كل هذا الاختلاف في تاريخ هذا المصطلح ناجم عن الاختلاف  في تحديد غرض ومفهوم الحداثة، واختلاف الرؤية إليها….

وهنا تحدوني مبادرة للقول: إن التحديث أو الحداثة ــ رغم التمايز بينهما كما يرى بعضهم ــ حالة دائمة، وعملية مستمرة، في إعمال الفكر، ومجاوزة الواقع المعيش،  والتطلع نحو التجديد، ورفض كثير من القيم التقليدية السائدة. لكن، قد لا يتجلى تبلورها واضحا كما هي حال الحداثة اليوم، بسبب معاندة الظروف، واندحار المفهوم أمام قوة وهيمنة الفكر السائد. لذلك فالحداثة أو التحديث قد تأخذ فترات من السبوت القسري وقد تطول  الفترة، لتظهر ثانية ـ ربما ـ أكثر جدة وقوة وغنى، وفي هذا السياق نقول: الم تكن دعوة أبي العلاء المعري ، الذي كان يرى أن لا إمام سوى العقل، وقوله: ( فكل عقل نبي ) رفضا للفكر السائد، ودعوة لتحديثه، فقد تهكم من معتقدات  وطرائق العبادة لدى الديانتين المسيحية والإسلامية، يقول : ( كلّ يعظم دينه…. ياليت شعري ما الصحيح ) واعتبر الدنيا الثانية، أي الآخرة خرافة، لتأتي بعد ذلك فترة السبوت في عهد الإمام الغزالي، الذي رفض إعمال الفكر في  هذه المناحي الجدلية، ورأى السلامة في إتباع سنن الأقدمين، والخطر في  البحث والتقصي.. وكانت الظروف مؤاتية  لرؤيته السلفية، فخمدت جذوة التفكير الحر، وأخلدت إلى كمون أو سبوت كما قلنا قبل قليل ولو إلى حين..

 وفي مطلع القرن العشرين برزت الحداثة أوالتحديث على أيدي بعض الرواد من أمثال طه حسين، وسلامة موسى، فالأول أثار ضجة عارمة من الغضب بسبب قراءته الجديدة للشعر الجاهلي، والشك في انتسابها لأصحابها، لكنه اضطر للعودة عن بعض ما أثاره، وما سببه بالتالي من لغط، لتعاد طباعة كتابه  بحلة مغايرة إرضاء لأصحاب الشأن والنفوذ في الأزهر، أما الثاني فكان منفتحا لمبادئ وأفكار اشتراكية، وإلى العلمانية، في ظرف كان يتطير المؤمن حتى من ذكر لفظة الشيوعية، وكانوا  يقترنونها بالإباحية..كما ظهرت حركة تجديد في حقل الشعر على أيدي السياب والملائكة والبياتي في  أعقاب الحرب العالمية الثانية..وبعد نكسة حزيران عام 1967 ظهرت حركة تجديد في الفكر، وفي مأزق المفهوم القومي ذي الشعارات الزاعقة غير الواقعية، واندحاره تاريخيا أمام إسرائيل..
كان لا بد  من إعادة النظر في كل شيء،  والتحديث في كثير من الأشياء، فضلا عن الفكر والأدب، في الفن والموسيقى أيضا، كما هي الحال في بعض الأفلام المصرية، وفي موسيقى الأخوين الرحباني، حسب رأي الدكتور عبد الإله بلقزيز.. والتحديث أو الحداثة لم يتوقف على الغرب وحده، بل أخذت طابعا عالميا وانتشرت في سائر القارات.. بعد هذا لم يبق أمامنا سوى أن نقول ماهي الحداثة إذن.؟

الحداثة بحسب تعبير رولان بارت، طوفان معرفي، وزلزال حضاري عنيف، وانقلاب ثقافي شامل…الحداثة ـ أيضا ـ  موقف عام وشامل ومعارض للثقافات التقليدية السائدة.. الحداثة تدعو إلى إعادة النظر في كثير من الأشياء، والتحرر من كل القيود.. الحداثة ثورة على كل ما هو تقليدي في المجتمع.. الحداثة عملية تقدمية، حتى لو كان المخاض عسيرا، فهي تنشد عصرا جديدا يقترن بالتطور والتقدم وتحرر الإنسان.. الحداثة رؤية فلسفية وثقافية جديدة للعالم..الحداثة حالة وعي الواقع وبالتالي نقده..  الحداثة تتكئ على مكونات وعناصر مثل التصنيع، العلمانية، الديمقراطية، عند مطالبتها التوسع في وسائل الإعلام، وفي المشاركة السياسية، وهي كثيرا ما تنتقد الموروث الثقافي الديني  بهدف   التغيير نحو الأفضل. الحداثة دعوة لانتصار العقل على النقل، وعرض المنقول من السلف لمنخل العقل مهما كان مصدره، من دون تقديس لأي نص، وتمريره بالتالي كحقيقة منزهة …

يعد الشاعر السوري أدونيس من أبرز رواد الحداثة العرب، كما يعد المنظر الفكري لهذا المصطلح، وأحد الراديكاليين المتحمسين للدفاع  والترويج للحداثة فهو يرى أن ولادة الحداثة تاريخيا نتيجة: ( التفاعل والتصادم بين موقفين وعقليتين في مناخ تغير ونشأت ظروف وأوضاع جديدة ) ويرى أيضا من أنه 🙁  لا يمكن أن تنهض الحياة العربية، ويبدع الإنسان العربي، إذا لم تتهدم البنية التقليدية السائدة للفكر، ويتخلص من المبنى الديني التقليدي الاتباعي ) كما توافقه النظرة الحداثية زوجته  السيدة خالدة سعيد التي ترى في العقل والواقع التاريخي مرجعية للحداثة؛ أي أن الحداثة مرتبطة بفكر حركة الاستنارة، أي استخدام العقل والعلم والتكنولوجيا. ويقول الدكتور شكري عياد إن الحداثة العربية قد انبثقت نتيجة شعور النخبة  العربية المثقفة : (  بسقوط الحلم العربي… وأصبحت الحداثة مخرجا مناسبا من حالة الضياع التي سقط فيها جيل الثورة والأجيال التالية) فضلا عن ذلك فهو يرى أن الحداثة بمدلولها عند العرب والغرب على حد سواء: ( تتجه إلى تدمير أعمدة النظام القديم )  ويقول إلياس خوري الكاتب اللبناني في مرحلة سابقة بأن ( الحداثة العربية هي محاولة بحث عن شرعية المستقبل، بعد أن فقد الماضي شرعيته التاريخية في عالم توحده الرأسمالية الغربية بالقوة )…
 أما لماذا لم تتفاعل الحداثة مع الواقع العربي، وأصالته، فيرجعه بعضهم إلى غياب البرجوازية الحديثة، الحامل الاجتماعي للحداثة، التركة الثقيلة من الماضي ووجاهتها  وركونها في الوجدان العربي، التشدد في التمسك بالإرث التليد والهوية العربية والإسلامية، وعدم التقبل ما يصدر عن الآخر الغريب…
 ومن هنا كان رد السلفيين من الإسلاميين في العالم العربي ردا قاسيا على الحداثة، فهم يربطونها بالإمبريالية الغربية، ويرونها أشد خطورة حتى من الليبرالية والعلمانية والماركسية، فهي أي الحداثة عندهم معول هدم تتنافى مع الدين الإسلامي، وهي ثورة سلبية على التراث، على اللغة، على الأخلاق، على الدين، على التاريخ، على الماضي، فهي في المحصلة فكر هدام يتهدد كل شيء.. وخشية هؤلاء السلفيين من الحداثة نابعة بالأساس، مما يتضمنه هذا المصطلح من عناصر مثل العلمانية، أي دعوة الفصل بين الدين والسياسة، وأيضا الديمقراطية، واتساع دائرة الفكر، وإعمال العقل عند قراءة المسلمات بها، قراءة متحررة من رقابة السلطان…

و أخيرا…من الأهمية بمكان، الإشارة إلى سمات الإنسان الحديث أو الحداثي، فمن أهم تلك السمات، استقلالية الفرد عن الرموز التقليدية، في الأسرة  كالأبوين، أو الأخ الكبير حتى، وعن التبعية لزعماء القبيلة، ورجال الدين، وبالتالي يكون ولاؤه للوطن الكبير وحده؛ احترام المواعيد، الإيمان بعلوم الطب كعلاج، بعيدا عن السحر والشعوذة والتمائم، الاهتمام بالتخطيط في حياته، مقدر لظروف ضبط الإنجاب، هو أيضا   داع لقراءة  العلوم، متابع للأخبار السياسية على صعيد الداخل والعالم، مؤمن بالتغيير وراغب فيه، ومؤمن بقدرة الإنسان الكبيرة على فعل التغيير… هذا بخلاف الإنسان القديم الذي إذا ما عكسنا تلك السمات التي أتينا على تناولها، فهي كثيرا ما توائم نظرته في هذي الحياة، فهو عادة يتميز بالسلبية والإذعان لما هو قائم، غير محبذ للتغيير، وغير مؤمن بقدرة الإنسان على فعل التغيير، هو مؤمن باستمرارية الحالة في الطبيعة والمجتمع دون اعتقاد منه بإمكانية التغيير.! هذه كانت أهم السمات التي خرجت بها  جامعة هارفرد في الولايات المتحدة الأمريكية إثر بحث ميداني شملت دولا عديدة ومن مختلف القارات..

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم محمود

أول القول ومضة

بدءاً من هذا اليوم، من هذه اللحظة، بتاريخ ” 23 تشرين الثاني 2024 ” سيكون هناك تاريخ آخر بحدثه، والحدث هو ما يضفي على زمانه ومكانه طابعاً، اعتباراً، ولوناً من التحويل في المبنى والمعنى القيَميين والجماليين، العلميين والمعرفيين، حدث هو عبارة عن حركة تغيير في اتجاه التفكير، في رؤية المعيش اليوم والمنظور…

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…