أي مكان؟!

عمر كوجري

 لم يعطنا فضاء القرية ثقافةً بتناثر بيوتها، والنهر الذي لم ينتظرنا لنكبرَ، ونمرحَ، ونسبحَ فيه.. كلُّ ما فيها كان رتيباً وباعثاً على الكآبة، فمن غرق في الوحل وانقطاع تام عن الدنيا شتاءً، إلى تحمل كرات النار التي كان صيف الجزيرة يقذفها في وجوهنا، ومن الليل الدامس حين لا تسمع غير نقيق الضفادع، وانسلال العقارب إلى أجسادنا، وعواء الحيوانات الضارية التي زادتنا التصاقاً بصدور أمهاتنا، فضلاً عن حكايا الجدة حول الجن والعفاريت، فنستيقظ من كوابيسنا، وقد بللنا ثيابنا، ونصرخ محاولين الهرب من عفريت هرب من أدرد فم الجدة.
   حينما ضاق الوالد بنا ذرعاً، وقال: انقلعوا من وجهي يا غجر، دبروا رؤوسكم.. ما عدت أملك فلساً واحداً، حزمنا على عجل أشياءنا، واتجهنا من عتمة ليلنا في الريف إلى أضواء العاصمة، لنعيلَ الذي بذرنا في فشة خلق.

  في العاصمة، سننبهر بكل ما فيها.. ولن تبقى حارة من حارات الهامش أو القاع إلا ونزنِّرُها بثقيل خطواتنا..
افتقدنا وداعة القرية وهدوءها الذي يشبه الموت .. لم نعد نسمع نقيق الضفادع، والقمر الذي دعوناه كثيراً ليسامرنا براءتنا افتقدناه أيضاً.. نسينا غاراتنا على بساتين الجيران ليلاً.. دخلنا مكاناً جديداً يحمل ثقافة لا تشبه أبداً ثقافة قريتنا… هنا آلمنا زعيق السيارات و أدخنتها، أبصرنا طرقات إسفلتية طويلة ومستقيمة، تفرَّست عيوننا في الفتيات الساحرات وهن يسرن في الشارع مرتديات ما خف من ثياب، نقارنهن مع فتيات قريتنا الغارقات في كومة الألبسة، فنتأسف على عمر ضاع في طمي القرية وعجاجها الدائم.
   هنا.. لم يتقصف شعرنا، لم تترمد عيوننا، وشربنا ماءً لا يشبه ماء الضيعة الذي كثيراً ما رأينا الديدان ترقص في قعر الدلو، نبلع الماء، ونحن نغلق كل إحساس فينا.
   هنا… لم تسقط منا أحذيتنا جراء تراكم الطين عليها، ولم يعضنا كلب مسعور غيلة، نسينا عادة « تمريح»الوالد بالتناوب صيفاً ، لينام هو، وتلتهم خدودنا الحشرات من كل نوع.. لم تكن هناك كهرباء.. ولا مياه صالحة للشرب… ولا لم يكن هناك شيء.
   تركنا الضيعة وفي قلوبنا ترقص أمنية الوصول إلى المدينة، سكنَّا العاصمة.. لكن تحاشينا أن نسكن أو حتى نسير في الأحياء الراقية، تسلمتنا أطرافها.. قاعها.. هامشها..العشوائي.
المكان لم يهبنا ثقافته بسهولة.. أو نحن لم نندمج مع ثقافته أصلاً. تعبنا حتى تعلمنا السير في الشوارع دون أدلاء، وكنا نادراً ما نرى سيارة تمر بكسل على طرقات ضيعتنا المتعرجة، أما.. هنا.. صرنا ننام على زمامير السيارات الكثيرة ليلاً ونهارا، وفي الصباح نتعربش في باص النقل الداخلي، ولا نقطع البطاقة مخاطرين بحياتنا. ..
هنا.. وسع المكان بنا في حي مكتظ على آخره، يسكنه كل من ضاقت به السبل، حيث كان أغلبهم من ريف الشمال الشرقي والساحل.. البيوت كانت متلاصقة ومنفلشة إلى حد كبير.. ففي ليلة واحدة كان يُنجَزُ بناء البيت، وفي الصباح كنت ترى بشراً يتثاءبون في غرفه.. هناك.. حيث اختلطت اللغات واللكنات والسحنات بشكل عجيب.
كان الحي العشوائي المعمر على عجل آيلاً للانهيار في أية لحظة، الماء لا يزوره إلا نادراً… الكهرباء تشرق ساعة لتغيب ساعات طويلة، كان الماء الذي يأتي حيِّنا « خيط ماء» فكان يتشارك الجيران لشراء محركات الدينمو التي حرمتنا متعة النوم ليلاً، لنجرَّ الماء إلى غرفنا العفنة، ورائحتها تقتل حية من نوع الكوبرا.
   كنا نسرق الكهرباء دون أن يرف لنا جفن.. وحين يأتي الماء يبدأ عراك الجيران وتدافشهم عليه، كنا نسهر إلى وجه الصبح نملأ براميل صدئة، وبيدونات سرقناها من ورشة العمل، وطناجر اشتريناها من سوق الحرامية بسعر بخس، وصحوناً سرقها بعضنا من المطاعم التي نجلي فيها الصحون، نأكل بخوف ولذة بقايا طعام الأكابرية، وفي القرية نتباهى أمام أهلنا أننا أجدنا لهجة أهل العاصمة « شو ألتللي .. شو ألتلك!!؟» ونفخر بصور التقطناها ونحن متكئون على باب سيارة فخمة، أو أمام حديقة شجراء لنقول لأهلنا: نحن في جنان الله، وأنتم موتى..
   في ذلك الحي العشوائي .. كنا نسمع أحاديث الجيران تخرق جدراننا ليلاً، نسمع التأوهات.. صيحات اللذة والخمود… وكذلك، كنا نسمع صرخات النسوة، وهن يهربن من « بوكس» وعصا الزوج البائس.
   الناس كثيراً ما كانوا يتشاجرون.. على أشياء تافهة.. ويتضاحكون من أشياء تافهة، ويحلمون بيوم أجمل، صباحات كثيرة كانت تشهد مجيء وليد جديد جاء ليقاسي بؤس الحياة مع أهله.
   هناك.. كنا نكابد ثقافة تشبه ( شربكة) أسلاك الكهرباء التي أزهقت أرواحاً عديدة في لحظة غضب.
آنذاك لم يعرف حيُّنا نعمة الهاتف حتى تضيف أسلاكه أيضاً« مسحة الجمال» على حيِّنا ..
   لأول مرة شاهدنا في الحي العشوائي النسوةَ، وقد أصبحن كهربجيات ماهرات، يوصلن أسلاكاً، ويقطعن أسلاكاً، كنا نحن الفضوليين نتعقب بعيوننا إحداهن تنطُّ من سطح منزلها إلى سطح منزل ملاصق، وآخر أبعد.. ولا تعود إلى أن ترحل النجوم في كبد السماء.
لأول مرة رأينا شبح رجل متكوم على جسده، نسلِّم عليه فلا يرد، عرفنا فيما بعد أنه يتعاطى الحَبَّ المخدر، وفي المساء المتأخر يرسم ابتسامة بلهاء  على وجهه، وهو يودِّع ابنته التي تفيض عطراً حين يغوصُ جسدُها الغضُّ في بطن سيارة فارهة.
أي مكان.. وأية ثقافة؟؟ ستهبنا العشوائيات التي مازلنا نعيش فيها لسبب بسيط، وهو قلة الموت في هذا الزمن.. القحط.
تشرين الثقافي- 2- تموز 2008

emerkoceri@gmail.com

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ابراهيم البليهي

منذ أكثر من قرنين؛ جرى ويجري تجهيلٌ للأجيال في العالم الإسلامي؛ فيتكرر القول بأننا نحن العرب والمسلمين؛ قد تخلَّفنا وتراجعنا عن عَظَمَةِ أسلافنا وهذا القول خادع، ومضلل، وغير حقيقي، ولا موضوعي، ويتنافى مع حقائق التاريخ، ويتجاهل التغيرات النوعية التي طرأت على الحضارة الإنسانية فقد تغيرت مكَوِّنات، ومقومات، وعناصر الحضارة؛ فالحضارة في العصر الحديث؛ قد غيَّرت…

سلمان إبراهيم الخليل
تبدلت ملامحي على دروب الرحيل
ثمة أنفاس تلهث خلف الذكريات
تركض خلف أسفار حزني المستدام
الأرصفة وحدها من تشعر بأنات جسدي
وهو يئن من لهيب المسافات

المطر الأسود ينهش في جغرافيا الروح
وهي تعزف للريح تراتيل الغربة
وأنا ألملم شظايا أحلامي بخرقة هشة
لأتوه في دهاليز المجهول

أمد نظري في الأفق البعيد
أمد يدي لمرابع الطفولة
انتظر لهفة أمي وأبي
لكن ما من أحد يصافح
لقد…

سيماف خالد محمد
كنتُ جالسةً مساءً أستمع إلى الأغاني وأقلب صفحات كتاب، حين ظهر إشعار صغير على شاشة هاتفي، كانت رسالة من فتاة لا أعرفها مجرد متابعة لصفحتي منذ سنوات.
كتبت لي دون مقدمات:
أنا أتابعك دائماً وأرى أنك تكتبين عن القصص الاجتماعية، هل يمكنك أن تكتبي قصتي؟ أريد أن يكتب أحد عن وجع طفولتي، ربما إذا قرأتها…

أ. فازع دراوشة| فلسطين

المبيّض أو كما يلفظ باللهجة القروية الفلسطينية، ” المبيّظ”. والمبيض هذا كريم الذكر لا علاقة له قدّس الله سره بالبيض.

لم أره عمري، ولكن كنت في أوائل الابتدائية (الصف الاول والثاني) وكان يطرق سمعي هذا المسمى، علمت أنه حرفي ( صنايعي) يجوب القرى أو يكون له حانوت يمارس فيه حرفته. يجوب القرى، وربما…