* كاتب كوردي سوري، ومواطنٌ بسيط، ابن الأرياف العذراء الفسيحة من الجزيرة السّورية، ذات العراقة في الأخلاق الاجتماعية، والوطنية… لم يكن مجيئي إلى عالم الأدب والقصة القصيرة تحديـداً مجـرد صدفـة، كمـا نلاحـظ ذلـك لـدى الكثيريـن مـن الوسط الفني والتمثيلي على وجه الخصوص؛ فمذ كنتُ صغيراً كنتُ أرافق أبي إلى مجالس الكبار في القرية، حيث يأخذ الحديث مجالاتٍ شتى، اجتماعية ومعيشية، وأحوال أهل القرية، ومنها مجالات في القصص الشعبية ورواية الحكايات، كان ثمّة رجلٌ من العراق (الموصل) اسمه أحمد السيد (زوج ابنة عمي) يروي حكايات (فيروشه) وتمتدّ لعشرات الليالي، فكنتُ أمثّل في نفسي دور البطل ( فيروشه) وأخاصم (بهروزي عيار). كما كان للحكواتي الشعبي أحمد رحيمة من قرية عين الخضراء (بأنه قصر- ديرك) تأثيرٌ كبير على نفسي، وهو يروي حكايات ألف ليلة وليلة باللغة الكوردية، ولا أنسى دور أمي التي كانت تقصّ حكاياتٍ قصيرة لنا حتى ننام. وفي مراحل الثّانوية والجامعة كنتُ أقرأ رواياتٍ وقصصٍاً قصيرة عربية وأجنبية بشكلٍ مستمرّ. فوجدتُ نفسي في القصة القصيرة، بوصفها فناً عصياً على الإمساك به، ويؤدي دوراً كبيراً في الحياة، والسّرد بطبيعته قريبٌ من النّفس البشرية .
ـ ما هي دوافع الكتابة لديك؟ وكيف تصفُ تجربتك الأدبية؟
* الكتابة فعلٌ إنسانيٌّ يسمو بالمجتمع إلى ما هو أصلح من خلال ولوج وجدان النّاس ودفعهم إلى البحث عن قيم الخير والجمال، بالكتابة يحقّق الكاتبُ ذاته، ويسعى إلى الإسهام في تغيير واقعه نحو الأفضل، وبذات الوقت، هي فنٌّ للتواصل مع الناس، فعندما يكتب الإنسان فكره ووجدانه يعرف أنّه سيترك أثراً ولو غير مباشر لدى النَّاس، ومن الخطأ أنْ ننظرَ إلى الناس ببساطة، فهناك أناسٌ مثقفون وذوقهم الفني معيارٌ في معرفة الأدب الرفيع، وبقدر ما يكون للقراءة متعة فنية فإنّ للكتابة ما يزيد عنها .
كلّ أنواع الكتابة الفنية، تنصبّ على إحداث متعة فنية لدى المتلقي( اللذة، والشعور بالجمال) وتقديم الفائدة، النّص الأدبي يجمع ما بين المتعة والفائدة. الكتابة هي رّغبة ودهشة بالاكتشاف، متعة الكتابة تكمن في إنجازٍ كلاميٍّ، يحسّ الكاتب أنّ عليه أن يفرّغ شيئاً من وجدانه على الورق. أما ما يتعلّق بتجربتي القصصية، فقد نشرتْ لي قصة (مات نصف ربيع) في جريدة الفداء السورية لأول مرة عام 1990، ثمّ صدرت لي المجموعة القصصية الأولى (القطا تراقص النّهر الجميل) عام 1992 بالاشتراك مع الكاتب والشاعر عمر كوجري، والمجموعة الثانية ( وغاب وجهها) عام 2004م في دمشق، والمجموعة الثالثة (مخطوطة) على عتبة النشر، وأكتفي الآن بنشر قصصي في الشّبكة الالكترونية، ولدي مشروع دراسي عن (إضاءات على القصة القصيرة في الجزيرة) لكنّه الآن قيد التوقيف لأسبابٍ ذاتية، وفي هذه الفترة أخذتْني القراءة من الأمور الأخرى .
* منذ القديم يتناقل النّاس هذا السؤال: ما هي وظيفة الأدب، وتأتي الإجابات متعددة ومختلفة باختلاف المذاهب النقدية والفلسفية، فالتيارات القومية ترى بأنّ المطلوب من الأدب نشر ثقافة قومية، والمهتمون بالدين يرون بأنّ المطلوب منه الترويج لقيم دينهم (الإسلامي والمسيحي وغير ذلك) فهم يريدونه بوقاً لأفكارهم وأيديولوجياتهم ، وكثيراً ما كان الأدب يخضع لنزوات السّلطان (ألف ليلة وليلة) لكن يبقى للأدب وظيفة حياتية هامّة، تربوية، جمالية، إنسانية، ومحاولةُ تسخير الأدب سياسياً وفكرياً يعني استلابه فنياً، ومن ثمّ قتله روحياً. أمبرتو إيكو الروائي الإيطالي كان يعقد الرهان على دور الأدب (في تربية الحس الإنساني المنفتح على اختبار المصير وعلى التعدد الذي يرسم التجارب وأقدار الشخصيات وتأويلاتها، فبدون دانتي، لم يكن ممكنا أن تنشأ لغة ايطالية موحدة، كما أنه يُبقِي اللغة في حالٍ من النشاط باعتبارها تراثاً جمعياً .
إذاً كان الأدب منطلقاً لبناء الحضارات، فماذا كان يحصل للحضارة الإغريقية بغياب هوميروس، وما مصير الهوية الألمانية بدون ترجمة التوراة على يد لوثر؟ واللغة الروسية بدون بوشكين؟ وفق تعبير إيكو .
الأدب بشكل عام يلعب دوراً مهماً في الحياة، وهو بكلّ أجناسه من أهم الفنون التي يمارسها الإنسان، ومكمّلٌ للفنون الأخرى، كالموسيقى والرسم والرقص والتمثيل وغير ذلك. و بما أنّ لكلّ فنٍّ أدواته، الموسيقى تعتمد على آلات العزف، والرسم على الريشة والألوان، فالأدب يعتمد على الكلمة كأداة تعبيرية، والكلمة من أخطر ما يُؤثّر على الإنسان. من هنا يبرز الدور الذي يلعبه الأدب، وتأتي أهميته من تأثيره المباشر على المتلقي، رغم دخول الأدب في مجالات الرمز والاستعارة في غالب الأحيان، ومطلوبٌ من الأدب أنْ يكون موجّهاً لبناء الإنسان ذات الفاعلية العالية إيجابياً، كتعميق عواطفه، وتنمية أفكاره، وتغذية روحه وعقله، وجعله إنساناً صالحاً في المجتمع، يمارس إنسانيته التي تميّزه عن الكائنات الأخرى، ومن وجهة نظري الأدب يطرح أسئلة استفزازية أكثر من بحثه عن الحلول .
ـ رأيك بالقصة القصيرة الكوردية، إلى أين وصلت، وأين مكانها أمام القصة العربية؟
* إذا كنتَ تقصدُ بالقصَّة القصيرة الكوردية تلك التي تُكتَب باللغة الكوردية، فأنّها تعاني صعوباتٍ كثيرة كي ترتقي إلى مستوى الفن الكتابي، كونها حديثة التكوين، وفقيرة كماً ونوعاً. الفنون الكتابية تحتاج إلى الخبرات المتراكمة، لأنّ كلَّ مرحلةٍ تأتي لتكمّل المرحلة التي سبقتها، ففي القصَّة السّورية مثلاً جاء جيل السبعينيات والثمانينيات ليطوّر تجربة الرواد الأوائل، وجيل مابعد الألفين انطلق من تجربة متطوّرة وناضجة فنياً سابقاً، فلا بدّ أنْ ينتجَ إبداعاً فنياً مميّزاً، وهذا الأمر لا يتوفر في القصة القصيرة المكتوبة بالكوردية، أما إذا كنتَ تقصد بالقصة الكوردية تلك التي يكتبها الكورد باللغة العربية، فهي لا تقلّ عما يكتبها أقرانهم العرب السّوريون، واسهم الكتاب الكورد في إنتاج القصة السورية في مختلف مراحلها، كفاتح المدرس، و ونيروز مالك، وعبد الرحمن سيدو، ومحمد باقي محمد، وأحمد عمر، وخورشيد أحمد ، وعبد الحليم يوسف، وجان بابير، وأحمد إسماعيل وجيهان عبد الرحمن ، وآخرون أيضاً…..
فالقصة القصيرة الكوردية المكتوبة باللغة العربية جزءٌ من القصة السورية عامة، وتتماشى معها في تطورها الفني، كماً ونوعاً، والقصة السورية عامة وصلت إلى ذروة مجدها في التسعينيات، حيث لفظت المطابع كلّ سنة ما يزيد عن أربع وخمسين مجموعة، أي ما يقارب خمسمائة وخمسين مجموعة في عشر سنوات، طبعاً للكورد دورهم في هذه التجربة الكمية والنوعية .
ـ ماذا ينقص الثقافة الكوردية حتى تستطيع البلوغ إلى مستوى الثقافات الأخرى واللحاق بها؟
* مصطلح الثقافة نفسها تحمل مفهوماً إشكالياً، لأنّها مصطلح شائع للغاية، وعليها اختلافٌ كبير في المفهوم والتعريف، فهناك من يرى الثقافة بوصفها المادي، كالبناء والمصانع والطرق والتكنولوجيا المعاصرة، وآخرون يرونها بوصفها المعرفي، كالأدب والفلسفة والدين، وغير ذلك. وقد تأتي الثقافة مرادفة لمصطلح الحضارة. وأجمع علماء أنتروبولوجيا(بخلاف الرؤى الفلسفية والسياسية) على أنّها سلوك تعلُّمي يكتسبُهُ الأفراد كأعضاء في جماعات تعيش في المجتمع الواحد. ورغم كل الاختلافات في مفهومها إلا أنّهم أجمعوا على أن الثّقافة هي ذلك الكلّ المعقد الذي يتضمن المعرفة، والمعتقد، والفن، والخُلق، والقانون، والعادات الاجتماعية وأية إمكانيات اجتماعية أخرى، بل وطبائع اكتسبها الإنسان كعضو في مجتمعه .
والكورد لديهم خاصية في الفلوكلورٌ ، كالدبكات، والرقص، والموسيقى، والأغاني، والأزياء واللبس، وعادات اجتماعية خاصة في الحفلات والمناسبات، لكن كثيراً ما تتداخل العادات والتقاليد في المجتمعات المتعايشة تاريخياً. الثقافة الكوردية تنقصها الحرية، الثقافات كلّها تحتاج إلى الحرية لتنطلق وتتطور، والتنوع الإثني والثقافي في أيّ بلد، دائماً يكون عاملاً لإثراء الثقافة العامة و إغنائها، لكن في جوٍّ من الحرية، وحدها الحرية تنقص الثقافة الكوردية كي تبحث عن ذاتها وتطوّر نفسها. ودرجة تطوّرها تختلف من مكان إلى آخر، فالثقافة الكوردية في كردستان العراق أكثر ازدهاراً منها في سوريا ومناطق أخرى، نتيجة توفّر العوامل السياسية والاقتصادية لها.
* ما يميّز القصَّة القصيرة عن الأجناس الأخرى، سماتٌ يمكن اختصارها بـ(فن اللقطة) أي التقاط البريق اللامع الذي يمرّ سريعاً في الذّهن، وصياغته سردياً، مع استخدام المفردة المنتقاة بحرفية، وكتابته باللغة الرفيعة التي يمتزج فيها السّرد مع الصورة .
القصَّة القصيرة الحديثة استفادت من تقنيات الفنون الأخرى، فأخذتْ من الشّعر لغته المكثّفة الاستعارية، ومن المسرح حواره القائم على كشف دواخل الشّخصيات، ومن الرواية طريقة سرد الحكاية، ومن السينما أسلوب الخطف خلفاً. ورغم تداخلها مع كلّ تلك الفنون، فأنها كوّنتْ لنفسها شخصية مستقلة، فهي فنٌّ قائمٌ بذاته، له عناصره وفنياته المختلفة عن الفنون الأخرى .
ـ ما هي الأخلاقيات التي يجب على الكاتب والقاص أن يتحلى بها، هل عليه أن يتمسك بالأصالة، ولا يقلد أسلوب الغير؟
* لا أعرف المعيار ألقيمي لهذا السؤال، لكن ليس هناك شيء في عالم القصة القصيرة يسمّى بالأصالة في الأسلوب، ومصطلح (الأصالة) جاء عندما بدأ الحداثيون في الشعر والنقد والفكر، فنادى الآخرون بالأصالة الشعرية. أسلوب كتابة القصة مسألة تراكمية، يتغيّر ويتطوّر مع التجارب الجديدة، وقد يختلف بين القصة والرواية. لا أعتقد أنّه في فن القصّة القصيرة يوجد ما يُسمّى بالأصالة، أي وجوب كتابة النّص على طريقة بديع الزمان، وقنديل أمّ هاشم، وأسلوب ألف ليلة وليلة. قد يستفيد الكاتب من التّراث في إيجاد مواضيع ومعان مازال لها تأثير في الحياة، لكن عليه أنْ يتجاوز الأسلوب القديم ذا السجع والتنميق. فنية الخطاب القصصي الآن، أي المستوى الذي توصّل إليه اليوم، ليست ملكاً لأحد، وليست حكراً على تجربة كاتبٍ معين، صحيح أنّ لكلّ كاتبٍ أسلوبه الخاصّ به، لكن كلّ تلك الأساليب تذوب في فنية الخطاب القصصي العام .
* الثالوث المحرّم خطٌّ أحمر لأنواع كثيرة من الفنون، فالفنون التشكيلية، والتمثيلية ، هي الأخرى تبتعد عن هذا الثالوث (الدين، الجنس، السياسة) فكم من المسلسلات والأفلام التي عالجت المسائل الجنسية والسياسية، قد مُنِعتْ من البثّ؟ والخطّ الأحمر ذاك مرسومٌ من قبل كثيرٍ من الأطراف، فالمجتمع لا يقبل أن يتناول الكاتب الجوانب الجنسية والدينية، والسلطة لا تقبل معالجة الجانب السياسي، فتبقى المعالجة مسألة فردية.
فعندما يكون التابو الثلاثي حاضراً يغيب الإبداع الجادّ، ويُستفرَغ الأدب من مفهومه الفني ويُوَظّفُ لخلق قارئ ساذج مسلوب الإرادة وفق تعبير جان بول سارتر. فالخوف أولاً وأخيراً هو العامل الذي يقف حائلاً دون تناول هذا الجيل تلك المسائل. كما أنّ نقصّ المعرفة وضعف الموهبة عاملٌ آخر، فكثيراً ما لجأ الشعراء والكتاب إلى استخدام الرمز في الإبداع هرباً من المساءلة، كابن المقفع في كليلة ودمنة، حيثُ استعار شخصياته القصصية من بيئة الغابة، وعلى ألسنة الحيوان صاغَ حكمه ونصائحه للسلطان.
* تسعى الكتابة إلى تغيير معالم واقعٍ يعيشه كاتبها ولا يرضى به ويسعى إلى خلقه من جديد، وإعادة صياغته وفق مفهوم مختلف، فقد بشّر روائيون روس بالتغيّر قبل غورباتشوف الذي تأثّر بهم ومن ثمّ طرح مفهوم (بيروسترويكا وغلاسنوست)، وكانت الكتابة موظَّفة في خدمة الحرب الباردة قبل الألفية الثانية، فلم يعالج هموم النّاس، وابتعد عن هواجسهم. فإذا لم تقم الكتابة بالتعبير عن هموم النّاس فلا فائدة منها، لأنّها تقوم على دعامتين، الأولى: التعبير عن وجدان النّاس وهمومهم الصغيرة والكبيرة، والكشف عن عيوب المجتمع، والثانية: إحداث متعة فنية لدى المتلقي، أي تَرْكُ أثرٍ في نفسه، وهكذا يكون للكتابة إمتاعٌ ومنفعة، فتختزل معادلة التواصل البشري، وهي المعادل الموضوعي للحياة. وبذلك يكون للكلمة الأدبية دورٌ فعال في توجيه السلوك البشري ، فإذا كانت فائدة الأدب هي إحداث متعة لدى المتلقي، فإنّه يهدف في الوقت نفسه إلى معالجة هموم الناس الاجتماعية والحياتية. و زرع قيم الخير والجمال في النّفوس .
* لا يمكن للثقافة العربية أنْ تتطور وتزدهر بدون حرية، ففي ظلّ القمع السياسي والكبت الاجتماعي لن تشهد الثقافة ازدهاراً، والواقع العربي واقعٌ مريرٌ للغاية، فالتسلط والاستبداد والقمع والتّخلف جعلتْ الثقافة أسيرة ومكبّلة، فمثلاً نرى أنّ ما تتمّ ترجمته من وإلى الإسبانية في عامٍ واحد يزيد على ما تمّتْ ترجمته من وإلى العربية من عصر المأمون حتى الآن، وعدد سكان إسبانيا لا يتجاوز ربع سكان العرب، إذاً ما السبب؟ طبعاً انعدام الحرية والجوّ القمعي المفروض على الثقافة، فلا يُسمَح إلا بثقافة السلطة وعلى قياسها، إضافة إلى الجانب الاقتصادي الذي يشلّ الحركة الثقافية.
حتى ترتقي الثقافة العربية إلى مثيلاتها، يجب أنْ تعيشَ في مناخٍ من الحرية، مع تخصيص دعامة اقتصادية لها، فالاقتصاد أصبح عصب الحياة في عصرنا .
* كلُّ شكلٍّ جديد من الإبداع يكون مرفوضاً في بدايته، كقصيدة التفعيلة والنثر التي حاربها النّقاد في بداياتها، لكن يأتي الأدب أولاً ومن ثمّ يأتي النّقد لدراسته، والقصة القصيرة جداً مازالت، كفنّ سردي جديد، تبحث عن هويتها وذاتها، وقد يكون الكاتب السوري أحمد جاسم الحسين هو من أطلق عليها تعبير(ق،ق،ج). وازداد اهتمام الكتاب والنقاد بها مؤخّراً، حيث أُصدِرت مجموعات خاصة بهذا الفنّ. وهي تعتمد على التقاط صورة سريعة جداً، وكتابتها بتكثيفٍ شديدٍ، وبأسلوبٍ إيحائيٍّ وقصيرٍ جداً.
* الإنسان ابن بيئته كما يُقال، ولا بدّ أن تترك أثرها في كلّ إبداعاته، بيئة الجزيرة بيئة زراعية، فسهولها وبراريها الممتدّة على مدى النّظر تترك انطباعاتها كمكان في نفس الإنسان الذي يعيش فيها، فهي تكون حاضرة في وجداني لحظة الكتابة، أياً كان موضوع هذه الكتابة. هذه البيئة خصبة بالمواضيع والشخصيات والمشاهد التي تثري عالم المبدع، وتكون مادة خامة صالحة للكتابة عنها، وهي مخزونٌ زاخرٌ بمحتوياتٍ عذراء لم يمسسه قلم المبدعين. لكنْ للأسف لم أعشْ فيها فترة طويلة وخاصة أثناء دخولي عالم الكتابة، ورغم ذلك أثّرت كثيراً في نصوصي، وإذا قرأتَ المجموعتين القصصيتين السابقتين ستجد فيها ذلك الأثر واضحاً، والآن مجموعتي الثالثة (غير مطبوعة) غنية بتلك المؤثرات .
* أعتقد أنّ القصة القصيرة، فنّ اللقطة، وبما أنّها تأخذ مساحة صغيرة وفق تقنياتها السردية فهي بحاجة إلى اللغة الشعرية المكثّفة، بوصفها أهمّ عنصرٍ من عناصر الفنّ القصصي. فلغتها تختلف عن لغة الرواية التي تحتمل الوصف، وتُُقاس فنية القصّة بلغتها وفنية سردها، لأنّها ليست حكاية الجدات والمجالس، واللغة المحكية البسيطة تقتل فنية السرد، من هنا أميل إلى اللغة المكثّفة المليئة بالدلالات والاستعارات، وتكون في الوقت نفسه أكثر قدرة على التعبير الجمالي، ونقل المحتوى إلى المتلقي. وكثيراً ما تقترب لغة القصة القصيرة من اللغة الشعرية، وما يميّزها من الشّعر الجانب السّرد .
* النّقد الأدبي السوري، وتحديداً النّقد السّردي لا يرتقي إلى مستوى ما ينتجه كتاب القصة والرواية، واهتمام النّقد الأدبي ينصبّ على الشّعر أكثر من السّرد، رغم أنّ عصرنا هذا هو عصر الرّواية بامتياز، والقصّة القصيرة فرضت نفسها على المشهد الإبداعي بقوة، لكن النّقد تخلَّفَ كثيراً في هذا المجال، كما أنّه يفتقر إلى الدراسات الجادة والمعمّقة، كماً وكيفاً، وما نراه من قراءات كثيرة لمجموعاتٍ قصصية لا يخرج عن كونها انطباعات صحفية سريعة، تقترب إلى التذوق الفردي أكثر منها إلى رؤية نقدية منهجية .
وبشكلٍّ عام ثمّة قصورٌ معرفيٌّ كبير في النقد الأدبي عند العرب، والمشهد النّقدي كئيبٌ للغاية ، فالناقد الدكتور عبد العزيز حمودة، صاحب كتاب المرايا المحدّبة، يقول: أننا حتى لم نصل إلى مرحلة المخاض السابقة على مولد نظرية نقدية عربية.
أما الجانب الآخر من السؤال، فلا أهتمّ كثيراً بآرائهم، فإني أكتب دون أن يكون في داخلي ( التابو النقدي). فقد يعيبُ أحدهم اللغة القصصية المبسطة، بينما يعيب الآخر على اللغة الشعرية، وقد يكتشف النّاقد أموراً لم يلحظه الكاتب لحظة الكتابة التي يلعب فيها اللاشعور دوراً قوياً، فعلى الكاتب أنْ يكتبَ ما يراه جميلاً وممتعاً، وعلى النّقد أنْ يلحق بما أنتجه المبدع، وليقلْ فيه ما يشاء .
ـ كيف هي علاقتك مع المبدعين العرب والأكراد؟
* لي علاقات متميّزة مع المبدعين العرب والكورد، لا فرق لدي بينهم، وهي علاقة نابعة من الوجدان، ويسمو بعضها إلى صداقاتٍ شخصية عميقة قائمة على الاحترام المتبادل، وأكثر هذه العلاقات عمقاً هي مع كتابٍ سوريين، كورداً وعرباً، وخليجيين، لكن للأسف لا توجد علاقات لي مع الكتاب الكورد من كردستان العراق، ربما لأني لا أكتب في صحافتهم، ولا أتواصل معهم، فهم لا يعرفونني، رغم أني قرأتُ للكثيرين منهم، ولم أتبادر إلى التواصل معهم، قد يكون التّقصيرُ مني، بينما لي علاقات جيدة مع كتاب عراقيين عرب، يعيشون في الخارج ،وأحترم هذه العلاقة
* أرى أنّ القارئ جزء من العملية الإبداعية، فعند قراءته لنصٍّ ما، يقوم بإعادة إنتاجية هذا النّص بتعبير( بارت). ولا يُخفَى لأحد ما للقراءة من دورٍ كبير في تغذية الروح والعقل، لذا عليهم القراءة الدائمة، ومتى أصبحت القراءة عادة شخصية يكون القارئ قد تجاوز محنته من حالة التّلقي إلى حالة الإبداع .
أما عن همومي فهي أولاً وأخيراً كهموم أيّ مواطنٍ سوري، كوردياً كان أم عربياً، البحث عن مساحةٍ من الحرية (ولا أودّ أن أنزلق إلى السياسة هنا). وككاتب، أتطلّع أن يأتي يومٌ يتمكّن فيه الكاتب من العيش على ريع كتاباته، وممارسة حقّه بعيداً عن التابو (السياسي والاجتماعي والديني) الذي يوسّع منطقة الثالوث المحرّم (الدين والجنس والسياسة) على الكتاب ويضيق عليهم المكان، ويجعله أسيراً له. وأتمنى أنْ يُفسحَ أمام الأقلام الجادة المجال كي يستطيعوا التعبير عن آرائهم، وممارسة الكتابة بدون رقيبٍ .
————