الثقافة بوصفها مطية للتسلق والتملق

عمر كوجري

   الكتابة نزاعة لجعل الحياة ممكنة، وجديرة بالعيش بكل دقائقها وتفاصيلها الحلوة والمرة، الكتابة التي تدعو إلى غد أفضل هي مسؤولية أخلاقية، وعلى فارسها أن يتحلى بقيم سامية، لا أن يتعصب لأفكار هدامة تدعو إلى الحقد والكراهية، لأنها الشرط الإنساني الأجلى في منح الإنسان دفء إنسانيته، وهي الوحيدة التي تعجز عاديات الزمان على هزيمتها وقهرها، لأنها لا تعترف بالزمن الثابت أو الميت، ونشدانها الخلود على الدوام حتى بعد فناء صاحبها الفيزيائي.
     لكن أن تتحول الكتابة إلى ساحة لإلحاق الأذى بالآخرين، والنظر إلى لوحة الحياة بقلوب بلا بصيرة فتلك مشكلة، أما المفارقة المؤلمة فهي أن تنحو هذه الصنعة نحو التسطيح والإنشائية الساذجة، مما قد يسبب اليأس من كتابات كهذه!!

    قبل فترة، قرأت فيما قرأت مقالة «ثقافية جداً» بعنوان «ثقافة الردح» لكاتب متعدد المواهب اسمه الثلاثي سعيد هلال الشريفي، وكثيراً ما أقرأ اسمه مذيلاً تحت عنوانات لا رابط منطقياً يربط فيما بينها، وخاصة في حقل الكتابة للصحافة، فلو كان الرجل روائياً وشاعراً ومترجماً في الآن ذاته، لما كانت لنا ملاحظة، لكن أن يكتب في الجريدة نفسها مقالات نقدية وسياسية واقتصادية وترجمات عن اللغة الفرنسية وغيرها، فهذا يدل على خلل ما، لأن كل جريدة تفرز محرريها كل في قسم خاص مختلف عن الأقسام الأخرى، لكن يبدو أن الشريفي «من غير حسد» مسبع الكارات، وهذا ليس شأننا، ولكن ما يهم هذه المساهمة هو وضع مقالة «ثقافة الردح» للشريفي على مشرحة التفكيك، وما يمكن أن تقوله تلك المقالة – الفتح- في عالم الصحافة الورقية.
   استهل كاتبنا نصه بمقدمة مكرورة ومطروقة أبوابها كثيراً، وذكرتني بقول المرحوم صلاح قصاص: ألف حبل مشنقة…» يقول: «إن ألف خطاب تكتبه عن الحرية لا يساوي دمعة قهر على وجنة طفل مشرد..».
    المقالة «معجوقة» ومتخمة بمواضيع كثيرة رغم قصر حجمها النسبي، ولكنها لا تعطي أي موضوع حقه. فما الرابط بين دموع الطفل المشرد الذي تحدث عنه الروائي المصري محمد حسين هيكل في أوائل القرن الماضي- بالصديق الذي غاب، وثقافة بغض الحياة، وحب الموت، والسرفيس الذي يحوي بداخله الشريفي والرجل الخمسيني المتصبب عرقاً، والسائق ذي الرائحة الكريهة «هل شمَّه» والداعية الشاب الذي تحدث عن أهوال القبر، و..وو..
ولا ينسى الشريفي أن يختم نصه «العظيم» بالتهجم المجاني وغير المبرر على قطاع واسع من الشعب السوري اضطرته ظروفه السيئة وتقلبات المواسم إلى ترك قراه وفي قلبه غصة، والتوجه نحو المدن الكبرى، فهنا يبدو صاحبنا حانقاً آسفاً على الحالة الكارثية التي حلت بالمدن الكبرى التي تريَّفَت، ونشأت حولها العشوائيات التي«نمت كالفطور البرية» ولا ينسى أن يعبر لنا عن حزنه العميق على حال الريف الذي خلا من أهله – مستعيراً هذه المرة المخيال من أحد شعرائنا الكلاسيكيين.
  ولا نعرف لمَ ينفث سمومه على أولئك البشر، ولِمَ يريد إقناعنا أن أهل العشوائيات يفرضون ثقافتهم على «ساحة فكرية خاوية»، ولمْ يوضِّحْ حضرته هل هم فرضوا ثقافتهم بالموس الكباس أم بالتعب والسهر والأرق؟؟ حتى يجدوا لإبداعهم مكاناً وسط ضجيج وضوضاء المدينة التي لا تعترف بالمقامات والقامات إلا إذا كانت كذلك حقاً.
   ولم يوضح لنا الرجل، لماذا ساحات المدن الكبرى خاوية؟؟ وماهي الأسباب المباشرة وغير المباشرة؟؟ ولم يتوقفْ عند هذا الحد، بل تهجم دون وجه حق على المشرف على تشرين الثقافي مستهزئاً بجهوده الكبيرة في تحريك الراكد الثقافي عبر إثارته لمواضيع لم تنتبه إليها الصحافة الورقية من قبل، وقد نجح الرجل في ملفاته، وصارت تشرين تقرأ كثيراً في يوم السبت، بل إنها تنفد من الأسواق في ساعات الصباح الأولى رغم أن السبت عطلة رسمية في بلادنا.
   ولا ينسى أيضاً أن يغمز من قناة المشرف الثقافي، ويستهزئ من «ملتقى الرواية العربية» الذي استضافته دمشق قبل فترة قريبة، واستطاع ذلك المؤتمر أن يطرح قضايا إشكالية عديدة في الرواية العربية الجديدة، والترهل الذي أصابها وكيفية التخلص من «آباء الرواية»، ونجح المؤتمر في استقطاب أسماء مهمة سواء في حقل الكتابة الروائية أو التنظير لها نقدياً. وفي حدود علمي ومتابعتي لم يكن «تشرين الثقافي» يوماً للردح والتطاول على القامات الكبيرة، فقد أثارت الملفات الشهرية مواضيع هامة، ولاقت استحساناً – كما قلت – عند المتلقين، فعندما نتحدث عن ثقافة المكان في ظل العشوائيات، وتشارك أقلام عديدة في إنجاز ذلك الملف، فإننا ندين حالة ما لا نريدها أن تتأصل في ثقافتنا، ولكنها- شئنا أم أبينا- موجودة،         يبدو أن الشريفي غير مطلع على التجارب الأدبية، والتجريب الذي نادى به أدباء عظام في العالم.
  نص الشريفي للأسف يُنمِّي «ثقافة بغض الحياة»، فالرجل موتور لأن كتاب الأقاليم فرضوا أسماءهم بإبداعاتهم لا بالسطوة والمحاباة والتزلف والتملق والتسلق.
يقول الشريفي في معرض مدحه المجاني لأحد المسؤولين في صحافتنا المحلية:
« الأخ الأستاذ.. معرفتي بك زادتني محبة بشخصك وجعلتني – لاحظوا- مدمناً على قراءة زاويتك باستمرار، أسلوبك ممتع في كتابة المقالة.. ألخ…»
التزلف والتسلق واضحان، فالممدوح لا يكتب مقالات بل يكتب الرواية، وله زاوية أسبوعية صغيرة في إحدى صحفنا المحلية.
   وقبل عدة أشهر رأيت للشريفي مقالة لها علاقة بكل شيء عدا النقد، أو عرض كتاب، ووضْعِهِ تحت الضوء للقرَّاء، هو يعرف كيف يختار الأسماء التي ربما تفيده في نشره مقالاته وترجماته و…و.
    يقول في استهلال مقالة « نقدية» لديوان شعر: لم يعد هاتفي الجوال يرن مرة أو عدة مرات في اليوم منذ أواخر الصيف الماضي لتستقبل روحي المتعبة بهجة مشاطرة الصديق.. إرهاصات قصة حب جميلة كانت تحتضر» لا تعليق!!!
   ويقول في مكان آخر وفي المقال ذاته: « هتف لي ذات يوم ليبلغني بصوت متعب: يبدو أن وهج الكلمات قد فقد بريقه» أيضاً لا تعليق!!
  وإذا رغبنا أن نسمع وصايا الأخ الشريفي فعلى القامات الكبيرة في بلدنا الرحيل، لأن معظمهم ينتمي إلى الريف، وسأعد له القليل من تلك القامات: سعدالله ونوس- ممدوح عدوان- محمد عمران- بدوي الجبل- فارس زرزور- عبدالسلام العجيلي-  سليم بركات – حنا مينه.. عدا عن الكثير من الأدباء العرب الذين استطاب لهم هواء دمشق، وسكنوا في الأحياء الشعبية، أو العشوائيات كما يصفها الفطحل – الشريفي-     وغيرهم كثيرون..
يبقى أن أقول: إن العشوائيات ليست تجمعاً سكنياً أو جغرافيا أو نمط بناء.. العشوائيات هي أسلوب تفكير وأسلوب حياة وأسلوب حوار.. والشريفي أثبت أنه عشوائي بامتياز..
جريدة الصباح الجديد
9-10-2008  

emerkoceri@gmail.com 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صبحي دقوري

رغم الإنجازات العلمية والتقنية المذهلة التي حققتها العقود الأخيرة، تظل الإنسانية في كثير من الأحيان أسيرة لمتطلبات

البقاء . يثير هذا التباين تساؤلات عميقة حول كيفية تقدير المجتمعات للتعليم والنمو الفكري. بدلًا من تعزيز الفضول وتنمية التفكير النقدي، يبدو أن التعليم المعاصر، في سياقات عدة، غالبًا ما يُعرض العلم كسبب للمشاكل، بدلاً من أن يُنظر…

نجاح هيفو

في الاغتراب، وأنتَ ترفع عينيك نحو الأفق، تصطدم بنقطة وهمية تُسمّى “الحدود”. حدودٌ ليست مجرد خطوط على الخريطة، بل جدران صامتة نُقشت في أعماق روحك، زرعها التاريخ في قلبك، وأحاطك بها وكأنها قدر لا فكاك منه. هناك، خلف ذلك الخط المرسوم بالدم والخوف، ينام الوطن، ومعه كل ما تركت: البيت، الأزقة، رائحة الخبز، وضحكات…

غريب ملا زلال

مُذ

إتخذ الملك قراره

و هو ينحت

بالبلاد

مدينة

مدينة

و يقدمها

وليمة جاهزة

لرجال

كانوا ينامون

في غرفة الملكة

أيّ نوع من الخمر

كانوا يحتسون

النار تمور

و الحراس يلهون

والرب في سمائه

يفتح

قنواته

الآسنة

صارخاً

إحرقوها ..

21-08-2016

================

العمل الفني لسارا شيخي

 

إبراهيم سمو

يُمثّل شعر سعيد تحسين تجربةً فريدة في التماهي العميق بين الوجدان العاطفي واللغة الحسية المجسَّدة؛ إذ لا يظهر النص الشعري لديه كخطاب دلالي مجرد، بل كـ”كائن حي” ينبض بتوترات داخلية، حيث تتقاطع الروح ب”جسد اللغة”. في هذا الفضاء، تتحوّل القصيدة إلى مجال حيويّ يتداخل فيه الانفعال بالتعبير، وتنصهر فيه “التجربة الذاتية| بـ”البنية اللغوية”،…