علاوة على ذلك، فقد عرف طالباني طيلة سني حياته الحافلة بالمواقف، والأحداث، والمحطات والتحديات…بإعتدال في الرأي، وبرزانة في وجهة النظر، وبدبلوماسية عقلانية، هادئة بدت عصية على الفهم لدى أوساط المجتمع الكردي الذي لم ينل من الثقافة والعلم والسياسة إلا القليل نتيجة الظروف السياسية والاجتماعية المعروفة، ونتيجة الاضطهاد الذي تعرض له في تاريخه الحديث والقديم. ولم يكن طالباني يولي اهتماما لتلك الآراء والانتقادات التي توجه إليه. كان يصغي إلى صوت ضميره، ويرصد آلام شعبه، ويمضي بعزم إلى هدف وحيد الانتصار لشعب مضطهد. وعدم الاكتراث بتلك المزاعم التي تشكك في مواقفه، لم يكن نابعا من تجاهله للقضية التي آمن بها في مختلف الظروف، بل لأنه كان واثقا من صحة ما يبديه من طروحات، وما يقدم عليه من أفعال، ولعل المسارات المتفائلة التي سلكتها القضية الكردية في العراق في السنوات الأخيرة، والمكاسب والانجازات التي حققها الكرد في عراق اليوم، وتبوأه منصب رئاسة الجمهورية في العراق يدلل على أن مام جلال كان صائبا في مواقفه، ومدركا لخطورة الأحداث، ومتمتعا ببعد نظر ثاقب بعيدا عن الشعارات البراقة، والخطب الرنانة.
إن المبدأ الاستراتيجي الرئيس لديه يختزل في القناعة بأن الشعب الكردي لا بد وأن ينال، ذات يوم، حقوقه المشروعة العادلة، وما كفاحه في صفوف الثورة الكردية، ومشاركته في مؤتمرات المعارضة العراقية، ومحاربته للاستبداد والتسلط والظلم إلا أساليب لتحقيق ذلك الهدف السامي البعيد، وقد تحقق له جزء مما كان يطمح إليه، وهو الآن يسير على النهج ذاته إلى أن تتحقق جميع تطلعات الشعب الكردي.
بهذا المعنى يعتبر الكتاب الذي بين أيدينا بمثابة مراجعة سريعة للتجربة النضالية والحزبية والسياسية والثورية والحياتية التي خاضها طالباني على جميع الجبهات، ففي الفصل الأول يعرض أوسي لنشأة طالباني السياسية، وإنضمامه المبكر إلى الحياة الحزبية، ويظهر دوره في إطار الحركة الطلابية داخل تنظيمات الحزب الديمقراطي الكردي، والمهام السياسية والإعلامية التي اتخذها على عاتقه في تلك المرحلة. وبعدما يتوقف الكاتب، في هذا الفصل، عند الجانب الثقافي في شخصية طالباني، وكتاباته الصحفية والبحثية والتحليلية، وخطابه الفكري والسياسي التجديدي، ينتقل، في الفصل الثاني، ليتناول دوره السياسي والميداني في استئناف النضال الكردي، واندلاع الثورة الكردية الجديدة، بعد انهيار ثورة أيلول إثر اتفاقية الجزائر المعروفة عام 1975م. ويعرض الباحث، هنا، لمرحلة ما بعد تأسيس الاتحاد الوطني الكردستاني، وقراءاته لطبيعة المجتمع الكردي، ومحاولاته إظهار القضية الكردية وفق أسس ومبادئ عصرية.
في الفصل الثالث يناقش الكاتب أبرز المهام التي اتخذها الزعيم الكردي على عاتقه، وهو التركيز والحرص على العلاقات العربية الكردية، وهو ملف لطالما تعرض لسوء الفهم من جانب الراديكاليين في الطرفين، وكان طالباني يسعى، على الدوام، نحو إقناع الطرف العربي بضرورة التعامل الايجابي مع القضية الكردية، لما في ذلك من مصلحة للطرفين. ويتوسع الكاتب في هذا المجال ليظهر طبيعة العلاقة التي كانت تربط طالباني ببعض الزعماء العرب من أمثال جمال عبد الناصر، وحافظ الأسد، ومعمر القذافي… وسواهم.
ويلفت الكاتب الانتباه إلى المبدأ الذي اعتمده مام جلال في علاقاته وتحالفاته، والذي كان قائما على استقلالية القرار السياسي الكردي، وإظهار الطرف الكردي كندّ، وصاحب قضية عادلة لا كتابع في بورصة التوازنات السياسية الإقليمية، والدولية. وينتقل الكاتب في الفصل الخامس إلى الحديث عن التجربة التفاوضية لطالباني مع الحكومات العراقية المتعاقبة، وخصوصا نظام صدام حسين، وهو هنا يستعرض طريقة الزعيم الكردي في إدارة المفاوضات، وحنكته في الصراع السياسي والدبلوماسي، وفهمه العميق لطبيعة النظام البائد، ليختم الباحث الكتاب بفصل يشرح فيه الجانب الوطني لدى مام جلال من خلال تسليط الضوء على دوره، ومكانته في صفوف المعارضة العراقية، فقد عدّ طالباني، في مختلف أنشطة المعارضة العراقية، قطبا رئيسا لا يمكن تجاهل دوره، ومدافعا صلبا عن حقوق الشعب العراقي بصورة عامة، وحقوق شعبه الكردي بصورة خاصة.
لدى الانتهاء من قراءة هذا الكتاب القيم يتبادر إلى الذهن سؤال عفوي هل يمكن إختزال تجربة سياسية تجاوزت عمرها النصف قرن في كتاب لا يتجاوز عدد صفحاته المئتي صفحة؟ بالطبع الجواب هنا سيكون بالنفي، غير أن الجهد الذي بذله أوسي، والمعلومات والأرقام والوثائق التي أدرجها في كتابه تدفعنا إلى القول بان هذا الكتاب يعد بمثابة وثيقة هامة عن شخصية سياسية كردية إشكالية، وهو، في الآن ذاته، إضاءة لمرحلة سياسية عاصفة؛ مليئة بالتحولات الدراماتيكية، وقد حرص الباحث على أن يقدم شخصية مام جلال دون أية مبالغات أو مديح مجاني، وينأى بنفسه وبلغته عن تلك العبارات والكليشهات النمطية التي تتسرب غالبا إلى كتابات الباحثين الكورد لدى تناولهم أية شخصية سياسية.
نحن هنا أمام نبرة سياسية مختلفة تطمح إلى وضع تجربة سياسية غنية أمام مجهر النقد المنزه عن أي غرض، في سعي جاد إلى قراءة مواقف الرجل على ضوء التطورات السياسية التي شهدتها فصول القضية الكردية في العراق، ولعل الجانب اللافت في هذا البحث هو أن الكاتب لم ينتم يوما إلى الاتحاد الوطني الكردستاني الذي يتزعمه مام جلال، الأمر الذي أفضى إلى مقاربة حيادية متوازنة لا يعوزها الإعجاب بحنكة مام جلال وحسه السياسي الرفيع الذي استطاع من خلاله أن ينتزع حقوق شعبه، كما أن أوسي لم يلجأ إلى المؤسسات الكردية بغرض الحصول على دعم ما أو الترويج لنوع من الدعاية السياسية تسبق العمل. لقد عمل بجهد فردي، مكتفيا بتشجيع معنوي تلقاه من مكتب الاتحاد الوطني الكردستاني بدمشق، ممثلا بمسؤول المكتب عبد الرزاق توفيق، كما وفر له الباحث الكردي صلاح برواري، والاستاذ محمد عثمان أمين بعض الوثائق والحوارات والنشرات المتعلقة بمام جلال وبالتجربة النضالية لحزبه، والتي وظفها الكاتب في بحث جاء مكثفا، ليضيء جانبا من جوانب شخصية سياسية شامخة، تستحق التقدير والثناء.
———