ونحن في الربع الأخير من العام هل نجحت دمشق عاصمة للثقافة العربية؟!

عمر كوجري

     رويداً وبتؤدة تتداعى أوراق العام 2008 تحت مطرقة الزمن، شهدته دمشق بكل دقائقه، عاشته بتفاصيله « المتعبة» وأرادته حافلاً بما هو مرتبط بالحقل الثقافي، وكان عليها أن تثبت أنها فعلاً على قدر ثقة التاريخ الذي تتلفع تحت عباءته، تاريخ يقول إن دمشق أقدم مدينة على وجه البسيطة، وكانت فيما مضى من غابر الأزمان ملاذاً للثقافة والمشتغلين بالثقافة، وأن هذه الخاصية التي زنرت خصر دمشق جعلت اختيار العرب لها عاصمة لثقافتهم في تقليد سنوي، حيث تختار الفعاليات الثقافية العربية كل سنة مدينة عربية  لتكون عاصمة لثقافتهم. وبعد أن تنتهي دمشق من احتضانها لمشعل الثقافة العربية هذه السنة، ستسلم الراية للقدس في 2009.
التركيز على الشكليات:
   لقد أراد المعنيون في الحكومة السورية، وكذلك على مستوى المنظمات الأهلية « وإن بدور أقل» إعطاء الوجه اللائق لدمشق باعتبارها ستكون عروساً للثقافة العربية طيلة عام كامل، وتسابقت الجهود قبيل عام 2008 وتحولت دمشق إلى ورشة كبيرة وعمل دؤوب للوصول إلى يوم الاحتفال، لكن بدا واضحاً التعثر الواضح لتلك الجهود، فقد بدأ التحضير للاحتفالية بالتركيز على الشكليات فكان المواطن يستيقظ كل يوم على ردميات جديدة تقوم بها المحافظة لإعطاء الوجه التراثي لبعض أرصفة وشوارع دمشق، فزينت تلك الأرضيات بالحجر القديم لكن التسرع كان واضحاً فهذه الأحجار وتحت ضغط الوقت سرعان ما تعرض للتلف والعطب، وقس ذلك على باقي مظاهر الحياة.
   لقد شعر المسؤولون  ربما للمرة الأولى أن دمشق تلوثت تماماً وتحول نرجسها الأبيض إلى لون قاتم أسود بفعل الغازات المنبعثة من عوادم السيارات، وتلوث البيئة فيها الذي وصل إلى درجات تفوق القياس المسموح به عالمياً.
فكانت الفكرة « العبقرية» بإعادة الألق والنضارة إلى البيوتات الدمشقية والعمارات الشاهقة بتنظيفها وإزالة ما تراكم عليها من تلوث السنين بالنفخ بالهواء القوي محمولاً بالرمل فتحول هواء دمشق الملوث أصلاً إلى غبار متناثر نتيجة شفط الرمل على تلك الأبنية بطريقة عشوائية وكيفما اتفق، وصار الذاهب إلى مركز لقضاء عمل ما، وكأنه ذاهب إلى حرب داحس والغبراء حيث يكون الغبار والرمل والوسخ المتناثر من البيوت المزمع تنظيفها ضيوفاً غير مرغوبين بهم على ثياب الناس، بل كان بعضهم يعودون وكأنهم يعملون في مقلع للكسارات الرملية، أو مصنع لقص الحجر.

حرب ضروس على الكلمات الأعجمية:
إذا أراد واحدنا السير في شوارع دمشق لن يتفاجأ بانتشار ظاهرة الأسماء الأعجمية التي تملأ واجهات المحلات من هارت هاوس، وسيتي مول، وسيتي فوتير، وغيرها وغيرها، خاصة الأحياء الراقية مثل المالكي و« أبو رمانة» فمن النادر أن تقرأ واجهة محل يكون الاسم عربياً، وفي أحيان كثيرة تتوارى الحروف العربية أمام بهرجة وأضواء الكتابات الأجنبية « الانكليزية » على وجه التحديد.
ومن هذه الزاوية شعر القائمون على احتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية أن من غير اللائق أن يزورنا الضيف الفلاني، ويشعر أن العربية في دمشق محجور عليها في الزوايا فقد أعلنوا حرباً مدعومة بشرطة المحافظة على المحلات التي   تتذيل بأسماء أعجمية، فكان يعطى لصاحب المنشأة أيام معدودة ليغير اسم منشأته أو محله من الأجنبي إلى العربي، وإلا يصادر المحل، ويغلق ويتعرض صاحبها للمساءلة القانونية، وقد رضخ البعض لرغبة المسؤولين، أما البعض الكثير فقد استطاع أن يهدأ قليلاً حتى تذهب العاصفة، وعادت الأمور إلى سابق عهدها، وكأن شيئاً لكم يكن.
    والطريف أن بعض الأدباء احتجوا على هذا السلوك مبررين موقفهم بأن البلاد عليها أن تنفتح على ثقافات الغير وتتلاقح، و« ليس بإمكاننا المحافظة على هويتنا بهذه الطريقة اللامجدية، وإن شئنا أم أبينا لن نقدر على لجم الأجيال الجديدة عن التأثر والتعاطي مع الآخر الغربي أو الوافد» وبعضهم رأى أن ثمة بعض الأسماء لها علاقة بعبق المكان وخاصيته، ومدلوله مثل «مقهى الهافانا» حيث لا يزال هذا المقهى وإلى أيامنا هذه موئلاً وبيتاً ثانياً للكثير الكثير من  الأدباء والمهتمين بقضايا الفكر والكتابة في كل البلاد والأمصار العربية والمغتربات، وإذا بحث واحدنا عن أديب وصحفي فلابد أنه عرَّج اليوم على مقهى الهافانا، أو أنه عائد إليه عما قليل. 

 غداً أمر:
وهكذا انطلقت فعاليات دمشق كعاصمة للثقافة العربية لعام 2008 ، وجهدت الأمانة العامة الراعية لهذه الاحتفالية، ورغم البرد القارس الذي طيَّر حروفاً كثيرة من فم المذيعة التي قدمت برنامج حفل الافتتاح، انطلق الكرنفال بحضور مليون شخص بحسب إحصاءات الصحافة المحلية، وقد نصبت في ساحة الأمويين بالقرب من مبنى الإذاعة والتلفزيون شاشة عملاقة عرضت مشاهد الطبيعة في مختلف أنحاء سورية، ولكن الارتباك وعدم الجدية بالتحضير كان واضحاً، فلم يكن كافياً أن تنثر جميلات الشام الورود على رؤوس الجمهور المحتشد حتى تنجح الاحتفالية، وليس مهماً أن يحيي الحفل بعض الفنانين الذين دُفِع لهم بالعملة الصعبة حتى تنجح الفعالية!! هؤلاء الذين لم تجعلهم صبايا الشام المغرمات بالفن والفنانين يهنؤون بتقديم وصلاتهم الغنائية لشدة تدافش المعجبات عليهم، واحتضانهم وتقبيلهم و.. و.. وحلَّ الارتباك ببعض من تهمهم أمر هذه الاحتفالية « الجدية» التي رأوها تتحوَّلُ تحت أبصارهم إلى هزار ودلع و«بوسات» بلا طعمة، فكادوا ينهون النشاط الغنائي واحتفالات الهيص والمفقس مثلما حصل لبعض الفنانين الذين غنوا مؤخراً في الكويت في عطلة عيد الفطر.
   بعدها وجدنا بعض العروض البهلوانية من فرق أجنبية وإطلاق المناطيد والألعاب النارية التي أضاءت سماء الشام وحوَّلت جبل قاسيون إلى ظهيرة في عزِّها، وكانت تدعم المؤثرات الصوتية شركة إيطالية اسمها« استوديو فيستي» وهي شركة عالمية مختصة برعاية مثل هذه المهرجانات أو الكرنفالات الضخمة.

هدوء ما بعد العاصفة:
كان المهتمون بالجانب الثقافي في دمشق يتوقعون من القائمين على شأن الاحتفالية أن تكون جهودهم منصبة على إضاءات كثيرة في عالم الثقافة، علَّ هذه الإضاءات تروي ظمأ السوريين وتعطشهم لكل ما هو جديد في تخوم الثقافة والمعرفة، ورغم أن الأمانة العامة للاحتفالية قد قامت بالعديد من الأنشطة مثل إقامة الندوات والحوارات والمحاضرات الفكرية والأدبية، وتنشيط الحركة الفنية بإقامة بعض المعارض ومنتديات النحت في الهواء الطلق، وكذلك محاولة تنشيط الحالة المسرحية الراكدة التي توارت بفضل طغيان المسرح التجاري الذي يغيب عن سابق إصرار وعمد المقولات الإنسانية الكبرى لصالح التهريج والضحك المجاني والاعتماد على المزايا « اللطيفة » لبعض الفنانات، والتركيز على الجانب الذي يحاكي قيم هكذا جمهور، فأطلقت أمانة الاحتفالية بعض المسرحيات الجادة ، لكن معظم هذه الجهود شابها البرود وعدم الجدية المطلوبة والإحساس بالمسؤولية العظمى بمعنوية الحدث – الظاهرة- ومن هذا الجانب قرأنا نقوداً لاذعة من الصحافيين تهاجم القائمين على الاحتفالية ليس من منظور الهجوم بقدر ما كان رصدهم للحدث جاء من زاوية لم يدخل الرضا في نفوس القائمين على الاحتفالية. وقد اتهمت د. حنان قصاب حسن بأنها تحابي هذا الوجه الثقافي، فتركز عليه، وليست مرتاحة من ذاك الوجه الثقافي فلا تقدِّمُه لاعتبارات غير مقبولة، وهذا ما أرادت أن تقوله زوجة المسرحي الراحل سعد الله ونوس الذي يعتبر علامة فارقة وصوتاً في غاية الأهمية الإبداعية، فتقول زوجته السيدة  فايزة شاويش أن راحلها غُيِّبَت أعماله المسرحية، وصرحت في أكثر من مناسبة بأن الدكتورة قصاب حسن تُركِّز، وتولي الأهمية القصوى لمبدعي دمشق« باعتبارها دمشقية» مثل الشاعر الراحل نزار قباني الذي اتخمت العاصمة بالدعاية له عبر لوحات ضخمة من بعض أبيات شعره، أو من الاحتفالية الضخمة التي أحياها ثلة من المطربين العرب« كاظم الساهر – لطيفة التونسية وسواهما» الذين غنوا من كلماته وأشعاره. ورأت أنه حتى دعوة نجل الفنانة فيروز، زياد الرحباني الذي جاء إلى دمشق أول مرة في حياته كان اعتماداً من قصاب حسن على الرباط العائلي الذي يربط بين عائلتها وآل الرحباني.
 وكذلك كتب الصحفي راشد عيسى مقالة بعنوان « خيبة المثقفين السوريين بالعاصمة الثقافية» ونشرها في صحيفة السفير اللبنانية حيث رأى أن أمانة  򙴯« دمشق عاصمة للثقافة» تسعى عبر نشاط ثقافي كهذا أن يقترب من يوميات المدينة وطرائق عيشها، ولكن الناس الذين انتظروا أن تهتم بهم « عاصمة الثقافة» من قبل ملُّوا الانتظار، أدارت العاصمة ظهرها لهم فأداروا ظهورهم. كان حفل الموسيقار السوري نوري اسكندر شاهداً على انفضاض الناس، لم تستطع الاحتفالية أن تملأ ربع الصالة لحفل واحد لموسيقار بها الحجم. لعل لسان حال الناس يقول: هاقد ذهبت فيروز، فماذا أنتم فاعلون؟؟
وبعد:  يبدو أن الكثير من هذه الجهود انصبت في خانة طلاء بعض البيوت بألوان معينة، أو نفخ العمارات والشقق السكنية التي تفتقد إلى بهجة جمالية بالرمل حتى تستعيد ألقها، أو الطلب من أصحاب البنايات أن يشتركوا بأبرة واحدة ولاقط واحد
 بدلاً من غابات الصحون اللاقطة التي تُشوِّهُ أسطح البنايات والعمارات في  دمشق أيما تشويه، وبالتأكيد حتى هذا المطلب « الحضاري» لم يحصل.
    ويدور في حلقات المهتمين والكتاب الخاصة أنه حتى الكتب الصادرة عن الهيئة العامة للكتاب، من دراسات نقدية أو دواوين شعر أو روايات أو حتى الكتب التي احتفت بالمبدعين السوريين، في معظمها غلب عليها طابع التسرع وخاصة الكتب التي صدرت عن عبدالسلام العجيلي وأدونيس ونزار قباني.
   وشخصياً اطلعتُ على بعض نماذج النصوص الشعرية التي فازت برعاية الاحتفالية لها، وحصل أصحابها على مبلغ« محرز» من المال ناهيك عن طباعتها على حساب الهيئة كانت في غاية التواضع والشح الإبداعي، وكذلك اطلعت على روايتين لم تخرجا عن هذا السياق.
وعودة إلى التساؤل الذي وسَمَ استهلالةَ هذه المساهمة وهو: هل استطاعت دمشق أن تنجح كعاصمة للثقافة العربية؟؟

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…

ابراهيم البليهي

لأهمية الحس الفكاهي فإنه لم يكن غريبا أن يشترك ثلاثة من أشهر العقول في أمريكا في دراسته. أما الثلاثة فهم الفيلسوف الشهير دانيال دينيت وماثيو هيرلي ورينالد آدمز وقد صدر العمل في كتاب يحمل عنوان (في جوف النكتة) وبعنوان فرعي يقول(الفكاهة تعكس هندسة العقل) وقد صدر الكتاب عن أشهر مؤسسة علمية في أمريكا والكتاب…