شيء من الذاكرة وبعضٌ من الوفاء للشيخ عفيف الحسيني

دهام حسن

في منتصف السبعينيات من القرن الفائت، وفي زيارتي اليتيمة لمصر القاهرة، قادنا الدليل إلى جامعة الأزهر، فراعتني تلك الأعمدة التي حركت مخيلتي باتجاه طفولتي والتعليم في الكُتَابِ، واسترعى انتباهي بضعةُ فتية قد اقتعدوا الأرضَ بمحاذاة العمود الأزهري، يتوسطهم إمامٌ أو شيخ دين، يقرئهم مبادئ وعلوم الدين، ومن باب الفضول ورداً على استفساري أوقفني أحدهم أمام حجرة وطيئة السقفِ، معتمةٌ لدرجةٍ ما، قائلاً: هذا ما تسأل عنه، في هذه الحجرة كانت بدايات طه حسين التعليمية كما أوضحها لاحقاً في كتابه الأيام.
حينها لا أعلم كيف تحلق بيّ الخيال بعيداً، فطار ذهني إلى حجرة الشيخ عفيف الحسيني أمده الله بطول العمر وألبسه ثوب العافية، تلك الحجرة الواطئة السقف، المظللة بنهارات عامودا، والمطلة على شارع فرعي باتجاه الشرق، بُنيت الحجرة من الداخل على مدار جنباتها الأربعة بما يشبه الدكة، ألقيت عليها أستار وبسط وفرش بسيطة، نقتعدها نحن الزائرين، والشيخ عفيف بجسمه الضئيل يركن في كرسيه الذي يبتلع نصف هيكله، وكانت نظارته الكبيرة تغطي نصف وجهه، وكثيراً ما كان الشيخ ينحني إلى الأمام يتكئ على مرفقيه يغرسهما في طاولة صغيرة بسيطة أمامه، مكباً على كتاب وبين يديه صفائح من ورقٍ وأمامه قلمٌ رشيق كرشاقة صحابه. كان الشيخ عفيف مرحاً في عفة، محباً للتندر والتفكه دون ابتذال، يطلق ضحكاتٍ طفولية بيضاء صافية، لم أره يوماً قد تضايق أو تذمر من أحد الجلساء، وكان يختلف على حجرته نماذج بشرية مختلفة المشارب، حتى أذكر ذات مرة كنت في مجلسه دخل علينا (ئسماعيلي دين) فمازحه الشيخ قليلاً، ودفع كما دفعنا لإسماعيل ما تيسر، فدعا لنا بالخير وتوجه إلى الشيخ بقوله أنتم من أهل الجنة؛ كان يتردد إلى حجرته كفيفٌ ذو صوت شجي، فيطلب منه الشيخ أن يغنّي وكان يستمتع بأدائه..
كان الشيخ رغم حبه وإعجابه بذكاء شقيقه (توفيق) كثيراً ما يعاتبه ويؤاخذه، أذكر قال لي ذات مرة هل سمعت أن أحداً يشكو من ألمٍ في شعره، فتوفيقنا يزعم بألم ووجع الشعر، واستطرد: لولا لا مبالاته وهو بهذا الذكاء وبهذه الملكة، لكان بمرتبة الدكتور زكي مبارك وأحمد حسن الزيات وربما ذكر آخرين..
كنا ذات مرة في حديثٍ ذي طابعٍ خصوصي، يتعلق بيّ، فمر أمام الباب فتىً دميم الوجه أعور فاتحاً صدره للهواء فارداً ذراعيه لابساً بنطالاً ضيقاً مبرزاً صدره للأمام، وكأنه (عنترةُ زمانه) فقطع الشيخ حديثه وتوجه إليّ بالكلام قائلاً: بنات اليوم يرين في مثل هذا فتى أحلامهن ولا يرغبن في الشاب الهادئ الآدمي وكان يقصدني.
رغم حيائي الجم من حضرته، كنت آخذ حريتي في الكلام معه، وقد شجعتني على هذه الحرية طبيعة هذا الرجل الذي كان يصانع الكبير والصغير. وعندما كنت أتلجلج حياءً في حديثي عند نقطةٍ تخدش المشاعر، يضحك ويقول: أكمل..

كثيراً ما كان يكلمني عن قرية موزان وطفولته مع عمٍ ليّ..

لم يكن الشيخ متزمتاً دينياً أبداً، تصور أنا الشيوعي المعروف على مستوى البلدة الدينية الصغيرة، أقصد عامودا وشيوع حركة (الإخوان المسلمون) في البلدة. فضلاً عن أنه من سلالة أسرة دينية أشهر من نارٍ على علم، جمعتني به محبة العم لابن أخيه، هكذا كانت نظرتي إليه، وأظن أنه كان يبادلني قدراً من هذا الشعور..
نادراً ما كان يبارح داره، أذكر قبل فترة غير بعيدة، أثرنا معه حديثاً عن القامشلي، فقال لنا: لا أتذكر القامشلي إلا منذ أيام (الحناتير) أي أنه لم ير القامشلي منذ نحو أربعين عاماً والمسافة بين عامودا والقامشلي أقل من ثلاثين كيلو متراً.
كان الشيخ عفيف عالماً في علوم الدين والفصل في القضايا الفقهية الشرعية، وكان عالماً بالنحو ومذواقاً للشعر. أذكر ذات مرة أختلف المدرسون أثناء التصحيح في مسألة نحوية، فقام جميل داري الشاعر الصديق قائلاً سآتيكم غداً بالإجابة الصحيحة، ولما كان الغد حسم الخلاف بالوجهة الصحيحة التي قالها الشيخ عفيف واقتنع الجميع بذلك راضين.

كان محباً لشعري مصغياً إليه وأنا ألقي عليه بعض النصوص وكانت تشده بعض الصور والأخيلة وبعدها كلما رآني كان يردد هذا الشطر من قصيدةٍ لي (تعانق أذيالها كسر الركب) وهي تعود لعام 1962 سنة فصلي النهائي من جميع المدارس في سوريا لأسباب سياسية ولم أكن على معرفة بوزن الشعر، ولفظة (كسر) هي من إخراج الشيخ عفيف..
كنت قد أهديت له قصيدةً بعنوان (دولة الشعر) تجاوزت الأربعين بيتاً وهي قصيدة مميزة في مناسبتها ومنها هذه الأبيات:
شيخــنا  قـد  راقـني..!  حجـــرتــه
مــوســم الشعـــر غـــدت مــربــد نا

فا قـتعـــد نــا  د كــة  تـحـــزمـنــا
ننشـــد  الشــعر  رنـيــمــا  وغــنـــا

وتـحــلـقـنا  ســوا را  حـــولـــه
نــرقـب  الفتوى  لمن  قــد  أحـسنــا

وإذا مــا سفّ  بالشعـــر  فـتــى
خلع  البرد   عليه  درنــا

فــذ ر  الشعـــر  ودع  حــرمته
لـست  بالشـعـــر  حـــريا  بـا لثـنـا

كثيراً ما كان يذكر أمامي اسم الصديق دحام عبد الفتاح ويشيد بشاعريته وكان يردد شطراً منغماً من قصيدة له، تحضرني الآن هاتان الكلمتان من القصيدة (وحمص تمنيني).          
أذكر لاحقاً ذات مرة أنه أبدى استياءه من نصٍ شعري لأحد اللصيقين به بصلة القربة من حيث المعنى في قوله (سبحانك يا لينين) قائلاً هل يجوز مثل هذا التعدي والتجاوز، واستهجنت أنا بدوري هذه العبارة..

كسبت من الشيخ فضلاً عن محبته وصداقته، كسبت أيضاً صداقة ولده محمد وهو يجلني كثيراً، ويخاطبني بلفظة مولاي، وهو الآن يتهيأ للزواج فتهانيّ بهذا القران الميمون.
كما تعرفت على ابنه عبد اللطيف الذي أراه يجتهد وقد تحسنت لغته وتقدمت كتاباته، وأعتقد أن له ابناً ثالثاً صادق أخي المغترب وكانت هذه المعرفة سبباً لتقاربهما وتآلفهما..

ما أكبرك أيها الجليل طفلاً، كهلاً، شيخاً.. كم ساءني لما ثقل سمعك، وضعف بصرك وأنت على عتبة الثمانين وأتخيلك تدعو لي بطول العمر مردداً قول الشاعر:

إن الثمانين وقد بُلَِّغتَها          قد أحوجت سمعي إلى ترجمانٍ

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبدالعزيز قاسم

(كان من المقرر ان اقدم هذه المداخلة عن “اللغة الشعرية في القصيدة الكردية المعاصرة ـ ڕۆژاڤا” في مهرجان فولفسبورغ للشعر الكردي اليوم السبت ٢٥ اكتوبر، ولكن بسبب انشغالي بواجب اجتماعي قدمت بطاقة اعتذار إلى لجنة إعداد المهرجان).

وهذه هي نص المداخلة:

من خلال قراءتي لنتاجات العديد من الشعراء الكرد (الكرمانجية) المعاصرين من مناطق مختلفة “بادينان،…

إبراهيم محمود

 

تلويح خطي

كيف لرجل عاش بين عامي” 1916-2006 ” وفي مجتمع مضطرب في أوضاعه السياسية والاجتماعية، أن يكون شاهداً، أو في موقع الشاهد على أحداثه، ولو في حقبة منه، إنما بعد مضي عقود زمنية ثلاثة عليه، دون تجاهل المخاطر التي تتهدده وتتوعده؟ وتحديداً إذا كان في موقع اجتماعي مرصود بأكثر من معنى طبعً، كونه سياسياً…

د. محمود عباس

حين يمرض الضوء، تبقى الذاكرة سنده.

قبل فترةٍ ليست بعيدة، استوقفني غياب الأخت الكاتبة نسرين تيلو عن المشهد الثقافي، وانقطاع حضورها عن صفحات التواصل الاجتماعي، تلك التي كانت تملؤها بنصوصها القصصية المشرقة، وبأسلوبها المرهف الذي حمل إلينا عبر العقود نبض المجتمع الكوردي بخصوصيته، والمجتمع السوري بعموميته. كانت قصصها مرآةً للناس العاديين، تنبض بالصدق والعاطفة،…

خالد حسو

 

ثمة روايات تُكتب لتُروى.

وثمة روايات تُكتب لتُفجّر العالم من الداخل.

ورواية «الأوسلاندر» لخالد إبراهيم ليست رواية، بل صرخة وجودٍ في منفى يتنكّر لسكّانه، وثيقة ألمٍ لجيلٍ طُرد من المعنى، وتشريحٌ لجسد الغربة حين يتحول إلى قَدَرٍ لا شفاء منه.

كلّ جملةٍ في هذا العمل تخرج من لحمٍ يحترق، ومن وعيٍ لم يعد يحتمل الصمت.

فهو لا…