* باقة ودادٍ وتقدير معمّدةٍ في نبع التّمنياتِ القلبية بدوام العطاءِ والتّأل أقدّمها إليك أخي الأستاذ والكاتب العزيز بسّام الطّعان.
أنا فردٌ أنتمي إلى المنظومةِ البشريةِ التي تعومُ في بركاتِ المنظومةِ الإنسانيةِ الأمّ, أحاولُ ومنذ مرحلة وعيي الأوّل أن أؤسّسَ مع أخوتي البشر للعالم الذي نسعى معاً لتحقيقه والذي ما زال يغفو في ملكوتِ أحلامنا, ينتظرُ نور الخلق والولادة, حتى تحوّل وهو في لحظاتِ غفوته القبس الذي نهدهدُ على ضوئه كلّ آمالنا وآلامنا الآنية والمستقبلية.
أمّا بالنّسبةِ لكيفية مجيئي إلى عالم الكتابة والأدب فأستطيع أن أؤكد لك أنّ هذا العالمَ الملائكيّ المقدّسَ هو مَنْ شدّني إليه بودّ ومحبّةٍ منذ تجاوزي للسّنواتِ الأولى من عمري وانتسابي إلى المدرسةِ, بمجرّدِ أن تعلّمتُ الأبجدية العربية في المدرسة والكردية من أسرتي التي كانت تهتمّ بالّلغة اهتماماً كبيراً حتى تشكّلتْ بيني وبين هذا العالم أواصر ودّ وصداقة بعد أن منحني فيزا الدّخول وأنا في مرحلةِ شبابي الأوّل. فصارَ الشّعرُ بمثابةِ الوتين الذي يُعتَبر العصب الأساس للقلب إذا انقطع مات صاحبه الذي لا أستطيعُ الاستغناء عنه إلا بعد أن تستغني الحياة عن عمري والقصّة هي مَنْ جذبتني إليها من خلال الأحداث الغريبة والمثيرة والدّراماتيكية التي تحدث لأسرتي ولي شخصيّاً فلم أجد بدّاً من ترجمتها كتابياً.
* الحياة بكلّ مباهجها وآلامها, بكلّ أفراحها وأتراحها, بتقلّباتها وتغيّراتها الإيجابية والسّلبيةِ هي مَنْ دفعتني في البدايةِ إلى الكتابةِ, حيثُ وجدتُ وأنا طفلة رغبة جامحة إلى الكتابة عن كلّ ما يجولُ في ذهني ونفسي, خاصة وقد أحسستُ بامتلاكي لملكة الكتابةِ والتّعبير وفيما بعد تحوّلتْ بالنّسبةِ إليّ إلى هواية لا أستطيع الاستغناء عنها, وما زلتُ أحتفظ ببعض دفاتري التي كنتُ أدوّن فيها مجرياتِ الأحداث التي كنتُ أعيشها مع أسرتي ومحيطي, وبعض هذه الدّفاتر يعودُ إلى الصّفّ السّادس الابتدائي, وكلّما كنتُ أكبرُ عاماً كانت هذه الرّغبة تنمو وتكبرُ معي, لأجدَ نفسي أخوض غمار الأدبِ بأجناسه وفنونه المختلفة من شعر وقصّة ومقالة وخاطرة, وخلال السّنواتِ العشر الأخيرة باتتْ قضية المرأة وما يتبعها من قضايا التّربيةِ والطّفولةِ المواضيع الأهمّ التي استحوذتْ على اهتمامي بالإضافةِ إلى الشّعرِ والقصّةِ.
* مهمّة الكتابةِ منذ نشوئها الأوّل مهمّة إنسانيةِ, تحملُ أهدافاً نبيلة تسعى لتحقيقِ عالمٍ خالٍ من الحروبِ والقتلِ والظّلم, عالمٍ ينعمُ فيه البشر-كلّ البشر- بحدّ مناسبٍ ومقبولٍ من العيش الهانئ والتّعايش السّالم والآمن, لذلك أرى أنّ الكتّابة الحقة والسّامية تقفُ في وجه كلّ ما هو غير إنسانيّ وغير نافع, وهي التي تكشفُ عن مكامن الشّرّ والظّلم في العالم, وحتى إن لم تستطع إزالةِ كلّ هذه الأمور فإنّها تستطيعُ على الأقل رسم واقع نبيل لدى البشر يستطيعون من خلاله التّنزّه في فضاءاتٍ يحلمون بأن يلمحونها على أرض الواقع.
والشّعر غذاء الرّوح, ومتنفس اليائس, وخليل الواجد, ونغمُ النفّس والقلب.
ـ كيف تنظرين إلى العلاقة بين الكتاب والشعراء العرب والأكراد في سوريا؟
ـ للأسف حتى الآن العلاقة بينهم لم تصل إلى الحدّ الذي يطمحُ إليه الكاتب والشّاعر الكرديّ, على الرّغم من حدوثِ انفتاحٍ ثقافيّ وحضاريّ واضحٍ بينهم, إلا أنّ المسألة ما زالتْ مقتصرة حتى الآن على الكتّاب والشّعراءِ الكرد الذين يعيشونَ في المدن السّوريةِ الكبرى كدمشق وحلب والسّاحل السّوريّ, الذين يستطيعونَ التّواصلَ المباشرَ مع الكتّابِ والشّعراءِ العرب ويتمكّنون من توطيدِ علاقاتٍ طيّبةٍ معهم, أمّا الذين يعيشون في المدن والمناطق الصّغيرة يجدونَ صعوبة في ذلك على الرّغم من وجودِ علاقاتٍ بينهم ولكن ضمن نطاقٍ ضيّقٍ نسبيّاً بالمقارنةِ مع الذين يعيشونَ في المدن الكبرى, هذا من جهةٍ, ومن جهةٍ أخرى أظنّ أنّ هناك تباطؤاً ملحوظاً من قبل كتّابنا وشعرائنا العرب تجاه الكتّابِ والشّعراءِ الكرد, وهذه مناسبة متاحة لندعو فيها الأخوة من الكتّابِ والشّعراءِ والمثقفين العرب السّوريين وغير السّوريين لفتح آفاق فكرهم وقلبهم ونفسهم أمام أخوتهم الكرد الذين يشاركونهم في أمور عدّة مصيرية مشاركة تاريخيةٍ عريقة.
* وظيفة الشّعر كلّ ما ذكرته بالإضافة إلى الولوج إلى النّفس البشرية ومواساة مكامن قلقها ويأسها وشغبها وتحويلها إلى هدوءٍ وأمل وسكينة, ومشاركتها في فرحها ونشوتها و ابتهاجها, فالشّعر إن لم يتمكّن من الولوجِ إلى النّفس والقلبِ والرّوح لايمكن أن يسمّى شعراً, ولا يمكن أن يستمرّ ويحيا, فحتى بعض أنواع النّباتاتِ والحيواناتِ أثبتَ العلم تأثرها بسماع الشّعر والموسيقا وانتشاءها بهما.
وعلى كلّ حال لهؤلاء النّقاد آراؤهم التي علينا أن نحترمها ونقدّرها.
في التّعريف العام للنقد أنّه الوسيلة التي من خلالها نميّزُ حسن الشّيء من رديئه, إيجابيّه من
سلبيه. أمّا مجالاته فتتعدّدُ وتتشعّبُ لتشملَ كافة جوانب الحياة, وكافة شرائح المجتمع
وطبقاته. ومن خلاله نتمكنُ من الإحاطة والإلمام بأمور مختلفة كنّا نجهلها في الموضوع الذي بين يدينا, ونستطيعُ التوصّل إلى الغرض المراد منه. وبذلك يُعدّ النقد المرآة الصّادقة التي تعكسُ كلّ ما هو جيّدٌ وصحيح, وتطرحُ ما هو رديء وفاسد.
والنّقد وكونه يُعتبر علماً من العلوم, وجنساً فنياً لا يُستهان به فقد استند إلى قواعد وأصول لا بدّ لكلّ مَنْ يحاول ويرغبُ في الإبحار في خضمّه أن يكون ملمّاً بأكبر قدر منها إلى جانب ضوابطه التي ترقبُ مَنْ يتعامل معها وترصد تحرّكاته والتي تتلخّصُ في:
أوّلاً: امتلاك الموهبة النقدية القادرة على تحمّل المسؤولية.
ثانياً: التّمحيص والتدقيق في اختيار المواضيع المعنية بالنّقد والدّراسة.
ثالثاً: الموضوعية وأعني بها العقلانية والتعقل في تناول الموضوع المراد انتقاده ولكن هذا
لا ينفي دور العاطفة ولا يهملها بل ما أقصده هو التوفيق بين الجانبين معاً: العقليّ أو العقلاني والرّوحيّ أو العاطفي فحينما نطالع مؤلفاً ما فإنّ عاطفتنا تشاركُ عقلنا في الحكم عليه سلباً كان أم إيجاباً. ومن خلال ذلك نستطيعُ أن نحقق الغرض المرجو منه ونتوصّلَ إلى أسمى أنواعه بكلّ معانيه وقيمه المسمّى بـ/النقد البنّاء والهادف/ والنقد الذي لا يحققُ الهدف منه لا يُعتبَرُ نقداً, والذي لا يسعى لتحقيق أهدافٍ لا يُعتبر هدّافاً ولا بنّاءً والهدف منه يعني:
أوّلاً: تعريف المنقود أو المنتَقَد بمواطن الخطأ والصّواب في نصّه.
ثانياً: تنبيه القارئ أو المتلقي إلى جوانب لم يستطع ملامستها أو فهمها في متابعته للموضوع
المطروح وإحاطته بمعلوماتٍ أوّلية وهامّة تحفزه إلى قراءاته ومشاهدته.
ثالثاً: إثارة انتباه المنتقد للعثرات التي قد تعيقُ مسيرة تقدّمه وتطوّره.
والأمر المحزن حقاً هو محاولة البعض الغوص في يمّ النقد وهو شبه جاهل بأصوله وقواعده
المفترض الالتزام بها لذلك نجده إمّا قرأ مؤلفاً أو كتاباً أو تابع مشهداً تلفزيونياً أو مسرحياً
لا مسَ حسّه أم لم يلامسه, ودغدغ شعوره وفكره أو لم يدغدغ نجده يطلقُ العنان لقلمه الأخرس ومزاجه الخاص ليحكما على موضوعه, فإمّا أن يسهب في ذكر محاسنه ومزاياه لدرجة المبالغة أو يتفنّن في تعداد مساوئه بشكل يخالف المنطق والعقل متناسياً بذلك أموراً عدّة يجب اتباعها في نقده هذا ومن أبرزها:
سلامة الشّعور, وصوابُ التفكير, واستخدام العقل, والعاطفة التي تتجاوب مع هذا العقل وتسايره فلا يُعقل أن يعرض كتابٌ أو مؤلف أيّاً كان موضوعه وأيّاً كانت محاوره وركائزه من دون أن يحمل في طيّاته مفاهيمَ وفكر وقيم تهمّ الإنسان والمجتمع ككل.
وهذا لا يعني أن يكون أحدنا متخصّصاً في المجال النقدي الذي يتناوله فليس بالضّرورة أن ينتقد الشّعر مَنْ هو شاعر, والقصّة من هو قصصي والفلسفة من هو فيلسوف…إلخ ولكن من المتفق عليه ولعدم الوقوع في شرك التعصّب والنظرة الضّيّقة للأمور أن يكون ذوّاقة للمجال النقدي الذي يبحرُ فيه, وملمّاً بأصول وقواعد النقد العامّة.
من هنا نجدُ أنّ الناقد الحق الصّادق هو من يعرّف المنقود بمواطن الخطأ لديه بطريقة أدبية, مهذبة يراعي فيها مشاعره فلا يوقعه في قاع الإحباط والسّوداوية معتمداً على الأدلة المقنعة, ومرتكزاً على قواعدَ سليمة وآراء صحيحة, مستندة إلى اليقين ومنطلقة من الضّمير الحيّ اليقظ.
أمّا بالنّسبة للمشهدِ النّقدي في سوريا فأظنّ أنّه لايقلّ سوداوية عن عموم المشهدِ النّقدي في العالم العربيّ وفي العالم الكرديّ, وحتي في عموم الشّرق, لأنّنا لا نعيشُ أزمة كتّابٍ ولا أزمة شعراء ولا أزمة فنّانين إنّما نعيشُ أزمة نقاد, نحن بأمسّ الحاجةِ إلى الاتفاق على الصّيغةِ السّليمةِ للنّقدِ الذي ينطلقُ من بنيةِ الصّدق وعدم المحسوبية والمجاملة, نقدٍ حقيقيّ يلغي من قاموسه مفرداتٍ تحملُ في طيّاتها معاني التّجريح والإهانة والإساءة للآخر المنقود , ومسح الجوخ (كما تقول العرب) , وعلينا أن نعترفَ بأنّ النّاقدَ الحقيقيّ نادر الوجودِ في عالمنا , أمّا هؤلاءِ الذين يظهرون بين الحين والحين, ويشهرون أقلامهم التي يتآكلها الصّدأ من كلّ الجهات, يتهجّمون على هذا ويسبّون ذاك, ويتخبطون في دروبٍ لا صلة أخلاقية وأدبية تجمعهم بالنّقدِ والأدب, فهم وفي العرفِ العامّ للنّقد يعتبرون منتقدين, هزليين, لا ينتمون إلى فنّ النّقدِ الحقّ الذي يُعتَبَرُ من أسمى أنواع الفنون والأدبِ, بل إنّهم لا يخجلون من الإشهار بنسبِ المنقودِ أو شخصيته أو عائلته, والمصيبة الأكبر أنّهم يزدادون إيذاءً وإيلاماً كلّما وجدوا مَنْ يصفقُ لهم من ضعافِ النّفوس أمثالهم, فيصدّقون أنّهم فعلوا أمراً عظيماً, ولكن علينا ألا ننكرَ بعض النّقادِ الذين يحترمونَ أقلامهم ومقالاتهم النّقدية (على الرّغم من ندرتهم) لأنّهم في الأصل نقاد حقيقيون يمتلكون ملَكة النّقدِ والأدب, وهؤلاء نحترمهم ونقدّرهم ونتمنّى أن تكثرَ السّاحة الأدبية والنّقدية من أمثالهم.
أستاذ بسّام, أنتَ نقلتَ آراءَ المهاجمين لقصيدة النّثر, في الوقتِ الذي نجدُ فيه هجوماً عنيفاً على قصيدة التّفعيلة أو القصيدة الموزونة, وأرى أنّ هذه المعركة ليست وليدة اليوم بل ظهرت أولى بذورها (بالنّسبةِ للشّعرِ العربيّ) في العصر الأمويّ مع عمر بن أبي ربيعة الذي زعم مدرسة الشّعر الصّريح والفاضح, والتي وقفت بالضّدّ من مدرسةِ الشّعر العذريّ العفيف, ومع بداية العصر العبّاسيّ مع ظهور المتنبّي وأبي تمّام والبحتريّ وبشّار بن برد, وازدادتْ المعركة وطيساً مع أبي نواس الذي دعا علانية إلى استبدال المقدّمة الطّللية بمقدّمة خمرية (أيّ بدل الوقوف على الأطلال ووصفِ الظعائن, دعا إلى وصف مجالس الّلهو والطّربِ ووصفِ الخمرة, والبدء بالغزل ومفاتن المرأة), ثمّ استمرّتْ هذه المعركة في العصور المتتالية حتى التي سميت بعصور الانحطاط العربيّ إلى أن وصلتْ إلى عصرنا الحاليّ, وأظنّ أنّها ستستمرّ ما دام روح الاستمرار مع الحياة والكون ينبضُ في فكر وقلبِ البشر.