تأليف: بشير ملاّ
ترجمة وتقديم: هيثم حسين
هل نَجْدُر بأسمائنا…؟!
ما علاقة المسمَّى باسمه، وإلى أيّ حدٍّ يحقّق المسمَّى الغاية التي من أجلها سمِّي باسمه، وماذا يضيف اسمه إليه، وماذا يضيف هو إلى اسمه..
قد تكون التسمية لتعويض ضررٍ أُلحِق بأحدهم، فيحاول الإصلاح قدر إمكانه، وذلك بإحياء الاسم، كرغبة ضمنيّة، في إحياء مجسِّده السابق..
ترجمة وتقديم: هيثم حسين
هل نَجْدُر بأسمائنا…؟!
ما علاقة المسمَّى باسمه، وإلى أيّ حدٍّ يحقّق المسمَّى الغاية التي من أجلها سمِّي باسمه، وماذا يضيف اسمه إليه، وماذا يضيف هو إلى اسمه..
قد تكون التسمية لتعويض ضررٍ أُلحِق بأحدهم، فيحاول الإصلاح قدر إمكانه، وذلك بإحياء الاسم، كرغبة ضمنيّة، في إحياء مجسِّده السابق..
بين أمٍّ تفقد ابنَها؛ عزيزَها، فتسعى للاستعاضة عنه، بتسمية مولودها التالي باسم الفقيد نفسه، أملاً في حفظ الاسم في البيت، وعدم اندثار ذكر صاحبه، وذلك بتكرار اسمه، بشكلٍ دائم على الأسماع، فيكون إحياءً رمزيّاً، وتحدّياً للموت بالطرق الشرعيّة المسموح بها..
ولقد كثُر هذا الأمر-عاموديّاً- بعد كارثة حريق سينما عامودا، التي راح ضحيّتها المئات، فحاول الأهل تخليدَ ذكرى شهدائهم بحفظ أسمائهم، بإطلاق تلك الأسماء على من أتى بعدهم، ولكن، للمفارقة، ما كلّ مسمَّىً، بالضرورة، أن يصل إلى مستوى عظمة سميِّه، بل أكاد أقول، إنّ بعض المسمَّين بأسماء الشهداء، إخوةً أو أقاربَ، أساؤوا، بطريقة أو بأخرى، إلى ذكراهم الطيّبة، وثراهم الطاهر..
ويتعمّم القول، عندما تحاول أمّة استذكار رموزها ممّن لن يعوَّض عنهم، من الأبطال الذين لهم بصمات مشرقة في التاريخ، فيُسمَّى كثير من المواليد بأسماء العظماء، ليكون التذكير بهم متواتراً على مرّ الأيّام، وهنا أيضاً، قد لا يصل المسمَّى إلى أيّ هدفٍ ممّا أُمِّل منه، فيسيء إلى سميّه، دون أن يعتذر منه، بل تستمرّ الإساءة فاعلة، طالما استمرّ هو فيما هو فيه، فيصبح كلٌّ منهما وَبَالاً على الآخر، لأنّه لن يستطيع الارتقاء والتسامي إلى مستوى المشبَّه به، والاسم، بدوره، لن يتنازل عن مكانته وثقله التاريخيّين، إرضاءً لمسمَّاه، في لعبة الاستعارات والتشابيه، تقريباً وتبعيداً، وكي لا يرتضي الحديثُ بأقلّ ممّا حقّقه السابق، وإلاّ سيكون في بقائه جامداً هامداً، جثّة مُهَيْكَلة، مجوَّفة من الروح، ومزيَّنة فقط بهيبة الاسم، دون أن يتحلّى بروحه، فيبدأ التناسبُ العكسيُّ، ويرصد الطلاق بينهما في مَرْصَده، بانتظار الإشارة التي تعلن نهاية القتل الحاصل..
وهنا، العجوز رشِى، الدالّ اسمها على السواد والعتمة، والمدلّ فعلها على التنوير النابع من السلوك الممارَس، صدقاً ووجداناً، فهي المتنوّرة بالفطرة، مثال المرأة الكرديّة الأبيّة، التي يؤذيها تقهقر ابنها السلوكيّ والفكريّ، ليلوذ، سلبيّاً، بالحاضنة الدينيّة التي يظنّها مأمناً، يؤمّن له الطمأنينة والسلامة، ليؤدّي فروضه في انتظار الموت المحتَّم، مُوْقِفاً جميع الأعمال، وقاتلاً جميع الآمال، في انتظاره الجحيميّ هذا..
..آختي، المُستخرَج اسمُه من عمق التاريخ، والمُستَجرّ إلى الآن، أملاً في إدامة فعله، بإحياء صاحبه، والسير على خطاه في تحقيق البطولات التي حقّقها، وبالتالي جعله، النموذج المبتغَى الوصول إليه، والاقتداء به.. ولكنّ الآمال الكبيرة، يقزّمها أشخاص يسيئون إلى الأسماء، وإلى الأمّ، وإلى الأمّة، جميعاً، يُقتِّل المسمَّى سميَّه، ليتحرّر من سطوته، عندما ينتحر باليأس، ويلتحف بالإذلال المبرَّر من قبله، المجرَّم على إثره في الحياة، يستلّ سيف اليأس المسموم ليداوي انكساراته وانتكاساته.. وعبثاً، فقد رهن لها كلَّه..
تفشل كلّ محاولات رشِى، لإخراج ابنها من تموُّته الاختياريّ، وإعادة زرع بذرة الأمل في تربة روحه، لكن، أنّى ذاك، وقد جعل منها محرقة للأمل، ومَدْفناً للحلم..
وليس أسوأ من أن يعيش المرء معدوم الأمل، لأنّه هكذا لن يعيش، وإنّ ظنَّ بأنّه أكثر ارتياحاً، حيث الآمال تحتاج العمل الدؤوب لتحقيقها، وهو لا يستطيع، لتعرف خطيئةُ اليأس طريقها إليه، وتركن في روحه، ويحاول أن تُعدي، خطيئةُ الخطايا المميتة، المحيطين به، لتيْرِس مَن تلامسهم، وبخاصّة، جوان؛ الأمل غير الراضخ لكلّ محاولات الاختراق، التي تحاول اقتناصه، قبل أن يعي طاقتَه؛ طاقةَ التغيير، الاندفاع، الثورة، والشباب، يتحدّى أباه ــ آختي، الممسوس مسّاً لا شفاء منه، أن يُشيِّب فيه الروح، وهو في عزّ شبابه..
لكنّ استجابة جوان، لصدق ووفاء جدّته، تدفعه إلى عدم الارتكان إلى الأمر الواقع، بل، تحضّه أن يغيّر في المآل الذي لاذ به والده، وآذاه به، لطالما في عروقه دمٌ ينبض، ولا يركد في أرضه التي تُستنقَع، وهي تسوَّر بأسوارَ مُكَهْربةٍ، قاتلةٍ لمن يقترب منها، لكنّها مُلاينة ومطاوعة لمن يخترقها، لأنّها تقدّر فيه إرادة التحدّي والبقاء..
إنّ رشِى، تنادينا لنشاركها، لنغنّي معها، لأجلِها، لأجلِنا، لأجلِ من سيأتون، مع الفنّان الخالد محمّد شيخو، رائعته:
Rabe ji xewê çavê raketî…
عسانا نَجْدُر بأسمائنا، بأبطالنا،… وبالآتين من بعدنا..
هـ. ح
رشِى
Reê
الشخصيّات:
– رشِى: الأمّ والجدّة.
– آختي: ابن رشِى ووالد جوان، رجل أربعينيّ.
– جوان: فتى في مطلع العمر.
نصّ المسرحيّة:
ترفع الستارة، يظهر في الجهة اليمنى شخص نائم، يُسمع صياح الديَكة، وبعد لحظات نباح الكلاب، ثمّ يتكرّر الصياح، ويتكرّر النباح، يتناوبان، تضاء الخشبة مع الصياح، وتعتَّم مع النباح.
وحده النؤوم يبقى في فراشه، يتحرّك داخله، دون أن يغادره..
رشِى: “تظهر بزيّها الكرديّ الفلكلوريّ، ترفع أردانها كأنّها تتهيّأ للقيام بعملٍ ما، وبصوت تعوّد على أن لا يصل إلى غايته، مؤنّبة ابنها”:
لوْ لاوو .. آختي.. لقد تقيَّح ظهرك من هذا النوم.. ألا تشبع نوماً.. اخرج لترَ النور.. زر صديقاً، صاحباً، إنّ الناس يتمنّون مجالسة مجايليك ..
“ثمّ تردّد لنفسها، وبيأسٍ وأسفٍ”:
يا لحظّي السيّئ.. لا زلت أنفق على أولاده..
آختي: “متثاقلاً يخرج رأسه من تحت اللحاف ويده متدلّية إلى الأرض، مهمهماً، قائلاً بأسلوبٍ استخفافيّ بالأمّ، وعناديّ بالنسبة له”:
مرّة أخرى، جاء الصباح، وبدأتِ بتلاوة أخبارك القديمة..
“يقول لنفسه بلا مبالاة لأمّه الواقفة وهي تنظر إليه”:
فاتتني الصلاة.. البارحة لم أنم..
“مخاطباً أمّه، كأنّه يعطيها النتيجة النهائيّة لكلّ الأعمال التي قام بها أو سيقوم بها غيره”:
في النهاية، في الخارج أو في الداخل، الموت ملاقيك..
رشِى: “تحاول أن توقظ فيه بعضاً من النخوة التي قد تساعدها في تخليصه ممّا يلازمه من يأسٍ وتشاؤمٍ وانكسار، تذكّره ببطولات أجداده”:
أليس معيباً أن يقول الناس إنّ ابن رشِى يموت في فراشه.. مَنْ مِن سلالتنا لم يمت في المرابض والجبال.. في النضال والسعي..؟!!
آختي: “غير مبالٍ البتّة بما تكرّره له أمّه، بل ومستخفّاً بها وبما قد يحصل أو يقال”:
مضت أربعون سنة وأنت تجترّين لي حكايتك..
ولكن قبل أن أكرّر أنا أيضاً:
حتّى الذين يموتون في السماء،لا يفلتون من كلام الناس..
“ثمّ يقول لنفسه، مبرّراً تصرّفه غير المقنع لأمّه التي دائماً ما توبّخه”:
الذي لا يعلم سيظنّ أنّني أصبحت طريح الفراش عن رضىً واختيارٍ..
رشِى: “عارضة مساعدتها التي لا تبخل بها عليه أبداً، ومذكّرة إيّاه بوفرة الصحّة وسلامة البدن”:
لا تستطيع أن تنهض..! سأُنهضك..
كالرجال ادفع ساقيك أمامك.. الشكر لله أنّك لست مُقعَداً أو محموماً..
آختي: “بتحدٍ وانكسارٍ”: سأتوجّه إلى مَن.. هَهْ..؟!!
رشِى: وهل أكثر من أقاربنا ومجالسنا..؟!!
آختي: “يتأفّف، كأنّ جرحه القديم بدأ بالنزف ثانية”:
لقد قصم المجتمع ظهري، وخصوصاً، أبناء جلدتي.. وأنت تنوين وضعي ثانية بين أنيابهم وفي أفواههم..
رشِى: “بانزعاجٍ لاستثارته وإخراجه من حالته”:
أنت أيضاً.. مُت في فراشك..
“تلاحظ بأنّها ربّما تكون قد قست عليه.. تغيّر في نبرتها.. تلتفّ عليه وتأتيه من طريق آخر”:
فليسعد العدوّ لحالنا..
آختي: “لأنّه مدمن يأسه وسعيد به، وهو في بعده عن الجميع”:
فلأكن قتيل الفراش.. ولا أكون قتيل الأهل والجيران.
رشِى: “تبكي بصوت خفيضٍ متحسّرةً، دون أن تتقصّد استدرار عطفه وشفقته”.
آختي: “واقفاً على السرير، وبمناجاة يشرح أسباب تضعضعه، وموجبات خرابه الداخليّ الذي يثنيه عن كلّ فعلٍ قد يقدم عليه”:
لا أستطيع.. لا أستطيع..
لا أملك القدرة.. أنا ضائع.. من لي ليساندني.. ؟!
إنّهم يكذبون.. أنا مهزوم جرّاء كذبهم..
عندما كانت الدنيا مشاعة للجميع.. لم يجمع زوجك كدح والده..
لقد أورثني هذا الحمل الثقيل الكافر..
إنّ أعداء آبائي وأجدادي هم في سرعة الطائرات، الأموال وأوراق الأشجار عندهم سواء..
وأنا، مقارنة مع سرعتهم، كالسلحفاة..
مناي أن أملك خمسة قروش..
رشِى: “بنبرة واثقة، بعد أن استدرجته إلى الكلام والنقاش، تحاول أن تهدِّئ نفسه، وتؤمّله”:
كلّ واحدٍ يناضل ويكافح حسب طاقته..
آختي: “عارفاً بالنوايا يقول”:
ما تبتغينه منّي ليس العمل لتلبية متطلّبات البيت وحده..
رشِى: “بحسّها العاطفيّ الصادق، غير المتكلَّف، تدعو على نفسها”:
مَن لي غيركما.. أنت وجوان..؟!!
فلتُقلع عيني إن أنا لا أتمنّى لكما أيّاماً سعيدة..
آختي: “يستدرك خطأه في إيلام روح أمّه، مبرّراً تقاعسه”:
لا تسيئي فهمي.. أنت تحمّلينني عبئاً ثقيلاً..
لا طاقة لي في مواجهة الآخرين بالوحشيّة والانتقام..
رشِى: “متعجّبة من جوابه الذي لا يمتّ إلى كلامها بصلة، وتذكّره بتربيتها السليمة له”:
إن تسمع الجدران ستنشر قائلة:
إنّ رشِى ما تزال تلقّن ابنها دروس الانتقام والشرّ..
لا.. لستُ هكذا عديمة الوجدان والضمير..
ما رأيته وسمعته من مآسي وآلام هذه الحياة، كافٍ ليصدع جبلاً..
آختي: “بنبرةٍ تحمل من الوجع الكثير، وبيأس لا يماثَل”:
لقد تعبت.. لقد تألّمت كثيراً..
لا أستطيع الابتعاد عن الفراش خطوتين..
جوان: “يدخل مخاطباً جدّته”:
أمّاه.. هل جهّزت حقائبي..؟
رشِى: “بودّ”: متى ستذهب يا روح أمّك..
جوان: اليوم مع جمشيد..
رشِى: “دون أن تجيب على استفسار جوان، توجّه كلامها إلى آختي، وتريد له أن يشعر ببعض المسؤوليّة تجاه نفسه وابنه، وتريد أن تشهّد جوان على ما سيدور من حوار”:
إنّ جوان سيسافر..
إن شاء الله سيكون ذلك اليوم قريباً كأنّه اليوم..
مضت عشر سنوات وأنت راقد في الفراش..
لم تعلّم هذا الولد يوماً درساً..
لم تقل له هذه لغتك الأمّ..
“وبنبرة أعلى”: ماذا تفعل بتلك الكتب..؟! ماذا تفعل ..؟!
“مشيرة بذلك إلى الكتب التي خلف رأسه في مكتبة يغرقها الغبار”.
آختي: بكسلٍ وتندّمٍ”:
أووه.. يا ليتني لم أتعلّم شيئاً من هذه الكتب..
يا لسعادة الأمّيّين الذين لا يدركون منها شيئاً..
إنّهم لا يكادون يتوسّدون المخدّة برؤوسهم، حتّى يغطسوا في النوم، دون هموم..
رشِى: “تحاول أن تحرِّض فيه الماضي الجميل”:
قصائد جكرخوين وصرخاته..
“ومذكّرة إيّاه بتلك الأيّام البريئة التي كانت إرادة الصمود، برغم الفقر، تزيّنها”:
لقد وضعك عشرات المرّات في حضنه.. وكان يكرّر دائماً: العلمَ العلمَ..
آختي: “باستهزاء، ومحاولاً أن يضفي النتيجة الواقعيّة كلّها على كلامه”:
لقد نشر المسكين جكرخوين عشرات الدواوين..
كان ميتاً في حياته..
“متسائلاً مؤنّباً نفسه”: ألم أتعلّم..؟! “وبحسرة”:
أعطيت ثماني عشرة سنة من شبابي.. “وببالغ التأسّف”:
واليوم علمي لا يساوي ليرة صدئة..
وفوق ذلك، أيضاً، الآن أنا من دون هوية ومارق..
رشِى: “تخشى أن يسرّب أفكاره الكارثيّة إلى ابنه، فتبادر إلى تحذير جوان من غلط ما يقول والده”:
جوانـ:ي لا تبالِ بما يقوله أبوك..
لقد مضت عشر سنوات وهو معتزل الناس والدنيا..
آختي: “هنا يندسّ في الفراش”.
جوان: “منتبهاً إلى والده، ومقتنعاً بكلام جدّته”:
لماذا دسست نفسك في الفراش..
أمّي لم تخطئ في شيء..
آختي: “ينظر إليه يعطيه درساً في عدم الإصغاء لكلّ كلامٍ يقال”: جدّتك قد حفظت بعض أقوال جدّك..
رشِى: “تحاول أن تردّ الطعون التي يوجّهها آختي إلى مصداقيّتها التي يشكّك فيها، وفي صحّة كلّ ما تتفوّه به تالياً”:
أيّها النؤوم.. أنا أمّ كلستان.. يا لضياع تلك الكتب خلف رأسك.. عندما كانت كلستان تعتزم الذهاب إلى جبل جودي.. كانت ستصنع نصراً..
كنت في ذلك الوقت قد صنعت من شواربك مثل المِدَمّة، وصنعت من صدغيك، مثل قرون الحيوانات.. وكنت تردّد دائماً: رشِى.. ابنتك سوف تزعزع السلام العالميّ..
جوان: “محاولاً إدخال الفكاهة إلى الجوّ الذي بدأ بالاحتقان بينهما، يقول ضاحكاً”:
كيف يا جدّتي.. صدغاه كالقرون..؟!
رشِى: “بحركة انفعاليّة، وبسرعة تنزع صورته القديمة عن الحائط”:
يا بني: عمّتك كلستان قالت لي:
لقد جعل شواربه كحرف M، يعني ماركس..
ومن صدغيه كحرف L ، يعني لينين..
انظر.. انظر.. “وتريه الصورة”.
جوان: “يتمعّن في الصورة التي رآها كثيراً، وينظر إليها هذه المرّة بشكلٍ مختلفٍ عمّا كان ينظر إليها في كلّ مرّة، وجد فيها جديداً، تضامن مع جدّته”:
كان أبي يشيّد بنيان الماركسيّة واللينينيّة بشواربه وصدغيه..
رشِى: “تعقيباً على كلام جوان، والصورة في يدها، تحرّكها مع كلامها يمنة ويسرة، وتشرح فحوى كلام ابنها اليائس الميئِّس”:
والآن أقول له: تشرّق .. تغرّب.. اعتنِ بتربية ابنك، وترتيب شؤون بيتك.. وهو لا يني يردّ عليّ باستهزاء:
سنموت.. سنموت.. ماذا سيصيب ابنك..؟ له ربّ يحميه..
“ثمّ تُغيّر مسار الحديث، وكأنّها قد تنبّهت توّاً للسؤال الذي وجِّه إليها عن تحضير الفطور”:
هل أحضّر الفطور..؟
آختي: “يخرج رأسه ثانية من بين فراشه، ولينقص من قيمة ما تواجهه به أمّه، يتشاغل بالمخدّة ليعيد وضعها في مكانها”: أنا لن أردّ..
جوان: “متحدّياً والده”:
انهض وقل.. والله إنّ نقاش جدّتي أكثر تماسكاً ووضوحاً من كلام سكرتير أحد الأحزاب، كان قد شارك أمسِ في حوار مُتَلْفَزٍ..
آختي: “محبطاً محاولاته التي لن تفيد معه”:
جدّتك تقصّ عليك القصص، كانت هكذا تسردها لي أيضاً..
رشِى: ” بتحبّب”: جوانـ:ي لقد أوقع اليأس والتشاؤم والدك.. لا عتب عليه..
“تذهب إلى المطبخ لتحضّر الفطور”.
آختي: “بانزعاجٍ على مستقبل ابنه الذي يكاد يشابه مستقبله لو أنّ أمّه تمكّنت من زرع أفكارها في رأسه، يلاحقها بجمله”:
أنا متأكّد أنّك ستقصمين ظهر هذا الفتى..
“وباستسلامٍ يشرح عدم استطاعته”:
لم أكن أستطيع.. لم أكن أعلم..
كيف آخذ حقّي.. وأنت تحمّلينني ثأر أبي وأبِ أبي..
“ثمّ يتوجّه إلى ابنه، بعد أن غابت أمّه عن ناظره، ينصحه نصيحة هي ملخَّص تجربته الحياتيّة، ومتأكّداً من جدواها”:
يا بني.. اعتنِ فقط بحملك.. فإنّك لا تستطيع رفع أحمال أربعة آباء..
“مستهزئاً كمن يتشفّى من نفسه، ومن ادّعاءات أمّه التي لا تكفّ عنها”:
قد يستطيع رستم زال والأسد عليّ أن يحملا أعباء جدّتك..
جوان: “مشكّكاً فيما يقوله والده”:
تقصد أنّ قصص الأمّ رشِى أحلام وخيالات..
“يكلّم نفسه مؤكّداً”:
لقد كبرت مع هذه القصص، لم أرَ أمّي.. الجدّة رشِى هي أمّي من ناحية، ومن ناحية أخرى هي أبي..
إنّ أحلامي حتّى الآن هي مع هذه القصص..
أحلّق معها.. أغدو بطلاً.. أساند المظلومين والمسحوقين..
آختي: “بنبرة يستجدي العطف”:
لقد غُلبت يا بني.. أنا لست مخيَّراً، لو أنّني بقيت اليوم بطوله نائماً، فلا يمكنني أن أحلم حلماً واحداً..
“ومتمنّياً”:
كم كان سيكون جميلاً، لو أنّ الطفولة لازمت الإنسان، واستمرّت معه مدى الحياة..
“وبهدوءٍ مضيفاً”:
فقط، عندما تكبر يوماً ستكتشف كنه مشاعر والدك هذه..
رشِى: :تدخل ومعها مائدة عليها ثلاثة صحون وإبريق شاي وثلاث أقداح”:
فطورك جاهز..
جوان: “ينظر إلى الساعة”:
تأخّر الوقت.. لا أمّاه. لقد تأخّرت..
“يمضي مسرعاً، يحمل حقيبته. ينسى كتابه”.
رشِى: “تناديه، بعد أن تضع المائدة على الأرض، وتسارع إلى كتابٍ نسيه جوان”:
جوانـ:ي لقد نسيت كتابك..
“ثمّ رافعة كتابه في يدها، بعد أن عاد جوان من أمام الباب الذي كان سيغلقه”:
سترى مستقبلك في هذا الكتاب..
سترى فيه أخطاء أجدادك..
سترى فيه مسألة: “مَنْ نحن، وكيف يجب أن نعيش..”.
وبإمكانك الدفاع بهذا الكتاب عن شعبك..
جوان: “يوجّه يده صوب والده دون أن يتكلّم كأنّه يستخلص منه العِبَر”.
رشِى: “تهزّ رأسها موافقة.. ومضيفة”:
وستعثر فيه على أسباب تشاؤم أبيك..
“وبابتسامة”:
وسواد الجدّة رشِى..
“وهي عندما تتكلّم بما تتكلّم به، يقترب منها جوان رويداً رويداً متفكّراً في كلّ ما تقوله، يصل إلى جانبها، تربت على كتفه بثقة وتفاؤل”:
يا بني.. الدنيا كهذا المسرح الذي نمثّل فيه..
كلّما كنت متفوّقاً في أدوارك التي تؤدّيها، سيصفّق لك الجمهور.. أمّا الكسول المتشتّت، فإنّ الجمهور لن يكتفي بعدم التصفيق له، بل (سيُجَرْجرونه) من كتفه، ومن ثمّ سيقذفون به من مسرح الحياة كلّها..
“يمسك جوان بطرف كتابه، ويترك طرفاً منه في يد جدّته، يقبّل جبهتها، ومن ثمّ يدها، ويدير ظهره إلى أبيه.. تضاء الصالة بأضواء قويّة، يعلو صياح الديَكة، يقوى بشكلٍ تصاعديٍّ.. وتسدل الستارة..”.
– النهاية –
ويتعمّم القول، عندما تحاول أمّة استذكار رموزها ممّن لن يعوَّض عنهم، من الأبطال الذين لهم بصمات مشرقة في التاريخ، فيُسمَّى كثير من المواليد بأسماء العظماء، ليكون التذكير بهم متواتراً على مرّ الأيّام، وهنا أيضاً، قد لا يصل المسمَّى إلى أيّ هدفٍ ممّا أُمِّل منه، فيسيء إلى سميّه، دون أن يعتذر منه، بل تستمرّ الإساءة فاعلة، طالما استمرّ هو فيما هو فيه، فيصبح كلٌّ منهما وَبَالاً على الآخر، لأنّه لن يستطيع الارتقاء والتسامي إلى مستوى المشبَّه به، والاسم، بدوره، لن يتنازل عن مكانته وثقله التاريخيّين، إرضاءً لمسمَّاه، في لعبة الاستعارات والتشابيه، تقريباً وتبعيداً، وكي لا يرتضي الحديثُ بأقلّ ممّا حقّقه السابق، وإلاّ سيكون في بقائه جامداً هامداً، جثّة مُهَيْكَلة، مجوَّفة من الروح، ومزيَّنة فقط بهيبة الاسم، دون أن يتحلّى بروحه، فيبدأ التناسبُ العكسيُّ، ويرصد الطلاق بينهما في مَرْصَده، بانتظار الإشارة التي تعلن نهاية القتل الحاصل..
وهنا، العجوز رشِى، الدالّ اسمها على السواد والعتمة، والمدلّ فعلها على التنوير النابع من السلوك الممارَس، صدقاً ووجداناً، فهي المتنوّرة بالفطرة، مثال المرأة الكرديّة الأبيّة، التي يؤذيها تقهقر ابنها السلوكيّ والفكريّ، ليلوذ، سلبيّاً، بالحاضنة الدينيّة التي يظنّها مأمناً، يؤمّن له الطمأنينة والسلامة، ليؤدّي فروضه في انتظار الموت المحتَّم، مُوْقِفاً جميع الأعمال، وقاتلاً جميع الآمال، في انتظاره الجحيميّ هذا..
..آختي، المُستخرَج اسمُه من عمق التاريخ، والمُستَجرّ إلى الآن، أملاً في إدامة فعله، بإحياء صاحبه، والسير على خطاه في تحقيق البطولات التي حقّقها، وبالتالي جعله، النموذج المبتغَى الوصول إليه، والاقتداء به.. ولكنّ الآمال الكبيرة، يقزّمها أشخاص يسيئون إلى الأسماء، وإلى الأمّ، وإلى الأمّة، جميعاً، يُقتِّل المسمَّى سميَّه، ليتحرّر من سطوته، عندما ينتحر باليأس، ويلتحف بالإذلال المبرَّر من قبله، المجرَّم على إثره في الحياة، يستلّ سيف اليأس المسموم ليداوي انكساراته وانتكاساته.. وعبثاً، فقد رهن لها كلَّه..
تفشل كلّ محاولات رشِى، لإخراج ابنها من تموُّته الاختياريّ، وإعادة زرع بذرة الأمل في تربة روحه، لكن، أنّى ذاك، وقد جعل منها محرقة للأمل، ومَدْفناً للحلم..
وليس أسوأ من أن يعيش المرء معدوم الأمل، لأنّه هكذا لن يعيش، وإنّ ظنَّ بأنّه أكثر ارتياحاً، حيث الآمال تحتاج العمل الدؤوب لتحقيقها، وهو لا يستطيع، لتعرف خطيئةُ اليأس طريقها إليه، وتركن في روحه، ويحاول أن تُعدي، خطيئةُ الخطايا المميتة، المحيطين به، لتيْرِس مَن تلامسهم، وبخاصّة، جوان؛ الأمل غير الراضخ لكلّ محاولات الاختراق، التي تحاول اقتناصه، قبل أن يعي طاقتَه؛ طاقةَ التغيير، الاندفاع، الثورة، والشباب، يتحدّى أباه ــ آختي، الممسوس مسّاً لا شفاء منه، أن يُشيِّب فيه الروح، وهو في عزّ شبابه..
لكنّ استجابة جوان، لصدق ووفاء جدّته، تدفعه إلى عدم الارتكان إلى الأمر الواقع، بل، تحضّه أن يغيّر في المآل الذي لاذ به والده، وآذاه به، لطالما في عروقه دمٌ ينبض، ولا يركد في أرضه التي تُستنقَع، وهي تسوَّر بأسوارَ مُكَهْربةٍ، قاتلةٍ لمن يقترب منها، لكنّها مُلاينة ومطاوعة لمن يخترقها، لأنّها تقدّر فيه إرادة التحدّي والبقاء..
إنّ رشِى، تنادينا لنشاركها، لنغنّي معها، لأجلِها، لأجلِنا، لأجلِ من سيأتون، مع الفنّان الخالد محمّد شيخو، رائعته:
Rabe ji xewê çavê raketî…
عسانا نَجْدُر بأسمائنا، بأبطالنا،… وبالآتين من بعدنا..
هـ. ح
رشِى
Reê
الشخصيّات:
– رشِى: الأمّ والجدّة.
– آختي: ابن رشِى ووالد جوان، رجل أربعينيّ.
– جوان: فتى في مطلع العمر.
نصّ المسرحيّة:
ترفع الستارة، يظهر في الجهة اليمنى شخص نائم، يُسمع صياح الديَكة، وبعد لحظات نباح الكلاب، ثمّ يتكرّر الصياح، ويتكرّر النباح، يتناوبان، تضاء الخشبة مع الصياح، وتعتَّم مع النباح.
وحده النؤوم يبقى في فراشه، يتحرّك داخله، دون أن يغادره..
رشِى: “تظهر بزيّها الكرديّ الفلكلوريّ، ترفع أردانها كأنّها تتهيّأ للقيام بعملٍ ما، وبصوت تعوّد على أن لا يصل إلى غايته، مؤنّبة ابنها”:
لوْ لاوو .. آختي.. لقد تقيَّح ظهرك من هذا النوم.. ألا تشبع نوماً.. اخرج لترَ النور.. زر صديقاً، صاحباً، إنّ الناس يتمنّون مجالسة مجايليك ..
“ثمّ تردّد لنفسها، وبيأسٍ وأسفٍ”:
يا لحظّي السيّئ.. لا زلت أنفق على أولاده..
آختي: “متثاقلاً يخرج رأسه من تحت اللحاف ويده متدلّية إلى الأرض، مهمهماً، قائلاً بأسلوبٍ استخفافيّ بالأمّ، وعناديّ بالنسبة له”:
مرّة أخرى، جاء الصباح، وبدأتِ بتلاوة أخبارك القديمة..
“يقول لنفسه بلا مبالاة لأمّه الواقفة وهي تنظر إليه”:
فاتتني الصلاة.. البارحة لم أنم..
“مخاطباً أمّه، كأنّه يعطيها النتيجة النهائيّة لكلّ الأعمال التي قام بها أو سيقوم بها غيره”:
في النهاية، في الخارج أو في الداخل، الموت ملاقيك..
رشِى: “تحاول أن توقظ فيه بعضاً من النخوة التي قد تساعدها في تخليصه ممّا يلازمه من يأسٍ وتشاؤمٍ وانكسار، تذكّره ببطولات أجداده”:
أليس معيباً أن يقول الناس إنّ ابن رشِى يموت في فراشه.. مَنْ مِن سلالتنا لم يمت في المرابض والجبال.. في النضال والسعي..؟!!
آختي: “غير مبالٍ البتّة بما تكرّره له أمّه، بل ومستخفّاً بها وبما قد يحصل أو يقال”:
مضت أربعون سنة وأنت تجترّين لي حكايتك..
ولكن قبل أن أكرّر أنا أيضاً:
حتّى الذين يموتون في السماء،لا يفلتون من كلام الناس..
“ثمّ يقول لنفسه، مبرّراً تصرّفه غير المقنع لأمّه التي دائماً ما توبّخه”:
الذي لا يعلم سيظنّ أنّني أصبحت طريح الفراش عن رضىً واختيارٍ..
رشِى: “عارضة مساعدتها التي لا تبخل بها عليه أبداً، ومذكّرة إيّاه بوفرة الصحّة وسلامة البدن”:
لا تستطيع أن تنهض..! سأُنهضك..
كالرجال ادفع ساقيك أمامك.. الشكر لله أنّك لست مُقعَداً أو محموماً..
آختي: “بتحدٍ وانكسارٍ”: سأتوجّه إلى مَن.. هَهْ..؟!!
رشِى: وهل أكثر من أقاربنا ومجالسنا..؟!!
آختي: “يتأفّف، كأنّ جرحه القديم بدأ بالنزف ثانية”:
لقد قصم المجتمع ظهري، وخصوصاً، أبناء جلدتي.. وأنت تنوين وضعي ثانية بين أنيابهم وفي أفواههم..
رشِى: “بانزعاجٍ لاستثارته وإخراجه من حالته”:
أنت أيضاً.. مُت في فراشك..
“تلاحظ بأنّها ربّما تكون قد قست عليه.. تغيّر في نبرتها.. تلتفّ عليه وتأتيه من طريق آخر”:
فليسعد العدوّ لحالنا..
آختي: “لأنّه مدمن يأسه وسعيد به، وهو في بعده عن الجميع”:
فلأكن قتيل الفراش.. ولا أكون قتيل الأهل والجيران.
رشِى: “تبكي بصوت خفيضٍ متحسّرةً، دون أن تتقصّد استدرار عطفه وشفقته”.
آختي: “واقفاً على السرير، وبمناجاة يشرح أسباب تضعضعه، وموجبات خرابه الداخليّ الذي يثنيه عن كلّ فعلٍ قد يقدم عليه”:
لا أستطيع.. لا أستطيع..
لا أملك القدرة.. أنا ضائع.. من لي ليساندني.. ؟!
إنّهم يكذبون.. أنا مهزوم جرّاء كذبهم..
عندما كانت الدنيا مشاعة للجميع.. لم يجمع زوجك كدح والده..
لقد أورثني هذا الحمل الثقيل الكافر..
إنّ أعداء آبائي وأجدادي هم في سرعة الطائرات، الأموال وأوراق الأشجار عندهم سواء..
وأنا، مقارنة مع سرعتهم، كالسلحفاة..
مناي أن أملك خمسة قروش..
رشِى: “بنبرة واثقة، بعد أن استدرجته إلى الكلام والنقاش، تحاول أن تهدِّئ نفسه، وتؤمّله”:
كلّ واحدٍ يناضل ويكافح حسب طاقته..
آختي: “عارفاً بالنوايا يقول”:
ما تبتغينه منّي ليس العمل لتلبية متطلّبات البيت وحده..
رشِى: “بحسّها العاطفيّ الصادق، غير المتكلَّف، تدعو على نفسها”:
مَن لي غيركما.. أنت وجوان..؟!!
فلتُقلع عيني إن أنا لا أتمنّى لكما أيّاماً سعيدة..
آختي: “يستدرك خطأه في إيلام روح أمّه، مبرّراً تقاعسه”:
لا تسيئي فهمي.. أنت تحمّلينني عبئاً ثقيلاً..
لا طاقة لي في مواجهة الآخرين بالوحشيّة والانتقام..
رشِى: “متعجّبة من جوابه الذي لا يمتّ إلى كلامها بصلة، وتذكّره بتربيتها السليمة له”:
إن تسمع الجدران ستنشر قائلة:
إنّ رشِى ما تزال تلقّن ابنها دروس الانتقام والشرّ..
لا.. لستُ هكذا عديمة الوجدان والضمير..
ما رأيته وسمعته من مآسي وآلام هذه الحياة، كافٍ ليصدع جبلاً..
آختي: “بنبرةٍ تحمل من الوجع الكثير، وبيأس لا يماثَل”:
لقد تعبت.. لقد تألّمت كثيراً..
لا أستطيع الابتعاد عن الفراش خطوتين..
جوان: “يدخل مخاطباً جدّته”:
أمّاه.. هل جهّزت حقائبي..؟
رشِى: “بودّ”: متى ستذهب يا روح أمّك..
جوان: اليوم مع جمشيد..
رشِى: “دون أن تجيب على استفسار جوان، توجّه كلامها إلى آختي، وتريد له أن يشعر ببعض المسؤوليّة تجاه نفسه وابنه، وتريد أن تشهّد جوان على ما سيدور من حوار”:
إنّ جوان سيسافر..
إن شاء الله سيكون ذلك اليوم قريباً كأنّه اليوم..
مضت عشر سنوات وأنت راقد في الفراش..
لم تعلّم هذا الولد يوماً درساً..
لم تقل له هذه لغتك الأمّ..
“وبنبرة أعلى”: ماذا تفعل بتلك الكتب..؟! ماذا تفعل ..؟!
“مشيرة بذلك إلى الكتب التي خلف رأسه في مكتبة يغرقها الغبار”.
آختي: بكسلٍ وتندّمٍ”:
أووه.. يا ليتني لم أتعلّم شيئاً من هذه الكتب..
يا لسعادة الأمّيّين الذين لا يدركون منها شيئاً..
إنّهم لا يكادون يتوسّدون المخدّة برؤوسهم، حتّى يغطسوا في النوم، دون هموم..
رشِى: “تحاول أن تحرِّض فيه الماضي الجميل”:
قصائد جكرخوين وصرخاته..
“ومذكّرة إيّاه بتلك الأيّام البريئة التي كانت إرادة الصمود، برغم الفقر، تزيّنها”:
لقد وضعك عشرات المرّات في حضنه.. وكان يكرّر دائماً: العلمَ العلمَ..
آختي: “باستهزاء، ومحاولاً أن يضفي النتيجة الواقعيّة كلّها على كلامه”:
لقد نشر المسكين جكرخوين عشرات الدواوين..
كان ميتاً في حياته..
“متسائلاً مؤنّباً نفسه”: ألم أتعلّم..؟! “وبحسرة”:
أعطيت ثماني عشرة سنة من شبابي.. “وببالغ التأسّف”:
واليوم علمي لا يساوي ليرة صدئة..
وفوق ذلك، أيضاً، الآن أنا من دون هوية ومارق..
رشِى: “تخشى أن يسرّب أفكاره الكارثيّة إلى ابنه، فتبادر إلى تحذير جوان من غلط ما يقول والده”:
جوانـ:ي لا تبالِ بما يقوله أبوك..
لقد مضت عشر سنوات وهو معتزل الناس والدنيا..
آختي: “هنا يندسّ في الفراش”.
جوان: “منتبهاً إلى والده، ومقتنعاً بكلام جدّته”:
لماذا دسست نفسك في الفراش..
أمّي لم تخطئ في شيء..
آختي: “ينظر إليه يعطيه درساً في عدم الإصغاء لكلّ كلامٍ يقال”: جدّتك قد حفظت بعض أقوال جدّك..
رشِى: “تحاول أن تردّ الطعون التي يوجّهها آختي إلى مصداقيّتها التي يشكّك فيها، وفي صحّة كلّ ما تتفوّه به تالياً”:
أيّها النؤوم.. أنا أمّ كلستان.. يا لضياع تلك الكتب خلف رأسك.. عندما كانت كلستان تعتزم الذهاب إلى جبل جودي.. كانت ستصنع نصراً..
كنت في ذلك الوقت قد صنعت من شواربك مثل المِدَمّة، وصنعت من صدغيك، مثل قرون الحيوانات.. وكنت تردّد دائماً: رشِى.. ابنتك سوف تزعزع السلام العالميّ..
جوان: “محاولاً إدخال الفكاهة إلى الجوّ الذي بدأ بالاحتقان بينهما، يقول ضاحكاً”:
كيف يا جدّتي.. صدغاه كالقرون..؟!
رشِى: “بحركة انفعاليّة، وبسرعة تنزع صورته القديمة عن الحائط”:
يا بني: عمّتك كلستان قالت لي:
لقد جعل شواربه كحرف M، يعني ماركس..
ومن صدغيه كحرف L ، يعني لينين..
انظر.. انظر.. “وتريه الصورة”.
جوان: “يتمعّن في الصورة التي رآها كثيراً، وينظر إليها هذه المرّة بشكلٍ مختلفٍ عمّا كان ينظر إليها في كلّ مرّة، وجد فيها جديداً، تضامن مع جدّته”:
كان أبي يشيّد بنيان الماركسيّة واللينينيّة بشواربه وصدغيه..
رشِى: “تعقيباً على كلام جوان، والصورة في يدها، تحرّكها مع كلامها يمنة ويسرة، وتشرح فحوى كلام ابنها اليائس الميئِّس”:
والآن أقول له: تشرّق .. تغرّب.. اعتنِ بتربية ابنك، وترتيب شؤون بيتك.. وهو لا يني يردّ عليّ باستهزاء:
سنموت.. سنموت.. ماذا سيصيب ابنك..؟ له ربّ يحميه..
“ثمّ تُغيّر مسار الحديث، وكأنّها قد تنبّهت توّاً للسؤال الذي وجِّه إليها عن تحضير الفطور”:
هل أحضّر الفطور..؟
آختي: “يخرج رأسه ثانية من بين فراشه، ولينقص من قيمة ما تواجهه به أمّه، يتشاغل بالمخدّة ليعيد وضعها في مكانها”: أنا لن أردّ..
جوان: “متحدّياً والده”:
انهض وقل.. والله إنّ نقاش جدّتي أكثر تماسكاً ووضوحاً من كلام سكرتير أحد الأحزاب، كان قد شارك أمسِ في حوار مُتَلْفَزٍ..
آختي: “محبطاً محاولاته التي لن تفيد معه”:
جدّتك تقصّ عليك القصص، كانت هكذا تسردها لي أيضاً..
رشِى: ” بتحبّب”: جوانـ:ي لقد أوقع اليأس والتشاؤم والدك.. لا عتب عليه..
“تذهب إلى المطبخ لتحضّر الفطور”.
آختي: “بانزعاجٍ على مستقبل ابنه الذي يكاد يشابه مستقبله لو أنّ أمّه تمكّنت من زرع أفكارها في رأسه، يلاحقها بجمله”:
أنا متأكّد أنّك ستقصمين ظهر هذا الفتى..
“وباستسلامٍ يشرح عدم استطاعته”:
لم أكن أستطيع.. لم أكن أعلم..
كيف آخذ حقّي.. وأنت تحمّلينني ثأر أبي وأبِ أبي..
“ثمّ يتوجّه إلى ابنه، بعد أن غابت أمّه عن ناظره، ينصحه نصيحة هي ملخَّص تجربته الحياتيّة، ومتأكّداً من جدواها”:
يا بني.. اعتنِ فقط بحملك.. فإنّك لا تستطيع رفع أحمال أربعة آباء..
“مستهزئاً كمن يتشفّى من نفسه، ومن ادّعاءات أمّه التي لا تكفّ عنها”:
قد يستطيع رستم زال والأسد عليّ أن يحملا أعباء جدّتك..
جوان: “مشكّكاً فيما يقوله والده”:
تقصد أنّ قصص الأمّ رشِى أحلام وخيالات..
“يكلّم نفسه مؤكّداً”:
لقد كبرت مع هذه القصص، لم أرَ أمّي.. الجدّة رشِى هي أمّي من ناحية، ومن ناحية أخرى هي أبي..
إنّ أحلامي حتّى الآن هي مع هذه القصص..
أحلّق معها.. أغدو بطلاً.. أساند المظلومين والمسحوقين..
آختي: “بنبرة يستجدي العطف”:
لقد غُلبت يا بني.. أنا لست مخيَّراً، لو أنّني بقيت اليوم بطوله نائماً، فلا يمكنني أن أحلم حلماً واحداً..
“ومتمنّياً”:
كم كان سيكون جميلاً، لو أنّ الطفولة لازمت الإنسان، واستمرّت معه مدى الحياة..
“وبهدوءٍ مضيفاً”:
فقط، عندما تكبر يوماً ستكتشف كنه مشاعر والدك هذه..
رشِى: :تدخل ومعها مائدة عليها ثلاثة صحون وإبريق شاي وثلاث أقداح”:
فطورك جاهز..
جوان: “ينظر إلى الساعة”:
تأخّر الوقت.. لا أمّاه. لقد تأخّرت..
“يمضي مسرعاً، يحمل حقيبته. ينسى كتابه”.
رشِى: “تناديه، بعد أن تضع المائدة على الأرض، وتسارع إلى كتابٍ نسيه جوان”:
جوانـ:ي لقد نسيت كتابك..
“ثمّ رافعة كتابه في يدها، بعد أن عاد جوان من أمام الباب الذي كان سيغلقه”:
سترى مستقبلك في هذا الكتاب..
سترى فيه أخطاء أجدادك..
سترى فيه مسألة: “مَنْ نحن، وكيف يجب أن نعيش..”.
وبإمكانك الدفاع بهذا الكتاب عن شعبك..
جوان: “يوجّه يده صوب والده دون أن يتكلّم كأنّه يستخلص منه العِبَر”.
رشِى: “تهزّ رأسها موافقة.. ومضيفة”:
وستعثر فيه على أسباب تشاؤم أبيك..
“وبابتسامة”:
وسواد الجدّة رشِى..
“وهي عندما تتكلّم بما تتكلّم به، يقترب منها جوان رويداً رويداً متفكّراً في كلّ ما تقوله، يصل إلى جانبها، تربت على كتفه بثقة وتفاؤل”:
يا بني.. الدنيا كهذا المسرح الذي نمثّل فيه..
كلّما كنت متفوّقاً في أدوارك التي تؤدّيها، سيصفّق لك الجمهور.. أمّا الكسول المتشتّت، فإنّ الجمهور لن يكتفي بعدم التصفيق له، بل (سيُجَرْجرونه) من كتفه، ومن ثمّ سيقذفون به من مسرح الحياة كلّها..
“يمسك جوان بطرف كتابه، ويترك طرفاً منه في يد جدّته، يقبّل جبهتها، ومن ثمّ يدها، ويدير ظهره إلى أبيه.. تضاء الصالة بأضواء قويّة، يعلو صياح الديَكة، يقوى بشكلٍ تصاعديٍّ.. وتسدل الستارة..”.
– النهاية –
جريدة (الزمان) الدولية – العدد 3140 – التاريخ 5/11/2008