لطالما هناك أسئلة وصراع وقلق فالحزن رفيقٌ دائم (حوار مع الفنَّان التشكيلي نهاد التُّرك)

حاوره هوشنك أوسي

* مشافهاته صاخبة، عاتية، وغزيرة، ونتاجهُ أغزر. دائم الفوران، في استقطاب اللحظات — المارقة إلى كمون عبثه الطفولي. يصول بألوانه في تعبيريَّة هادرة من فرط التركيز. تقول عنه الألوان، بأنَّه تعبيريٌّ حدَّ الهوس. ويقول الهوس عن تعبيريَّته، بأنَّها وحشيَّة، تثيرُ الرُّعب والحزن والألم الخانق. ثائرٌ، على طريقته. مناضلٌ، على طريقته. عاشقٌ، على طريقتهِ. مولعٌ بالفوضى الأنيقة، المثلجةِ للأرواح. كان لنا معه الحوار التالي:
* لا يبدو أنَّ نهاد التُّرك، قد ابتعد كثيراً عن طفولته. كيف ينعكس هذا على أعماله؟.

– كغالبيَّة الفنَّانين، الذين عاشوا واقعاً مريراً من الحرمان والألم، وخُدِشت طفولتهم به، أرى من الطبيعي، أن اتَّجه نحو صياغة أشكالٍ، تعبِّر عن تشوُّهي، وتلتقط مرارة الواقع، كطفلٍ يمشي على حافةِ حائط القلق الذي يلازمني، وأنا أضحك.

* كيف تختصر لنا المحطَّات البارزة في تجربتك؟ وما هي العوامل التي ساهمت في صياغة وعيك التشكيلي؟، ومن أين تستقي خيالك؟.

– في سنين المراهقة، كنت ألجأ  إلى  مرسم أستاذنا الراحل، النحَّات سيدو رشو. وأعتقد أنَّ ذلك التواصل، كان له التأثير الواضح في صياغة وعيي التشكيلي. والأهم من ذاك، هو نزعة التحدِّي التي كانت تميّزني منذ الطفولة. فأنا بنيت نفسي بجهودي الذاتية أولاً وأخيراً. الواقع الذي أعيشه، هو مرجعيتي الأساسيَّة لولادة نتاجي الفنِّيّ. والألم والانكسار، لهما دور كبير في غزارة أعمالي.

* لمن تقرأ؟، ومتى تقرأ؟، وما دور فعل القراءة على مفرداتك وصياغاتك التشكيليَّة؟.

– أقرأ ما أحبُّه. واللجوء  إلى  الكتاب، قبل النوم، هي إحدى العادات التي أمارسها بلذَّة. المعرفة بالنسبة لي، داعمٌ مهمٌ لتجربتي التشكيليَّة.

* الاتجاه للتجريد في التشكيل, ألا يعتبر هروباًَ من الواقعيَّة والانطباعية؟.

– ليس صحيحاً، من أختار لنفسه أسلوب التجريد في الرسم، اتهامه بالهروب من الواقعيَّة!. الأسلوب التجريدي، له مواصفات وخصائص. والمبدع، له الحقُّ في اختيار الطريقة التي تناسبه، للتعبير عن أفكاره وآلامه. أنا أقصد المبدع الحقيقيّ، المتمكِّن من الواقعيَّة سلفاً، وليس شبيهه.

* لمن يرسم نهاد التُّرك؟.

– أرسم لنفسي، بالدرجة الأولى. لأنَّني أحبُّ الرسم. ولأنَّني وجدت نفسي منذ الصغر أتلذَّذ بممارسة الرسم. أمَّا العمل الفنِّي، فيما بعد، يعرض على الآخرين. قد يلقى صداً ايجابيَّاً أو سلبيَّاً. العمل الفنِّي، هو رؤية الفنان تجاه الحياة.

* أذاً، كيف تقرأ الالتزام في الفنّ؟ وكيف يمكن أن يعبِّر الالتزام في الفنِّ التشكيلي عبر استخدامك لتقنيات التجريد.

– لست ممن يتبنُّون الأسلوب التجريدي للتعبير عن قلقهم ومواقفهم تجاه الحياة. التعبيريَّة خاصيَّتي، وقدري، أن شئت. بعض القيم التجريديَّة في أعمالي، لا تعني أنَّني أنتمي  إلى  هذا الخط. أنا تعبيريّ. وأرى في ذلك الكثير من الالتزام تجاه دراما الحياة.

* بعيداً عن نهاد الفنَّان, كيف تنظر بعين الناقد لتجربة نهاد الترك؟. ماذا أضاف؟ أين نجح؟ أين أخفق؟.

– أعتقد أنَّني حققت شخصيَّة وبصمة خاصَّة، خلال هذه السنوات القليلة من تجربتي. وإن كان ذلك صحيحاً، فهو نتيجة جهد بذلته، وتحدٍّ قبلته، منذ البدايات. علماً، أنَّني، في الكثير من الأحيان، أشعر أنني كسول وخاسر. وثمَّة شيءٌ خفيٌّ في أعماقي، يحرِّضني دوماً، على معاودة دخول الحلبة، لأنشر الذعر والحبَّ باستمرار.

* هل لديك تصوّر مسبق للعمل الذي تشتغل عليه؟, أين وكيف ومتى سينتهي؟.

– الفكرة كالنيزك، إنْ لم تلتقطها، ستذهب، دون عودة. تراودني، تشاكسني، تعترض خيالي وفكري. ربما في المقهى، أو في مكان آخر، أدوِّن تلك الفكرة على الورق. وعندما أدخل مختبري، أبدأ بالتركيز، وأخطُّ الشكل الأولي لها. قد ينحرف العمل مائة وثمانين درجة، أثناء التنفيذ. وربما تلمع نواة لفكرة جديدة. العاطفة، لها النصيب الأوفر في عملي. العقل يتدخَّل لتهذيب بعض الخطوط والمساحات. الرضا الداخلي، يحسم كل شيء.

* هل هناك ثمَّة مشهد تشكيلي كردي سوري؟ وما هي خصائصه وميزاته.

– المشهد التشكيلي السوري، غنيٌّ بفنانين من أقوام مختلفة. ليس صحيحاً التوصيف الشائع “حركة تشكيليَّة كرديَّة في سوريا”. الأدقّ، والأصحّ، وجود فنانين أكراد، نشيطين، متميّزين، حققوا نتائج هامَّة، داخل جسم الحركة التشكيليَّة السوريَّة. وباعتقادي، الذي يجمعهم، النزعة التعبيريَّة الموجودة لدى جميع الفنانين الأكراد. وهو أمرٌ هام، يحتاج للتشخيص الدقيق، بغية وصف حالهم.

* هل مفهوم الذكورة والأنوثة يترجم نفسه في أعمال الفنان التشكيلي؟. يعني، هل جنس اللوحة من جنس صاحبها؟. هل ممكن أن نلمح ذكورة في لوحة ما, لمجرَّد أنَّ صاحبها فنَّان وليس فنَّانة أو بالعكس؟.

– أنا لست مع هكذا تصنيف. ولا أعتقد أن هذا الموضوع أخذ أبعاداً وجدلاً واسعاً في محافل الفنِّ التشكيلي. أستطيع أن أقدِّم لك فناناً، نتاجه يضخُّ بالأنوثة، ما يكفي، من اختيار المواضيع،  إلى  تقنية الرسم. وهناك من الخشونة والصخب في كثير من لوحات العديد من الفنانات. الجمال يصنعه الإنسان.

* كيف يعكس نهاد الترك معاناة ونضال شعبه الكردي في لوحاته؟.

– غالبيَّة الفنانين الأكراد، مرتبطين بقضيَّة نضال شعبهم، لنيل حقوقه المشروعة. انعكاس هذه المعاناة، بشكل مباشر، في نتاج الفنَّان الكردي، أمرٌّ يحتاج التدقيق. هناك ما يكفي من القصص والملاحم في تاريخ وثقافة شعبنا، يستطيع أيّ فنَّان الاستفادة منها، ليقدَّم أعمالاً معاصرة، في غايَّة الجمال. أضف  إلى  ذلك، أنَّ الفنَّان الكردي، مطالب دائماً باتخاذ مواقف نبل وتضامن تجاه قضيَّة شعبه. وخاصَّة، في هذه المرحلة.

* ما الذي يحزنك؟

– لطالما هناك أسئلة وصراع وقلق فالحزن رفيقٌ دائم. وهو أحد الدوافع الهامَّة للعمليَّة الإبداعية.

* متى تشعر بالندم؟.

لا أريد لهذه الكلمة، أن تحتلَّ مكانها في قاموسي. واسمح لي، استبدالها بكلمات أخرى، كالخيبة والانكسار التي عايشتها مرَّات عدَّة.

* هل يمكن أن يكون الفنَّان كيديَّاً أو شريراً أو كارهاً؟.

– نعم؛ كلُّ هذه المواصفات، في بعض الأوقات، تنطبق على الفنَّان. وهذا ليس بشيء غريب، فهو إنسان.

* الفنَّان،  إلى  أيُّهما أقرب: الشيطان أم الملاك؟.

– الاثنين معاً. كثيراً ما كان يتَّهم بيكاسو من قبل إحدى زوجاته، بأنه شرير. ولكن بيكاسو، لم يقتل، ولم يؤذي أحد. هنا، كلمة الشرير، بمعناها العميق، هي النرجسيَّة التي مارسها بيكاسو. أعتقد أنَّ الفنَّان، بصورة عامَّة، ذو سلوك ايجابي. وهو مثل الزجاج الرقيق الشفاف، إذا أنكسر، قد يجرح الآخرين.

* لماذا يوصف الفنَّان، بأنه كتلة من القلق والاضطراب والجنون؟ وإنْ صحَّ هذا، كيف يمكن أن يكون الجنون ملتزماً؟.

– نعم، الفنَّان كتلة من القلق والاضطراب، لكونه يمتلك حساسيَّة شديدة تجاه التعاطي مع من حوله. ويمارس في مرسمه عزلة وتركيز شديد. وينعكس هذا على سلوكه. ينفر ويتمرَّد،  إلى  درجة تتَّهمه العامَّة بالجنون. وهذا الجنون، ليس إلا سلوك، غير  طبيعي للعامَّة. وهو نتيجة عدم انسجامه مع محيطه. من هنا نقول: هناك التزام من زاوية أخرى. وهي الدائرة التي يحيط بها نفسه. فهو شديد الإخلاص لهذه الدائرة. ويرفض تخديشها، مهما كلَّفه الأمر. وما أعنيه، عدم تمييع وتسطيح وتقييد حساسيته تلك، التي هي نافذته تجاه العالم. قد يكتشف البشر حقيقتهم، من خلال نافذة الفنان تلك.

* لو أن نهاد التُّرك, سيفارق الحياة – لا سمح الله – بعد لحظات، ماذا يودُّ أن يقول؟

– لا أحبِّذ هذه الجملة، لأنَّها تذكِّرني بالسرير. أنا في قلب المعركة. ونهايتي أتمنَّاها في الخندق الأمامي. وما أودُّ قوله هو: إنَّني أريد أن أعمل أكثر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
نهاد الترك: مواليد 1972. يمارس الرسم منذ الصغر. يقيم في حلب.
معارضه والجوائز التي حصل عليها: معرض فردي – المركز الثقافي الفرنسي 1999 دمشق
معرض فردي – بيت المدى للثقافة والفنون 2001  دمشق
معرض فردي – مرسم فاتح المدرس 2004  دمشق
معرض فردي – ديار بكر 2005  تركيا
جائزة تقديرية  معرض الشباب الأول. صالة الشعب 1998  دمشق
جائزة تقديرية (مسابقة فكر مع يدك) المركز الثقافي الأسباني 2000 دمشق
الجائزة الثانية  معرض الشباب الثاني . صالة الشعب 2001 دمشق
الجائزة الذهبية  بينالي المحبة الدولي الخامس 2003 اللاذقية
جائزة تقديرية ­­­­ معرض الشباب الرابع . صالة الرواق 2004 دمشق
له مشاركات في معارض جماعية ومشتركة داخل سوريا وخارجها.
ـــــــــــــــــــــ
عن مجلة سورغُل للبحث والتوثيق والتحليل

العدد 44 _ 45/ آب وأيلول 2008

 
فيما يلي بعض أعمال الفنان نهاد الترك:

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…