كما كان العرب يصنفون الشعراء إلى مطبوع ومصنوع وفضلوا المطبوع منه على المصنوع، لأن الشاعرالمطبوع هو الذي يأتيه الشعربشكل عفوي وبدون سابق إنذار صاعداً من أعماق لاوعيه حسب المحلل النفسي يونغ، والذي يعبرعن مقدرة ذات الشاعر وأحاسيسه الخاصة، وهو بهذا يشكل قطعة من النفس تماماً.
ولهذا يرى (اليزابيت درو)في هذا الشأن:(أن الشعر ينبع من مصدرين: من جبرية غامضة تكمن في اللاوعي، ومن تنظيم صناعي تام الوعي…)(3)
ويكون الشعربالإضافة إلى هذا وذاك معاناة وتجربة وشعور إنساني نبيل، وهولذة وموسيقى وإيقاع ساحر تتمايل النفس البشرية أمامه طرباً وانتشاء. وكل شعر في اعتقادي لايحرك النفس البشرية بل لا يتمايل الإنسان أمام نسائمه الرقيقة يمنة ويسرة، لايعتبر شعراً بل هو شيء آخر سميه ماشئت. وسنأتي على تفصيل ذلك لاحقاً.
وينقسم الشعراليوم إلى قديم وحديث كما كان ينقسم في العهد العباسي أيضاً وكان يعد من الحداثيين اثنان من فحول الشعر العربي آنذاك وهما أبي تمام وأبو نواس بدون منازع. والشعرالقديم يعتمد على محاكاة الخارج حسب النظرية الأرسطية، أي أن الشعر هو تصوير ومحاكاة للطبيعة وللحياة الخارجية وتقليد للآخرين، وفيه يكون البيت مؤلفاً من شطرين ويسمى الشطر الأول الصدر والثاني العجز، كما تعتمد أبيات الشعر الكلاسيكي في موسيقاها الشعرية على الوزن والقافية وهما من مستلزمات الشعر الفراهيدي القديم، فهما يمنحانه موسيقاه الخارجية والتي بقيت تشنف الآذان العربية والشرقية عموماً طوال قرون مديدة، بل مازال الوزن والقافية مستمران في آداء عملهما الأثير حتى اليوم.
بينما يرى الرومانسيون أن الشعر ليس تقليداً ولامحاكاة، بل هو يصدرمن ذات الشاعريعبرعما يجيش في النفس الإنسانية من أحاسيس وقلق وتوتر واضطراب. في حين أن الشعر الحديث له خصوصيته وكاريزماته الشكلية والتعبيرية على السواء، ومن سماته التماهي بين الذات والموضوع، أي أن من خصوصيات الشعر الحديث بالإضافة إلى ما يعرف بالوحدة العضوية للقصيدة، هي أن يعمد الشاعر إلى أن يماهي بين ذاته والموضوع الذي يتناوله في وحدة لاانفصام لها.
هذا الشعرالحداثي ينقسم بدوره اليوم بين قصيدة النثر وهي التي لاتراعي القوافي ولا الأوزان، بل تعتمد على الإيقاع الداخلي بشكل خاص، ثم الشعرالحرأو شعرالتفعيلة وفيه تلغى الأبيات وتتحول إلى سطور شعرية بتفعيلة واحدة، أي في كل سطر تتتكرر التفعيلة ذاتها، ويتم فيه أيضاً الإستغناء عن الأوزان والقوافي إلا لدى بعض الشعراء كما هو الحال لدى نازك الملائكة مثلاً، أوتصبح التفعيلة الواحدة هي الوزن والقافية للسطورفي آن واحد.
وبالإضافة إلى التفعيلة الواحدة ترى الشاعرة العراقية نازك الملائكة، ضرورة ورود حرف الروي في نهاية كل سطر أو كل سطرين متتابعين، بينما لايرى الناقد المصري عزالدين اسماعيل في ذلك منفعة، بل يقول إن حرف الروي يبعث الملل في نفوس المتلقين والقراء. وبناء على هذا نرى حرف الروي وبشكل كلاسيكي، تتكررفي معظم إن لم نقل في كل قصائد نازك الملائكة الحداثية، كما في قصيدتها/شجرة القمر/ نموذجاً:
شجرة القمر
على قمة من جبال الشمال كساها الصنوبرْ
وخلفها أفق مخملي وجو معنبرْ
وترسو الفراشات عند ذراها لتقضي المساءْ
وعند ينابيعها تستحم نجوم السماءْ
هنالك كان يعيش غلام بعيد الخبالْ
إذا جاع يأكل ضوء النجم ولون الجبالْ
نرى هنا أن الملائكة لتبعد الملل عن النفوس لجأت إلى تقنية تنوع القافية والروي الواحد بين كل سطرين متتاليين، أي أوردت نفس حرف الروي لكل سطرين متتابعين من سطور قصيدتها هذه كما هي حال معظم قصائدها الأخرى. لاشك أحسستنا الشاعرة هنا بموسيقى عذبة وإيقاع جميل وغموض شفاف، ولكن في رأيي كانت الموسيقى ستكون أبعد عن الملل، وأكثر عذوبة والإيقاع أكثر جمالاً، في حال إذا ما أوردت الشاعرة نفس حرف الروي بعد عدة أسطر،وليس بعد كل سطرين متتابعين.
أي لا أرى هنا من الضرورة في شيء ورود حرف الروي في كل سطر شعري أو حتى فيي كل سطرين متتابعين كما ترى الملائكة، ولاالإستغناء عنه نهائياً كما يرى عزالدين اسماعيل، بل من الأنسب وروده، ولكن على أن تكون المسافة بين حرف الروي ونفسه ما بين ثلاثة إلى أربعة أسطر أوضمن هذه الحدود، وذلك تنفيساً للشاعر من قيود الروي المتكرر في كل سطر من جهة، وإبعاد الملل من القاريء والمتلقي ومحاولة لإحساسهما بشيء من سلاسة السطور وعذوبة موسيقاها الشعرية وجماليات إيقاعها المتناغم.
وإلى جانب هذا وذاك يجب على الشاعر أن يكون مثقفاً بما فيه الكفاية وملماً بتراث شعبه بشكل خاص يستمد منه الشعرية والعزيمة والعون، قادراً على استدعائه في كل آن وزمان، يقول الشاعر المصري صلاح عبد الصبور(التراث هو جذور الفنان الممتدة في الأرض، والفنان الذي لايعرف تراثه يقف معلقاً بين الأرض والسماء، ومعرفة التراث لايمكن أن تفضي إلى المعارضة بل التجاور..). وبهذا المعنى تقريباً يقول نزار قباني: الكلمة الجميلة(…..هي الكلمة التي إن لم تفتح أمامك معالق صخرة علي بابا فهي تفتح أمامك نافذة على وجه الله. والكلمة التي أكتب ليست طفلاً بلا نسب، إنها تراث عاطفي اجتماعي انساني يحمل سعال أبي ونداء أمي، وشجار صبيان حارتنان وطقطقة خشب الشوح في مخبز ضيعتنا، وشكوى مزاريب بيتنا القديم الذي لا أبيعها بسيمفونيات الدنيا مجتمعة).
وسنكتفي بهذا القدر من المقارنة بين الشعر القديم والحداثي لنأتي إلى الحديث عن ظاهرة الغموض في الشعر الحر أو الحداثي ومن الآن فصاعداً كلما مرت بنا كلمة الغموض نقصد به في الأعم الأغلب الغموض الفني وليس اللغوي، ومن كاريزمات هذا النوع من الغموض في الشعر الحداثي الحرهي: كسرالرتابة الوزنية، أو شعرية الإنكسار، والحرية التعبيرية باستخدام الإستعارة، والرمز، والجملة الإعتراضة، والحذف، والمجاز، والتقديم والتأخير، واشتقاقات صرفية غير مألوفة…الخ. وهذا النوع من الغموض هو موضوع دراستنا اليوم. فنقول أن الشعر الحر تعبرعنه الكلمةالإنكليزية (Free verse) وهو مقتبس من التعبيرالفرنسي.(Vers libre) وهذا التعبير يفسح للشاعر – كما قلنا – حرية لاحدود لها للتحرر من إسار الإيقاع الخارجي للشعر وهما الوزن والقافية، وسيمترية العمود الشعري في آن واحد، ويضاف إلى كاريزمات الشعر الحداثي الرئيسية اليوم ظاهرة الغموض والمعنى المعقد أو اللامعنى أحياناً والذي واكب مسيرة الشعر الحداثي. وجارى النقاد الشعراء في ذلك وقالوا أن الشعر الحديث لايريد المعنى، أي لايريد مايقوله النص الشعري بل كيف يقول هذا النص.
بل ويعتبر الغموض ومعه شعرية الإنكسار من أبرز كاريزمات السطورالشعرية لدى شعراء الحداثة بشكل خاص، ونحب ان نشير هنا إلى امتياز شعرالغموض الحديث بوضوح المدلول والمعنى القاموسي للكلمة المفردة ولكنه الغموض السياقي لمجمل العبارة وبالضد من الشعر القديم في هذا المجال. ولكن هذا النوع من الشعرصادف عقبة كأداء في طريق ذيوعه وانتشاره، ألا وهو تسربله بظاهرة الغموض المعقد أو ما سميناه في الحقيقة بشعرالألغازوالأحاجي، وهو عكس شعرالغموض الشفاف المقبول والمحبذ من جمهور المتلقين والقراء، لأن النقاد رصدوا نوعين من الغموض في النص الشعري وهما الغموض الحميد أوالشفاف، ثم الغموض المعقد، والأخيررغم شعريته وقدرته على تفجيرالطاقات الإيحائية الدلالية للكلمة، ورغم ما يقوله الشاعر السوري أدونيس عنه: (إن الغموض في الشعر ليس بذاته نقصاً وأن الوضوح ليس بذاته كمالاً، والغموض قد يكون دليل غنى وعمق وهذا ما نبه عنه ناقد قديم فقال أفخر الشعر ماغمض)(4) إلا أن هذا الغموض من جانب آخر يشكل عقبة كأداء وراء عدم ذيوع الشعر الحديث وعدم حفظه في الصدوربعكس الشعرالقديم أوالحديث بكلماته البسيطة وغموضه الشفاف، فيبقى في المحصلة هذا الشعر الغامض حبيس الدروج والبروج. وهكذا يرى الناقد السوري نعيم اليافي: بأن العرب كانوا يفضلون في الشعر وضوح المعنى والمباشرة أي:(أن يسبق لفظه معناه). ولكني أرى من جانبي، أن على الشاعر أن يكتب قصيدة الغموض ولكنه الغموض الشفاف وهذه الظاهرة في الشعر وحدها تشهر الشاعر وتخلق مجده وتذيع قصائده على رؤوس الأشهاد. فالشاعرالذي يكتب غموض الشعر إن أراد التأكد من هذا الأمرعليه أن يسأل نفسه كم من القراء يحفظون سطراً واحداً من شعره المبهم والمليء بالطلاسم والألغاز؟ وهذا هو مقياس شهرة الشاعر ولاأقول شاعريته، لأن الشاعرية قد تأتي حتى مع أعقد السطور وأكثرها غموضاً كما يقول أدونيس.
وحول هذا يقول محمود درويش:
أجمل الأشعار ما يحفظه عن ظهر قلب
كل قاريء…
فإذا لم يشرب أناشيدك شرب
قل، أن وحدي خاطيء..
ويجدر بنا أن نذكر الشعراء الحداثة من الشباب، بأن عليهم لاعدم كتابة بل التقليل من كتابة شعرالطلاسم والإبهام أو الغموض المعقد إلا حينما يكتبون للنخبة أو حين يريدون إشباع تجربتهم الشعرية، وأن يتذكروا بأنهم يكتبون للآخرين وليس لأنفسهم وليس للنخبة دوماً، إذ ليس هناك في العالم شاعر يكتب لنفسه وإلا فسيعاني من العزلة والإهمال وخمول الذكر والمآل، ولهذا لانوصي – كما قلنا- بإهمال الغموض المعقد أبداً بل من حق الشاعر أن يدلي بدلوه في جميع فنون الشعر، لأنه – وبكل بساطة – حتى الغموض المعقد او الشعر المطلسم هو فن وأبداع، ولكن نوصي بالتقليل منه والإكثار من نوع الغموض الشفاف بالترافق مع الإيقاع الجميل واللفظ اللهيف، حتى ينقش في الصدور، ويشنف الآذان، وينشرالسرور، ويفرج عن هموم الأفئدة والصدور، رغم ما قلناه من أن الشاعر قد يكون مع هذا الغموض فارس الكلمة وشاعرها المجيد.. ربما، ولكن ودوماً من دون قراء!. ولهذا علينا أن نشير إلى أنه وحتى في قصيدة الغموض المعقد، يفرغ الشاعر فيها أجمل إحساساته وأرق عواطفه، ورغم ما أتوسم فيها من طاقات شاعرية وإيحائاتها الدلالية العالية وقدرتها التفجيرية للكلمات المنتقاة بعناية، ورغم سويتها الفنية والإستيطيقية المتميزة، إلا إننا وإن سألنا ما هو حال القراء مع هكذا قصائد..؟ والجواب هو ما تقرأه لاما تسمعه . ولابأس أن يكتب الشاعر شعرالغموض للنخبة أيضاً وإظهار مقدرته الشعرية فيها، ولكن من المفضل أن يبقي على صلته بجمهوره فلايهدر إبداعاته سعياً وراء موضة حداثية ليس إلا. ولهذا أقول أن من الأفضل للشاعر أن يكون غامضاً شفافاً مشهوراً، ولا مبهماً مغموراً.
ولأسباب سنذكرها لاحقاً، لماذا ظهر الغموض المعقد في الشعر الحداثي وبشكل مكثف لدى شعراء الغرب رغم أننا قد نلمس بوادر شعرالغموض لدى بعض شعراء العربية القدامى أيضاً؟ كما في معلقة طرفة بن العبد والذي يقول في بعض أبياته:
كان علوب النسع في دأياتها موارد من خلقاء في ظهر قردد
ثم قوله:
وأتلع نهاض إذا صعدت به كسكان بوصيٌ بدجلة مصعد
ولكن ليس هنا سوى غموض المعاني القاموسية للكلمات، وبالإستعانة بالقواميس اللغوية نستطيع بسهولة فك طلاسم الأبيات، والتعرف على مراد الشاعر الجاهلي بدقة ويسر!
بينما اعتمد شعراؤنا الحداثيون من الشباب أو جلهم وربما بشكل متعمد وعن سابق إصراروتصميم الغموض النسقي والمدلول الذاتي المتفرد للعبارة، مقتدين في هذا بالشعراء الأجانب. فيقول (بودلير) عن الغموض في الشعر الحديث: (إن في تعذر الفهم نوعاً من المجد). إذاً الشعر الحديث هو المجد للشاعر عندما لايفهمه المتلقي كما يرى الشاعر الشهير بودلير.
وهنا قد نوافق بودليرعما قاله، لأنه وبكل بساطة يحض على الغموض الشفاف ويقول: في تعذر الفهم أي صعوبة الفهم، ولم يقل في عدم الفهم، وهنا سمح للشاعر بترك مساحة لفهم المتلقي واجتهاداته، وفهم النص و فتح مغاليقه، رغم أن النقاد الحداثيون لايأبهون كثيراً لما يقوله النص بل ديدنهم هو كيف يقول النص.
لكن مالفائدة من نص شعري لم يفهمه المتلقي، أو على الأقل إن لم يطربه إيقاعه وموسيقاه. أوإن لم يأخذ شعره في الذيوع والإنتشار، أولم يأخذ الشاعر من خلاله حقه من الشهرة والصيت في أوساط أترابه الشعراء وبين ناسه وقرائه؟ ونيل الشهرة والصيت هومن حق الشاعرالطبيعي أن يعرفه الناس وأن ينتفعوا بأشعاره ويرددوها في كل زمان ومكان. كما هو الحال مع الشعراء الفطاحل اليوم وقديماً أيضاً كامرؤ القيس، والمتنبي، والمعري، ونزار قباني، ومحمود درويش، وملايي جزيري، وعمر أبي ريشة، وغيرهم الكثير ممن لازلنا نردد أشعارهم عن ظهر قلب حتى اليوم؟. ومانجده لدى الكثير من الشعراء الحداثيون هو إنهم يجعلون عدم فهم القاريء مشكلته الخاصة، بل بالعكس أراها مشكلة الشاعر الذي سلخ عن قرائه ومجتمعه، وبدأ يتصنع ويداور ويناور ليقال عنه أنه شاعر فطحل يكتب مالايفهمه الآخرون! وأحب أن أقول هنا بأن الفحولة لاتأتي من عدم فهم القاريء مطلقاً، والقاريء الذي لم يفهم ما يقرأه، فإنه يلقي بالقصائد جانباً لتتوارى ويتوارى خلفها الشاعر أيضاً.
وحول هذا يقول الشاعر المصري صلاح عبد الصبور: (قرأت في إحدى المرات قصيدة لشاعر شاب وأنا المعروف عنه بسرعة البديهة والحفظ، فلم أفهمها…….فأعدت قراءتها مرة أخرى بل مرات أخرى ولم أفهمها أيضاً، فعلمت في النهاية أن العيب ليس فيَ أو في ذاكرتي، بل في كاتب هذه المبهمة المستعصية على الفهم).
ولهذا أرى أن على الشاعر ألايكتب الغموض كله ولاالشفاف كله بل بين بين وفي الحديث الشريف خير الأمور أوسطها، أي أن يكتب هذا كما يكتب ذاك، مع تغليب جانب الغموض الشفاف منه، وعليه أن ينزل إلى مستوى قرائه لا أن يتعالى عليهم باصطناعه التوعر والألغاز والأحاجي ثم يقول هذه مشكلتك أيها القاريء.
وحول هذا أيضاً يقول الشاعر الفلسطيني الأشهر محمود درويش وبشكل معبر جداً: (قصائدنا، بلا لون..بلا طعم..بلا صوت!..إذا لم نحمل المصباح من بيت إلى بيت وإن لم يفهم البسطاء معانيها..فأولى أن نذرَيها..ونخلد نحن..للصمت!!)(5). وبالمقابل هناك شعراء آخرون يمجدون الغموض وخاصة الأوربيين منهم وسنبين أسباب ذلك لاحقاً. ولكني قد لاأوافق هنا على كل ما قاله الشاعر الكبير محمود درويش، لأنه وفي الحقيقة، أن شيئاً من الغموض مع الإيقاع الشاعري اللهيف، يدخل القاريء في حالة انسجام مع النص الشعري ويضطر لاستخدام ذكاءه واجتهاداته ليفك مغاليق الإيحاءات الدلالية للنص الشعري، وما يريده الشاعر أوكيف يريد على الأقل أن يقوله. ولامراء فالشاعر الذي يستخدم الغموض المعقد أو شعر الالغاز والأحاجي فهو شاعر مصنوع رغماً عن إرادته، أي يفكر عشرات المرات في كلمة واحدة قبل أن يضعها في سياقها المناسب في السطر الشعري الحديث؟ لأن الشاعر مهما امتلك الموهبة فإن الموهبة قد لاتسعفه كثيراً وشيطانه الشعري ليس مهياً كثيراً لغوامض الكلم، لأن الشاعر هنا يثقل موهبته وإبداعاته بانتقاء الكلمات الغامضة، أي ما أريد قوله هو أن العفوية والإنسيابية والعذوبة في شعره تصطدم بالكلفة التي يثيرها إنتقاء الكلمة الغامضة مما يؤدي إلى فقدان عامل الإحساس والكثير من الشاعرية العفوية في شعره، فلجعل السطور الشعرية غامضة يتطلب التفكيرالطويل والممل، بينما الشاعر الشفاف تأتيه الكلمة وهو نائم في فراشه، فيستل قلمه ويكتب شعراً مجيداً وبكل بساطة وعفوية غالباً.
وكما – ألمحنا سابقاً- فإن الشاعر الغامض يخسر جمهوره من القراء تماماً، وكما قال السياب يوماً: إن الشاعر الجيد هو الذي يكون نثره رديئاً، ونقول أيضاً: أن الشاعرالمشهوروالمحبوب لدى جمهوره هو الشاعر الذي يحفظ أشعاره قراء كثيرون، ولهذا أقول ثانية: على الشاعر أن يسأل نفسه كم من القراء يحفظون شعره عن ظهر قلب؟ ولكني لا أقول إن شعره ليس جيداً وهو ليس بشاعر مجيد كلا أبداً، ولكني أقول إنه شاعر مغمور إلا من نخبة من الهواة أو النقاد المعدودين لاأكثر ولاأقل، وفي أحسن الحالات يبقى شاعر الأماسي الشعرية في المراكز الثقافية ليس إلا، وحتى الجوائز الشعرية لن تشهره في حال حصوله عليها إلا بين النخبة فقط. وفي ظل الغامض من الشعر كذلك يستوي الشاعرالرديء والمجيد فكلاهما طلسم غيرمفهوم لدى قرائهما هذا إذا كان لهما قراء أصلاً.
وللمقارنة نقول، من منا لايحفظ قصيدة السياب الشفافة والشهيرة.
عيناك غابتا نخيل ساعة السحر.
أوشرفتان راح ينآى عنهما القمر
عيناك حين تبسمان تورق الكروم
وترقص الأضواء.. كالأقمار في نهر
يرجه المجداف وهنا ساعة السحر
كأنما تنبض في غوريهما النجوم…
فهذه من عيون الشعهر الحديث الشفاف أي أنه ليس طلسماً ولاغامضاً معقداً. أو في سطورالشاعرة العراقية الحداثية هناء القاضي، والسطورهي من رقيق الشعر وأعذبه.
علقت بحلم… علقت بوهم
بأنك ستأتي مع الغيم
مع حبات المطر
تنقر شباكي بحذر
وتحملني على أرجوحة من النغم
أوالغموض الشفاف كما في قصيدة الشاعرأديب حسن محمد بعنوانها الساخر(ثلاثية الحمقى).
1….
وأنا أضع رأسي الثقيلة
على صخرة في منتصف اليقين
تفر مقبرة بجلدها مني،
وتخونني شفتاي…فأبتسم…
هكذا…
كعادتي في كل متاهة
أوقظ نهدين غريبين،
وأغط
في
حليب
عميق..!!
بقليل من التفكير يدرك القراء ماذا وكيف يريد أديب حسن أن يقوله في سطوره تماماً، وكل حسب طريقته الخاصة في فهمه لها. ونلاحظ أن الشاعر أجاد لعبة الغموض الشفاف مع المتلقي وانه تعمد في ترك أربع نقاط أمام رقم الثلاثية فهو يوحي بها للقاريء: أن بداية القصيدة لها ما قبلها وعلى القاريء أن يستنبط ويحتهد فيها، أي أن الشاعرترك فسحة للقاريء للتأمل والإجتهاد، كما أجاد الشاعرالتلاعب بالألفاظ والخروج عن المألوف اللغوي واعتماد الدلالة الإيحائية للعبارة الشعرية مثل– تفر مقبرة بجلدها مني- وهناك جمالية مثيرة في القصيدة لامجال لدراستها هنا.
هذه أمثلة واضحة، عن الشعر الحديث الشفاف والغامض الشفاف بشاعريته الجميلة جداً. بينما من منا سيحفظ ذاك الشعر الحديث بتوعره اللغوي وبغموضه المعقد حتى درجة الإستهتار بالشعر. وهذا النوع نسميه بشعر الألغاز والأحاجي أو الطلاسم أو المبهم، كما في هذه السطور الشعرية لأحد شعراء الحداثة في قصيدة أسميتها (الضفادع) والذي يقول شاعرها:
دفنت، نخاع البشرتحت إبط الضفادع
كهوف عفنة.
ليل طاووس يحترق
سلاسل…حوافر…حذائي كذا.
أو قصيدة البردوني الشاعر اليمني والذي يقول فيها:
الرقم العاشر كالثاني وجه المغني ظهر الغاني
الواحد، ألف ألفان سيان القاتل، والراثي
وسوى الآني، مثل الآني سيان الشامت، والجاني
الألف، الصفر، بلا فرق الإنسان الموت الأظمى
بان الأعلى، الداني ودم القتل الظمئى العاني
ولنقارن نحن كقراء بأنفسنا بين قصائد الشعراء الثلاثة السياب، والقاضي، وأديب حسن، وبين القصيدتين الأخيرتين المعقدتين فنياً، فكيف سنجد الفروق بينها وأيها سنحفظها؟ وإياها تستسيغها أذواقنا وأسماعنا نحن كقراء..؟
ولكن هناك بالمقابل من يفضل الغموض في الشعر ولو بدرجة الألغاز والاحاجي. يقول غونكور عن رأي الشاعر الفرنسي (مالارميه) في الغموض الشعري فيقول: (يرى مالارميه أن القصيدة لغزاً، على القاريء فك أسراره)(6).
ولكني في الحقيقة لاأرى ما يقوله مالارميه منصفاً، بل لا أقول ذاك شعراً ويقول مالارميه نفسه هو لغزمحيرويحتاج إلى تفكير طويل لفك رموزه وطلاسمه! وأرى أن من يكتب الألغاز حسب مالارميه فهو(ملغز) وليس بشاعر فلماذا يسمى كاتب الألغاز شاعراً؟ بل هو في أدنى احتمال صانع ألغاز أو شاعرأضاع موهبته الشعرية في تركيب واصطناع الألغاز والأحاجي ليس إلا. ومع شاعر الألغازيضيع دورالشعر الإجتماعي والتحرري الملتزم تماماً. ولكن فلايظنن أحد إننا نريد من الشاعر أن يكتب الشعر الملتزم وحده لا أبداً، بل أن يكون ذاك جزء من اهتماماته الشعرية لاغير. وما أراه هو أن الشعر شكل ومعنى أو شكل ومضمون معاً، والإثنان لايستغنيان عن بعضهما مطلقاً، فإن اختل الشكل وأقصد به الإيقاع بالدرجة الأولى وجمالية اللفظة الموظفة في السطر الشعري هبطت الشعرية في السطور الحداثية تماماً، وإذا اختل الموضوع وكان مبهماً لم يفهم نفر منه القاريء وبقي أمره محصوراً في نخبة من النقاد أو القراء المجدين قد لايعدون حتى على أصابع اليد الواحدة، عندها يبقى جهد الشاعر حبيس الرفوف والأدراج رغم جديتة وعبقريته وإبداعه الشعري المتميز، ولكنه الغامض أصلاً غموض الطلاسم والألغاز. ورغم هذا فهناك من يرى في الغموض سمات جمالية للنص الشعري، فالناقد العربي مشتاق عباس معن الذي يحبذ بدوره الغموض الشعري المعقد يقول: (أمسى التعقيد والغموض سمة جمالية في الشعرالحداثي). 121.
هكذا قالها الناقد بصفة الإطلاق والعموم/التعقيد والغموض/! وأعتقد أنه كلام في غير محله ويجافي الحقيقة تماماً، بل قول تبدو عليه سيماءات التصنع واضحة وضوح الشمس، ويظهرأن السيد مشتاق عباس مثل الشخصية المسطحة في الرواية الحديثة، رضي بدوره التسطيحي وعجز عن التمييز بين النظريات الفلسفية الحداثية وبين الغموض بشكله المناسب والأنسب، ووقع بحسن نية أو بدونها في فخ التابعية وعولمة النصوص الأدبية والشعرية من حيث يدري أو لا يدري. فالسمة الجمالية تكمن على سبيل المثال في قصائد السياب والقاضي وأديب حسن، ولاتكمن مطلقاً وعلى سبيل المثال في قصيدة (الضفادع) وقصيدة البردوني المطلسمة والملغزة التي أوردناها في دراستنا هذه. وما يجب أن أنوه به هنا هو، بأن الغموض لايقتصر لدى شعراء الحداثة على التلاعب بالكلمات وإرباك القاريء وعدم فهم سياقات السطور الشعرية فقط. بل هناك نوع آخر من الغموض وأسميه بالغموض الرمزي أو المعرفي أيضاً، وهذا الغموض المعرفي تكمن في عدم فهم القاريء للدلالات الإيحائية للسطور الشعرية رغم فهمه لمعاني كلماتها القاموسية، وقد نمثل لذلك بـ:
قصيدة الشاعر العراقي بدر شاكر السياب السياب (الموت والنهر).
أود لو عدوت أعضد المكافحين
أشد قبضتي ثم أصفع القدر
أود لو غرقت في دمي إلى القرار
لأحمل العبء مع البشر.
وأبعث الحياة، إن موتي انتصار..!
استخدم السياب هنا تقنية القناع بجلاء ووضوح. ففي قول السياب في الجملة الأخيرة(إن موتي انتصار) قد تكمن معاني القصيدة المعرفية أو الرمزية كلها، فالسياب يشير هنا بقوله /إن موتي انتصار/ إلى إسطورة تموز لدى البابليين أو دوموزي لدى السومريين أوطاووسي ملك لدى الإيزديين، فحينما يموت هذا الإله يحين الخريف والشتاء ويموت الزرع والضرع، وحين قيامته في الربيع تخضر الحقول وتزهرالرياض والبساتين. وهكذا شبه السياب نفسه بدوموزي وأن موته مثل تموز انتصار واخضرارلا موت وفناء. وهذا ما قصدته بالغموض الرمزي أو المعرفي لدى الحداثيين من الشعراء، وهو يتطلب من القاريء أو الناقد أن يكونا مسلحين بالكثير من العلم والمعرفة حتى يفهم معاني الشعر الحداثي، ولاتظنن أبداً أن هناك ناقداً فطحلاً يفكك حفريات النص الشعري دون أن يكون ملماً بعدة علوم معرفية، ومنها علم الأساطير مثلاً كما هو الحال مع قصيدتنا هذه.
ومن النقاد الذين يحبذون الغموض الشعري المعقد بدرجة الألغاز والأحاجي وأكثرهم من الأوربيين بشكل خاص، ومن عندهم خرج شعرالغموض المعقد هو الناقد (جوتغريدن) الذي يرى: (إن الشعر هو الإرتفاع بالأمور الحاسمة إلى لغة المستحيل على الفهم، والفناء الكلي في أشياء تستحق ألا يقتنع بها آخر). المصدر السابق.
لاحظوا عبارة لغة المستحيل على الفهم وهذا هو التحريض صراحة على نص أو شعرالالغاز والأحاجي.وهذا الغموض المعقد والمحبذ لدى الأوربيين الحداثيين والكثير من الشرقيين الذين ساروا على هداهم يعود برأيي إلى عدة أسباب منها:
1- إن اللغة في تركيبتها الحالية سواء عند الأوربيين أو عند غيرهم، لم تعد تجاري لغة الشعرالتي استنفدها الشعراء والكتاب، وكثرت العبارات التي مافتيء الشعراء يكررونها المرة بعد الأخرى، مما أدى إلى إحداث نوع من السأم والملل لدى الشاعر والقاريء معاُ، وهذا ماحدا بالشعراء وبمباركة من النقاد الجدد على اصطناع الغموض المعقد بدرجة كبيرة. وما قول عنترة عنا ببعيد
هل غادر الشعراء من متردم أم هل عرفت الدار بعد توهم
أي وحسب قول عنترة فإن السابقين من الشعراء لم يتركوا للاحقين منهم شيئاً يتغنون به ويجددون به أشعارهم ومغانيهم.
2- الأمرالآخرباعتقادي وبعيداً عن نظرية المؤامرة هو سياسي- إيديولوجي بكل تأكيد، ومن إفرزات الرأسمالية الحديثة أو نظرية مابعد الحداثة التي ظهرت في أوربا، أو أنها عملية متممة لنظرية فوكوياما “نهاية التاريخ” أي ما يقصده فوكوياما هو، أن العالم في مسيرته التاريخية وصل إلى نهاية الإيديولوجيات والمباديء وقد ألقى الإنسان في تطوره الإقتصادي والإيديولوجي عصا الترحال أمام بوابة الرأسمالية، أي أن النظام الرأسمالي هو نهاية مراحل النشاط الإنساني، وهوالمحطة الأخيرة لكل الإيديولوجيات والمباديء والخطابات والقيادات والنظم الثورية، وهو النظام الذي مابعده نظام وعلى العالم كله الرضوخ لمشيئته وقبوله نظاماً عالمياً يصلح لكل زمان ومكان، فلا ثورات ضدها بعد اليوم ولا تمردات واحتجاجات، وليس هناك سوى الفردية وجمع الأموال والتمتع بالحياة على الطريقة السيدورية فتاة ملحمة جلجامش لاغير.
وفي ماسمي بمرحلة الحداثة أو مابعد الحداثة – كما قلنا- ومارافقها ظهرت مقولات موت المؤلف الذي هو المقابل الموضوعي لظاهرة القائد الثوري الذي مات وماتت معه حقوق الشعوب في النضال والتحريرأيضاً. ثم مقولات النص المفتوح، أولانهائية الدلالة النصية، أو حتى عدم وجود نص، وكل قراءة هي إساءة قراءة، وليس النظرإلى مايقوله النص بل إلى كيف يقوله…الخ. أي أن كل قاريء يقرأ النص من زاوية كامرته الخفية حتى يستلذ فقط بمحاولاته النقدية والخوض في حفريات النص الأدبي دون أن يصل إلى المعنى النهائي له مهما حاول أن يجتهد ويفسر ويقرأ. ولهذا يقول شكري عياد: (والنص الادبي عند المحدثين ليس صياغة للمعنى، بل محاولة لاكتشاف المعنى). بينما يقول الشاعر الفرنسي مالارميه: (إني ابتدع لغة منها ينبثق شعر جديد، شعر لايدور على وصف الشيء، بل على تأثيره، لايتكون البيت الشعري من الفاظ ذات معنى، بل على ألفاظ ذات نوايا…)(7).
ولهذا فمع شعر الغموض والنقودات الجديدةً، وموت المؤلف انتصرت نظرية الفن للفن على نظرية الإلتزام، وانتصرت الفلسفة المثالية على الفلسفة الواقعية أوالموضوعية الاشتراكية، لأن النقد هو فكر وفلسفة قبل أن يكون أدباً. وقد يكون هذا النص المغيب لظاهرة الإلتزام صالحاً للأوربيين الذين لايستبد بهم غاصب ولامحتل، وأنهم استنفذوا لغاتهم في الشعر والأدب، وفقدوا لذة الإستمتاع بها وعليهم أن يستلذوا بكل شيء من النص إلى الجاه والثروة والمال، وبغموض الشعر والأدب إلى رحاب الجمال والنساء. بينما أين نحن كعالمثالثيين من نهاية التاريخ والغموض المعقد والإبهام الأدبي الذي ينبذ الإالتزام في عقر داره والذي نحن أحوج مانكون إليه اليوم، ونحن مازلنا نئن تحت وطأة سياط القمع والإحتلال والإرهاب، الذي تفاقم خاصة مع انهيار الإتحاد السوفيتي السابق، ولهذا قال محمود درويش قولته السابقة عن غموض النص الشعري وإبهامه. وهكذا يبدو في الحقيقة إن الغموض المعقد في الشعر حصراً، بقصد أو بدون قصد كأنه محاولة لإخراج الصوت الشعري الهادر إلى خارج المعركة في قضايا الشعوب المصيرية، لقطع الصلة بين الشعراء وشعوبهم المستضعفة والمطالبة بحريتها وتحسين مستوى معيشتها، عن طريق اللف والدوران حول الشعراء وقرائهم من بسطاء الناس لئلا ينصتوا إلى مايقوله شعراءهم، وحتى إذا قالوا لايفهمون!. وبهذا الشكل يتم إبعاد شعراء الهوامش والأطراف بالتعبيرالعولمي عن فكرة الإلتزام بقضايا شعوبهم أوالتحريض ضد سلطة الرأسمالية أو ضد الغاصبين الموالين لهم. ويصبح الإبهام أوالغموض المعقد وسيلة من وسائل الممانعة ضد التحريض، وضربة لازب في ظهر الإلتزام الأدبي، ليصب هذا الغموض أخيراً في مصلحة الظلم وإنكار الآخر في هذا العالم الغامض أصلاً. فهذه هي باعتقادي الجوانب السياسية التي يستشف مما قلناه وأوردناه.
ولهذا يقول (رامبو): (إن الغموض هو لغة الشعر الأساسية، وهو عنصر الموسيقى الأول، المهم هو خلق لغة في اللغة). وهنا يركز رامبو على الإيقاع وحده دون المعاني وهو كلام فيه نصف الحقيقة لاغير، وكما قلنا آنفاً قد يطرب قاريء السطورالشعرية الغامضة أمام إيقاعاتها الجميلة كما هو حالنا عندما نسمع أغنية أجنبية جميلة الإيقاع شجية اللحن، ولكن – وبدون شك- ستكتمل لذتنا مع السطور وإيقاعاتها إذا ما فهمنا معانيها أيضاً، هكذا فاللغة في الشعر الحديث تتحول على يد النقاد الجدد والشعراء الحداثيين إلى اشارات مبهمة، بعكس الشعرالشفاف أوالغامض الشفاف، بخياله المحلق وبلغته الإيحائية الجميلة وبنيته العميقة واللذة التي يوفرها للقاريء وهو يكد ويجتهد في النص الشعري، وحينما يفلح في فك مغاليقه ومعانيه.
بينما الشعر الملتزم هوعدوالغموض المعقد تماماً، لأنه شعر تحريضي بالدرجة الاولى ويجب أن يتصف بالشفافية ويحظى بفهم القاريء أولاً بدون تأويل واجتهاد، وإلا لم يعط ثماره مطلقاً. كما هي شفافية هذه السطورالملتزمة للشاعر العراقي الشهير سعدي يوسف والذي يقول فيها:
تحت الأسوار نموت
وعلى الأسوار نموت
لم نعرف في بابل
غير القتل لأجل القوت
أو قصيدة سميح القاسم :(أمطار الدم)
لم تخسروا!..لم تربحو!..إلا على أنقاض أيتام البشر
من عزوتي..يا صانعي الأحزان، لم يسلم أحد
أبناء عمي جندلوا في ساحة وسط البلد
وشقيقتي..وبنات خالي.. آه يا موتى من الأحياء في مدن الخدم
لاحظوا الشفافية والوضوح في القصيدة الإلتزامية حرصاً من الشعراء على فهم القصيدة من قبل قرائهم، ولربط القراء بقضايا مصيرية لشعوبهم وكسب تعاطف قراء العالم معهم أيضاً.
3- ولكن ومن جانب آخرعلينا الإقرار، بأن أي جانباً من الحقيقة العلمية لاكلها تتبدى في مقولات المنادين بموت المؤلف ولانهائية الجوانب الدلالية للنص من النقاد الشكليين، والبنيويين، والتفكيكين، الذين يرون ضروروة عدم معرفة الناقد أو دارس النص مؤلفه، حتى لاتستبد بالناقد أوالقاري والمتلقي الأفكارالمسبقة الصنع والتصميم، والحكم على السطور الشعرية من خلال قائلها لا من حيث ما هو مبثوث في ثنايا النص من جماليات اللفظ، والإيقاع، والرموز، والطاقات الإيحائية له، والغاية من هذه هي محاولة الوصول بالنص الأدبي إلى سويات قوانين العلوم الطبيعية، وهذا بطبيعة الحال أمر جيد ولكني أعتقد أن ذلك صعب المرام لأننا لازلنا بعيدين عن إيجاد مثل هذه القوانين العلمية للنصوص الأدبية حتى الآن، ولأن المزاجية والعفوية وذاتية الإنسان كلها تؤثر على سويات ومتاهات النص الأدبي، وتجعله عصياً على القوانين العلمية، كما هو الحال مع العلوم الطبيعية كالفيزياء والكيمياء مثلاً.
وأحب أن أنوه هنا للشعراء الشباب والحداثيين الذين يكتبون القصيدة الحداثية، بضرورة مرافقة الإيقاع لسطورهم الشعرية كما ترافق الموسيقى الغناء، فإن كانت الكلمة هي جسد الشعرفالإيقاع روحه وبطاقة سفره إلى قلب المتلقي وسمعه وبصره. ومن الأفضل أن يجمع الشاعر بينهما معاً أي بين اللفظة الجميلة والإيقاع الرنان، أو أن يعتمد على واحدة منهما وهو أيضاً أمر مقبول حتى تفرض القصيدة قبولها على القاريء ويظهرمدى حساسية الشاعروروح الإبداع لديه، ولكن على الدوام يكون ذلك حسب شطارة الشاعر وشعريته الداخلية وإبداعه وموهبته الشعرية.
وهنا يمكن تقسيم شعراء الحداثة إلى أربعة أقسام حسب تعاملهم مع أشعارهم وإبداعاتهم.
القسم الأول: يكتب قصيدة بوزن، وإيقاع، وقافية وبكثير من الوضوح والشفافية، وهذه تستسيغها الأذن الشرقية، لأن القاريء يستلذ بها وتتقبلها أذناه ولكن قد يكون الإيقاع والوزن والقافية مسيطراً عليها.
كما في قصيدة (إغضب) للشاعر السوري الأشهر نزار قباني.
إغضب كما تشاء
واذهب كما تشاء
واذهب..متى تشاء
لابد أن تعود ذات يوم ٍ
وقد عرفت ما هو الوفاء…
أو قصيدة ذات إيقاع وغموض شفاف، تعتمد الإيقاع الداخلي أو الخارجي، كما في رباعية الشاعرالسعودي سعد الحميدين وهي مزينة بإيقاع خارجي راقص:
يا أيها الحادي
قدامك الوادي
هل تسمع الشادي
يتولد الألحان
* * *
حب على الطرقات
متعدد الحبات
قد بث في الساحات
كي يشبع الغربان
تتلفت الانظار
بحثاً عن الأقطار
كل يرىالقطعان
* * *
نرى هنا الإيقاع خارجي وتعتمد على أيقاع عبارة /آن/ مما يشيع جواً من الموسيقية في السطور الشعرية كلها.
القسم الثاني: وهو القسم الذي يكتب شعراً يتصف بالغموض المعقد نوعاً ما، ولكنه ذوإيقاع لذيذ أو موسيقى شجية كما هو حالنا مع الأغاني الاجنبية والتركية منها بشكل خاص، فنحن نطرب لموسيقاها وإيقاعاتها ولحنها المميز فنتمايل أمامها طرباً وانتشاء حتى دون أن نفهم معناها ومغزاها. أي أن السطور الشعرية الغامضة تعتمد الإيقاع بالدرجة الأولى، وذلك حتى يتعلق به المتلقي ويقرأها على غرار تعلقه بالأغنية الأجنبية كما ذكرنا.
مثل هذه القصيدة ذات الإيقاع الداخلي والغامضة نوعاً ما، كما هذه السطور لنفس الشاعر
يأجوج…يسري/يعجز الحاسوب أن يحصي
فيعرج يتكي/وعصاه في يمناه، يخطو خطوه
وبنصف اخرى يرعوي، ويخور والياجوج
يركض صوب ما يبغي،ويقبض، ثم يفتك
بالمئين.
فنحن هنا أمام تقنية الإيقاع الداخلي أو داخلي وخارجي معاً وبنفس الوقت.
القسم الثالث: هذا القسم من الشعراء يكتبون سطوراً شعرية نثرية أو ماسميت بقصيدة النثر، والتي بدأت تشق طريقها باقتدارإلى الساحة الشعرية، وقصيدة النثر تخلو بدورها من أية وزن أو قافية أوحتى تفعيلة. بل تعوض عنها جميعها بمايسمى بالإيقاع الداخلي مثل التصريع والتقطيع والتوازي والتكرار…الخ. وتسحر قارئها بجمالية ألفاظها ومعانيها الساحرة التي يتجاوب معها المتلقي، وتعبرعما يجيش في نفسه من انفعالات وهوى.
فلاحظوا الإيقاع الشجي اللهيف، وفضاءات تيارالوعي بكل خيالاته وأشجانه التي تنبعث من هذه القصيدة النثرية لمحمد الماغوط والموسومة بـ(المصحف المهاجر)
وطني أيها الذئب المتلوي كشجرة إلى الوراء
إليك هذه “هذه الصورة الفوتوغرافية”
للمناسف والإهراءات
وهذه الطيور المغردة، والاشرعة المسافرة
على “طوابع البريد”
إليك هذه الجحافل المنتصرة
والجياد الصاهلة على الزجاج المعشق
ووبر السجاد.
القسم الرابع والأخير: هنا تبدو القصيدة كمن يكتب لغزاً محيراً، لاوزن لها، ولا إيقاع، ولاموسيقى، ولا قافية، كما لا تفهم معانيها ومغزاها، ولانتمايل معها طرباً ولا انتشاء، فهذه هي القصيدة الرديئة الخاسرة المخسرة لشاعرها وقارئها معاً..!. كما في قصيدة الضفدعة التي أوردناها آنفاً. ولكن في اعتقادي أنه وحتى في حال هذه القصيدة يمكن أن تدخل في زمرة نوع من الشعر الجذاب، فيما إذا اعتمد الشاعرعلى طاقة اللغة الإيحائية المتفجرة، وملفوظية شفاقة ساحرة تخلب لب القاريء وتأسر فؤاده بسيماتها الرشيقة ومعانيها الجذابة، وقد قيل قديماً إن من البيان لسحرا.
وخلاصة القول نود من شعراءنا الشباب والحداثيون منهم، أن يكتبوا الشعر الحداثي برموزه وأساطيره وقناعه وغموضه ولكنه الغموض الفني الشفاف أبداً، أي الغموض الذي يترك دوماً المجال للقاريء لإمكانية التوصل إلى نوع ما من فهم النص الشعري سواء أكان مايقول أو كيف يقول، ويجعل القاريء يصرف وقتاً وجهداً لفك مغاليقه ولو بطريقته الخاصة، ويلاحظ هنا أننا نعطي المجال إلى تعددية النص ولكن ليس إلى درجة تحميل النص مالايتحمله، لتأخذ القاريء بعدها اللذة والإنتشاء إلى ما يعتقد بأنه توصل إلى فك رموزه وفهم معناه، أو حتى إذا عجز عن فهم المعنى أن يستلذ بإيقاعاته وموسيقاه، كحال استماعه إلى أغنية أجنبية حلوة الإيقاع عذبة اللحن والآداء كما قلناه سابقاً. بينما أؤكد على الشاعرالملتزم أن يلتزم الشفافية والوضوح، وأن ينزل إلى مستوى قرائه ومتلقيه، وإلا كما قال محمود درويش عليه أن يذر قصائده ويلزم الصمت..!. ولكني لاأقول على الشاعرأن يصمت، بل أن عليه أن يكتب ويبدع دون أن يتصنع وضمن ما يعتقد أنه يكتب شعراً لا أحاجي والغازاً!.
……………………………………………………………..
المصادر والمراجع:
(1) – تجليات الشعور في الشعلر العربي – حسن علي ابراهيم- ص-70.
(2) – (الشعر العربي الحديث) د. نعيم اليافي ص- 25.
(3) – الشعر كيف نفهمه ونتذوقه- ص- 25.
(4) – المصدر السال بق 174
(5) – الديوان الأول ص- 175.
(6) – 170 تجليات الشعور في الشعر العربي الحديث- حسن علي ابراهيم.
(7) – الحداثة في الشعر العربي محمد حمودة – ص- 159.
بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أرسل هذا المقال للنشر في مجلتكم مجلة الموقف الأدبي الغراء عسى أن يأخذ طريقه للنشر في هذه المجلة الأدبية الرصينة. وشكرا
خالص مسور –القامشلي – هـ – 429464
xalis-m@hotmail. Com