دهام حسن
آه.. لقد أظلم المساء سريعا.. لم أعد أتبين سبيلي، كان عليّ أن أبكّر في الخروج من البيت قبل غروب الشمس، سوف يفوتني الموعد.. كم الساعة.؟ ثمة فضل من الوقت، لكن ما جدوى الزمن في هذي الحال.! لن أستطيع أن أهتدي إلى المكان.. إذن ليس لي بدّ من العودة، لكن.. كيف.؟ فقد ابتعدت، سوف أضلّ الطريق في العودة، لقد غشي الظلام كل شيء، ولفني من كل جانب، لم أعد أر موطئ قدميّ، أخشى أن تفضحاني بانزلاق موحل إن تابعت السير إذن ما العمل.؟
لم يكن المساء بهذه العتمة، كما تبدّى في ناظري (كمال) فالشمس لتوّها قد غربت. ولم تختف بعد خيوطها المتوهجة، فما زال ضوءها الفاتر يلهب أشلاء قطعان من السحب الساجية الضئيلة…
لم يكن المساء بهذه العتمة، كما تبدّى في ناظري (كمال) فالشمس لتوّها قد غربت. ولم تختف بعد خيوطها المتوهجة، فما زال ضوءها الفاتر يلهب أشلاء قطعان من السحب الساجية الضئيلة…
إنه داء (العشا الليلي) الذي داهم دور الأسر الفقيرة، فلم ينج منه كمال، وضعف بذلك بصره، تراءت له من بعيد أضواء السيارات واهنة وهي تذرع الشارع جيئة وذهابا، وفي المنعطف عندما تشتعل تلك الأضواء يلوح مبنى المخفر الواجم ببابه القاتم الثقيل.! كان المخفر بحجراته الضيقة الموبوءة يقبع على الشارع الرئيسي، أو شارع البلدية كما كان يسميها أهالي عامودا، بجانب واد جاف متسخ يعبر البلدة من جهة الشمال. اتخذت إحدى حجرات المخفر مهجعا للخفراء، وبإزائها حجرتان كامدتان يرقد فيهما المساجين..
كان كمال يتطير من المخفر، وأحيانا وخلال سيرك في الشارع، كنت تسمع رعد السياط والعصي تلهب أقدام المساجين وأجسادهم… ويتذكر كمال أنه اقتيد إليه غير مرة.. إذن طريقي من هنا غير آمن ومعي أوراق سرية محظورة… عليّ أن أحيد عن هذا الدرب.. لكن .. كيف.؟ وأي سبيل أسلكه.! قالها كمال ثم انحنى قليلا واتكأ على جدار الجسر، وراح يفرك عينيه وهو يبتسم في يأس، وتذكر خالة أبيه التي تكفلت بإيوائه هذا العام ليكمل تعليمه، وكيف كانت تحدب عليه رغم رقة حال زوجها الطيب، لكنها نفرت منه قليلا بعد أن أسرّ لها أحد أولادها بأن لدى كمال كتبا ممنوعة..
كانت الأرض ندية مما زادت النسمة ابترادا، فراحت تخز جسمه الناحل، وفجأة وهو في حاله تلك، أضيئت غرفة مطلة على الشارع قبالته.. رفع عينيه، فرفّ جفناه لما لمح.. واختلجت شفتاه، وأخذته رعدة وجد غامر.. خفق له كل كيانه عندما لاحت له في الغرفة المضيئة أنثى جميلة، تلج الغرفة مرتدية فستانا يفضح عن جسد يتقد شهوة، كانت تتقصف في مشيتها، وهي تدندن بأغنية ما. ففكر كمال قليلا، وأيقن بعدها إنها هي.! إنها فاطمة.. الفتاة المعروفة في عامودا بجمالها الباهر، بل إن أباها من الوجوه المعتبرة لدى “الناحية” فهو يتقدم الموسرين ثراء، ويتفضل على الكثيرين بجزيل عطائه..
راودت مخيلته هواجس، وشرد في تساؤلاته، هامسا بينه وبين نفسه، ليتني أعلم ما تحس به هذه الفاتنة، الغنية بمالها وجمالها، ترى..ألها مشاعر وقادة كمشاعر الآخرين.؟ أتحسّ مثلنا بالحب والوجد.؟ أتتنازل عن كبريائها.! فتتودد هي بدورها للآخرين، وترضى من محبيها لملاقاة جمالها بالمتعة والرواء..؟..
ما لي والانشغال بهذه اللحظات العابرة..! عليّ أن أمضي في سبيلي حتى لا أتخلف عن الاجتماع.. قالها كمال وهو يشيع فاطمة وهي خارجة بنظرات نهمة.. غابت فاطمة لحظات ثم عادت تحمل سفرة كبيرة عليها خروف محشو، وضعتها على طاولة تتوسط الدار، وقد شمّرت عن زنديها البضتين وهي تسوي من وضع السفرة، وتبعد خصلات من شعرها التي انحدرت متراخية على وجهها اللهيف…. مثلما ألهب هذا الجمال قلب كمال وأثار خياله، هكذا ألهبت رائحة الطعام خياشيمه، فتشنجت معدته الخاوية، وراح يتلمظ دون دراية منه، وتذكر مرضه، وقول بعضهم أن كبد الخراف دواء ناجع للمصابين بالعشا الليلي… دون ريب ابنة اليسار والنعمة هذه لا تحسّ بالجوع، ولا تتألم لتضوّر الفقراء … أما خالة أبي ..لماذا تغتاظ مني !؟ ولو عرفت هذه السيدة الطيبة ما أشعر به في هذه اللحظة، وأنا أتملّى النظر إلى الطعام والجمال لعذرتني.. ولو عرفت سبب الجوع لما استهجنت السياسة، ولما وقفت موقف العداء من عقيدتي، ولشهقت باكية لمرضي الذي سببه الجوع، ودواؤه الشبع…
نهض كمال ومخايل الغم تغشى وجهه بمسحة من ألم عميق، وذاكرة مثقلة بهواجس موجعة، وتفكير رغم اضطرابه لم يحجب عنه السواد.. راح كمال يتابع سيره بحذر وتثاقل وهو يتلمس الدور على جانبي الشارع أحيانا..
الليل يمضي، وضوء خافت يضيء غرفة صغيرة تثير غما وبؤسا.. غرفة تقشرت جدرانها الخارجية، وتساقط طينها، وتحدبت جسورها الخشبية من الداخل، وتنافر عن السقف القش، الذي صبغه الغبار حتى ألفته الفئران، فرشت ارض إحداها بحصيرة تهرّأ عمرها ووسائد من قش.. توسّد إحداها الرفيق إبراهيم الذي راح ينظر إلى ساعته ليرمق صاحبيه بعدها قائلا:
ــ لقد تأخر كمال.!
وأردف سعيد وهو يفرد الرسالة السرية:
ــ ليس من دأبه التأخر ..وأردف دون أن يصرف نظره عن الرسالة: سوف ننتظره دقائق أخرى..!
وهنا افترت شفتا (ماجد) عن ابتسامة ماكرة، وهو يحاول أن يخفيها بخبث:
ــ أغلب الظن أن (العشا الليلي) أخره وأضله عنّا.. ثم أطرق واجما..
قطع سعيد الوجوم الذي ران على الجميع، وبتأثر وحنق قذف القلم من يديه ليرتطم بالرسالة قائلا:
ــ إنه مرض الفقراء.! وأضاف محتدا وكأنه يوجه كلامه للأغنياء والفقراء معا:
ــ إن الفقر أكبر جامع لنا.!
كان كمال يتطير من المخفر، وأحيانا وخلال سيرك في الشارع، كنت تسمع رعد السياط والعصي تلهب أقدام المساجين وأجسادهم… ويتذكر كمال أنه اقتيد إليه غير مرة.. إذن طريقي من هنا غير آمن ومعي أوراق سرية محظورة… عليّ أن أحيد عن هذا الدرب.. لكن .. كيف.؟ وأي سبيل أسلكه.! قالها كمال ثم انحنى قليلا واتكأ على جدار الجسر، وراح يفرك عينيه وهو يبتسم في يأس، وتذكر خالة أبيه التي تكفلت بإيوائه هذا العام ليكمل تعليمه، وكيف كانت تحدب عليه رغم رقة حال زوجها الطيب، لكنها نفرت منه قليلا بعد أن أسرّ لها أحد أولادها بأن لدى كمال كتبا ممنوعة..
كانت الأرض ندية مما زادت النسمة ابترادا، فراحت تخز جسمه الناحل، وفجأة وهو في حاله تلك، أضيئت غرفة مطلة على الشارع قبالته.. رفع عينيه، فرفّ جفناه لما لمح.. واختلجت شفتاه، وأخذته رعدة وجد غامر.. خفق له كل كيانه عندما لاحت له في الغرفة المضيئة أنثى جميلة، تلج الغرفة مرتدية فستانا يفضح عن جسد يتقد شهوة، كانت تتقصف في مشيتها، وهي تدندن بأغنية ما. ففكر كمال قليلا، وأيقن بعدها إنها هي.! إنها فاطمة.. الفتاة المعروفة في عامودا بجمالها الباهر، بل إن أباها من الوجوه المعتبرة لدى “الناحية” فهو يتقدم الموسرين ثراء، ويتفضل على الكثيرين بجزيل عطائه..
راودت مخيلته هواجس، وشرد في تساؤلاته، هامسا بينه وبين نفسه، ليتني أعلم ما تحس به هذه الفاتنة، الغنية بمالها وجمالها، ترى..ألها مشاعر وقادة كمشاعر الآخرين.؟ أتحسّ مثلنا بالحب والوجد.؟ أتتنازل عن كبريائها.! فتتودد هي بدورها للآخرين، وترضى من محبيها لملاقاة جمالها بالمتعة والرواء..؟..
ما لي والانشغال بهذه اللحظات العابرة..! عليّ أن أمضي في سبيلي حتى لا أتخلف عن الاجتماع.. قالها كمال وهو يشيع فاطمة وهي خارجة بنظرات نهمة.. غابت فاطمة لحظات ثم عادت تحمل سفرة كبيرة عليها خروف محشو، وضعتها على طاولة تتوسط الدار، وقد شمّرت عن زنديها البضتين وهي تسوي من وضع السفرة، وتبعد خصلات من شعرها التي انحدرت متراخية على وجهها اللهيف…. مثلما ألهب هذا الجمال قلب كمال وأثار خياله، هكذا ألهبت رائحة الطعام خياشيمه، فتشنجت معدته الخاوية، وراح يتلمظ دون دراية منه، وتذكر مرضه، وقول بعضهم أن كبد الخراف دواء ناجع للمصابين بالعشا الليلي… دون ريب ابنة اليسار والنعمة هذه لا تحسّ بالجوع، ولا تتألم لتضوّر الفقراء … أما خالة أبي ..لماذا تغتاظ مني !؟ ولو عرفت هذه السيدة الطيبة ما أشعر به في هذه اللحظة، وأنا أتملّى النظر إلى الطعام والجمال لعذرتني.. ولو عرفت سبب الجوع لما استهجنت السياسة، ولما وقفت موقف العداء من عقيدتي، ولشهقت باكية لمرضي الذي سببه الجوع، ودواؤه الشبع…
نهض كمال ومخايل الغم تغشى وجهه بمسحة من ألم عميق، وذاكرة مثقلة بهواجس موجعة، وتفكير رغم اضطرابه لم يحجب عنه السواد.. راح كمال يتابع سيره بحذر وتثاقل وهو يتلمس الدور على جانبي الشارع أحيانا..
الليل يمضي، وضوء خافت يضيء غرفة صغيرة تثير غما وبؤسا.. غرفة تقشرت جدرانها الخارجية، وتساقط طينها، وتحدبت جسورها الخشبية من الداخل، وتنافر عن السقف القش، الذي صبغه الغبار حتى ألفته الفئران، فرشت ارض إحداها بحصيرة تهرّأ عمرها ووسائد من قش.. توسّد إحداها الرفيق إبراهيم الذي راح ينظر إلى ساعته ليرمق صاحبيه بعدها قائلا:
ــ لقد تأخر كمال.!
وأردف سعيد وهو يفرد الرسالة السرية:
ــ ليس من دأبه التأخر ..وأردف دون أن يصرف نظره عن الرسالة: سوف ننتظره دقائق أخرى..!
وهنا افترت شفتا (ماجد) عن ابتسامة ماكرة، وهو يحاول أن يخفيها بخبث:
ــ أغلب الظن أن (العشا الليلي) أخره وأضله عنّا.. ثم أطرق واجما..
قطع سعيد الوجوم الذي ران على الجميع، وبتأثر وحنق قذف القلم من يديه ليرتطم بالرسالة قائلا:
ــ إنه مرض الفقراء.! وأضاف محتدا وكأنه يوجه كلامه للأغنياء والفقراء معا:
ــ إن الفقر أكبر جامع لنا.!
طرق خفيف على الباب، ثم يفتح، ليبرز كمال كالمتسوّل المطرود منهكا، أخذ منه التعب والجهد الشيء الكثير، كانت يداه موحلتان، وتلطخت أذيال بنطاله.. وقد أشرقت عيناه باللهفة والدموع، فنهض إليه رفاقه بذهول مستفسرين… فطمأنهم بقوله:
ــ لاشيء.! إنه العشا الليلي.. لقد أضلني وأخّرني، ثم أخذ مكانه على الحصيرة، وتدثّر ببطانية سملة .. عندها بدأ الاجتماع..
* نقلا عن مجلة (دراسات اشتراكية) العدد التاسع لعام 1985