انطفائة شمعته الأخيرة (يوسف برازي 1931-2009)

  بقلم: نور شوقي
 

من وصايا جبران خليل جبران قبل وفاته قال: اكتبوا على شاهدة قبري العبارة التالية (أنا حي مثلك,وان أدرة ظهرك لي ستجدني أمامك), لو دقق المرء في تلك المقولة, سيجد بان قائلها لم يكن يهذي أثناء منازعته الموت, بل سيتأكد بان جبران قد لخص تجربته الأدبية في وصيته, وكأنه يقول : في النهاية اعلم إن جسدي للتراب , لكن نتاجي الأدبي ملك للبشرية , ومن خلالها سيعرف من لم يعرفني من كان جبران.
حين كنت صغيراً, كنت استمع كثيراً إلى والدي و عمي , وهما يتحدثان عن الشيخ سعيد بيران, وخاصتاً عمي , فقد سماه والده على اسم الشيخ سعيد حين ولد. كذلك كانا يتحدثان بشوق ولوعة عن جمهورية مهاباد الذبيحة وكيف أقدم الإيرانيين على إعدام رئيسها القاضي محمد ورفاقه, وكيف بدا الخالد ملا مصطفى البرزاني برحلته إلى الاتحاد السوفيتي, وكيف عاد , وكيف قاد ثورة أيلول المجيدة, إلى أن جعل الحكومة العراقية آنئذ أن  تعترف بالحكم الذاتي للشعب الكردي في العراق, ومن حين لأخر كان الاثنان يسترجعان ذكريات السجن التي قضياها بدل شابين بطولهما و عمرهما و لون بشرتهما, حيث أتى الاثنان من تركيا إلى سوريا لكي يدخلا إلى كردستان العراق في مهمة حزبية, لا سيما وان الوعود التي قطعتها حكومة عبد الكريم قاسم في تلك المرحلة للبر زاني ذهبت في مهب الريح, ولم يعد أمام البرزاني إلا الرجوع للثورة, وهذا ما حدث, لذلك كان ذهاب الشابين إلى كردستان حينها من ضمن اتصالات البرزاني مع الأحزاب و الشخصيات الكردية في تركيا, إلا إن حكومة الوحدة في سوريا وصلها خبر وصول الشابين إلى الأراضي السورية, وبات البحث على قدم وساق للقبض عليهما , فما كان على رفاق البارتي حينها إلا أن يبحثا عن  شابين شبيهين للشابين القادمين من تركيا , على أن يكونا ملتزمين مع الحزب أو  يكونا مؤيدين, و يؤتمن بهما لذلك السر و لتلك المهمة, فوقع اختيار الحزب على والدي وعمي, وتم تسليمهما عن طريق شخصيات كردية عرفت بوطنيتها أثناء الاحتلال الفرنسي. المهم إن الأخوين كانا يتذكران تلك الأيام و يقارنان سجنهما بسجن صديقهما الحلاق يوسف برازي, إلا أنهما كانا يتراجعان عن تلك المقارنة لأنه سجن أكثر منهما بعدد المرات ,ولان قناعاته لم تتزعزع رغم الفقر و الحرمان اللذان كان يعانيهما رغم سجنه. كانت العلاقة متينة بين الأخوين وبين يوسف برازي, فقد كان يوسف مصدراً دسماً لأخبار الكوردايتي, وإذا انقطع الأخوين عن الأخبار من صديقهما يوسف بسبب اعتقاله أو سفره بمهمة أو لقضاء واجب خارج المنطقة, كان احدهما يذهب إلى احد أصدقائهما و أحبائهما في منطقة الدرباسية أمثال الشيخ محمد عيسى, اوقدري بك الذي افهمهما بوضع الشابين القادمين من تركيا ويجب أن يصلا إلى الملا مصطفى البرزاني, وقبل الاثنان اثر ذلك بمصير السجن بدل أن تقبض حكومة الوحدة على الشابين.
بين الحين و الحين كان يوسف يزور الأخوين في بيت احدهما , كانوا يتحدثون في التاريخ الكردي و يحدثهم يوسف عن أخر أخبار الحركة الكردية و الكردستانية, بعدها كان ينفخ في آلة (البلور) فيصدر منه لحناً وكأنه البلسم الذي يشفي جراحهم وآلامهم المتوحد ببرزانيتهم وكرديتهم, اوكان عمي يضع يده بجانب إذنه ويسرد لهم من خلال حنجرته ملحمة (مم و زين ,أو علوا و فاتمي, اوفاطمى صالح أغا), هكذا كانت تقضى سهرتهم, إلا أن نشاطات و أخبار صديقهم الحلاق و المناضل و الشاعر لم يبارح تفكيرهم, وفي اغلب الأحيان كان نقاشهما منصباً على وضعه المادي, لا سيما وانه مسؤول عن عائلة مؤلفة من أربعة بنات وولدين و زوجة صابرة. فكان النقاش يحتد بينهما, فتارة يؤيد احدهم مسيرته, والأخر يعترض كون وضعه المادي متدهور, وتارة أخرى من يؤيد يصبح معارضاً, وهو يقول: إلا يوجد غيره يحمل ذلك العبء معه, والمعارض يصبح مؤيداً و هو يقول: يا أخي من تعود على عدم الخنوع يصعب عليه التراجع, لا سيما وانه تذوق صفعات و خيزرانات الجهات الأمنية, وودع الخوف إلى لا رجعة.
عندما أصبحت شاباً, وكأن والدي كان ينتظر هذا اليوم لكي يعرفني على صديقه يوسف , ولم يكن يعلم بأنني أيضاً انتظر هذا اليوم , لا لشيء فقط لكي يجاوبني عن مجموعة من الأسئلة التي تراكمت في ذهني عنه وعن الطريق الذي لازال يسلكه, وفعلاً تمت المعرفة بيننا ومضت السنوات سريعة حتى وصلت إلى العشرون سنة, ولم يجاوبني على تلك الأسئلة المتراكمة, أيضاً لا لشيء فقط لأنني لم اسأله , فقد توضحت الصورة جلية أمام عيني, والتجارب التي مرت عليه أمام ناظري أجابت عن كل ما كان يدور في ذهني عنه, حينها عرفت من هو يوسف برازي الملقب (بي بهار) أي من ليس له ربيع.                                                   
صحيح انه سمى نفسه بي بهار , إلا انه كان ربيع كل الأقلام الناشئة و الأقلام المخضرمة, وحتى الشارع البسيط بكل جزئياته و تفصيلاته , كباره و صغاره , مجانينه و عقلائه, وعلى اختلاف ألسنتهم و لغاتهم , وجدوه ربيعهم , لأنه كان بسيط و سمج الأخلاق , كان فطينا و صاحب نهفة, في نفس الوقت كان حكيماً و ملماً بقضايا الناس, حاسماً في القضايا التي تستوجب الحسم و مرناًفي القضايا التي تتطلب المرونة, لم يساوم يوسف برازي يوماً على ثوابته أو قناعاته , كان كريماً على جميع المستويات وخاصتاً في مجال التضحية من اجل تلك الثوابت و تلك القناعات    فقد كان كرمه مفرطاً,وفي مجال الصبر أيضاً كان صبره مفرطاً, وكذلك في مجال الرجولة وتحمل الصدمات و الكدمات و المصائب أيضاً كان مفرطاً. ولو رجعنا قليلاً إلى بدايات هذا الرجل , سنجد بان الحياة بكل كبريائها و جبروتها, بخصالها الحميدة و الشنيعة قد كونت يوسف على هذا النمط و على هذه الأخلاق وهذا السلوك,وكأن الحياة قد تقصدت بناء فيزيولوجيته على هذا المنحى , ليحظى بلقب المؤسس و المعلم و الأب الروحي ومناضل القرنيين وأخر أمراء الشعر الكلاسيكي الكردي , وفحوى كل الألقاب هو (بي بهار) لأنه لم يستنشق هواء الربيع الذي كان يعارك الحياة من اجله , ولم يكحل ناظريه بذلك الربيع الملون بألوان قوس قزح.
انه يوسف ابن علي شيخو,والدته خجي , ولد عام 1931في قرية تل جرجه التابعة لمنطقة الباب بمحافظة حلب, قضى طفولة بأسهً يترنح بين الفقر و الحرمان حتى شب عليها ,لم يواسي أحداًبؤسه سوى (طنبوره) الذي صنعه بيديه,وتعلم دون معلم كيف يعزف و كيف يمرر أنامله على أوتارها, بالمقابل ولأنه لم يتعلم بسبب الفقر و الفاقة , أصر أن يتعلم القراءة و الكتابة من تلقاء نفسه معتمداً في البدايات على قريب له كان يدرس في المرحلة الابتدائية , فكان القريب يعلمه ما تعلم في المدرسة مقابل أن يعزف له يوسف بعض الأغاني على الطنبور, وهكذا حتى خرج يوسف من ظلام الأمية, إلا إن القدر كان له بالمرصاد, واتى ذلك اليوم حين سمع هو وأخيه إسماعيل بان أهل القرية قد ضربوا والده المسن بسبب فتنة افتعلها احدهم بين القرويين وبين والد يوسف, فما كان على يوسف وأخيه إلا أن يأخذوا بثأرهم من صاحب الفتنة , وفعلوا ذلك وتركوا الرجل مدماً, وهربوا إلى بعض الأقرباء في ناحية منبج , وهم على يقين بان الرجل قد مات, وهو في الحقيقة لم يمت بل أغمي عليه, وبدا بحث أهل الرجل المضروب عن الأخوين الهاربين للأخذ بثأرهم منهما, وبقي الأخوين يهربان إلى أن استقر الحال بهما عام 1954في مدينة رأس العين, حيث تمت المصالحة بين العائليتين . صادق يوسف الشيوعيين حتى عام 1956 وحين شعر بظهور بذورا لحركة القومية الكردية, التحق يوسف برازي بالرعيل الأول  للمؤسسي الحركة, فتعلم أصول اللغة الكردية كتابة و قراءة على يد (رشيدي كورد) وتعلم الشعر الكردي من خلال أشعار الأمير الأول للشعر الكلاسيكي الكردي (جكر خوين), وتعلم كيفية كتابة الشعر حسب العروض و البحور على يد صديقه أستاذ اللغة العربية (احمد عبد السلام), في خضم ذلك لم ينسى الموسيقى فقد تعلم العلامة الموسيقية و المقامات على يد أستاذ الموسيقى الحلبي (نعيم دلال) في أواخر عام 1960 شكل هو و أخيه إسماعيل برازي أول منظمة للحزب الديمقراطي الكردي في سوريا(البارتي) في مدينة رأس العين. في عام 1962تم القبض عليه أول مرة و دام اعتقاله (23) يوماً. في عام 1966 تم اعتقاله ضمن مجموعة كبيرة من الرموز السياسية و الوطنية الكردية, وفي ذلك الاعتقال , وإثناء التحقيق سطر أروع البطولات حيث قاوم جلاديه , و المعلوم انه كتب   قصيدته الأولى (rabÊn ÇÊ xÊwÎ) أي انهضوا من النوم في ذلك الاعتقال, وقد كتبها بأعواد الكبريت على حائط زنزانته, في عام 1967 توجه يوسف برازي إلى مدينة القامشلي والتقى بمعلمه جكر خوين, وطلب منه أن يقراء نتاجاته الشعرية وان يقيمها حسب الأصول الشعرية, وتمتنت العلاقة بين العملاقين, ومن جهة أخرى متن علاقاته مع بقية الشعراء (تيريز-كلش- بالو….الخ).
مرت السنوات على يوسف برازي وهو يناضل في طريق الكوردايتي تارة بشعره وتارة بسجنه وتارة في صالون الحلاقة لإعانة أسرته و تارة مرشداً و موجهاً لأبناء جلدته لكي يتعلموا و يتقدموا ويتطوروا, كان يقول دائماً: إذا أردة أن يعرفك الناس , فلن يعرفوك من خلال هويتك المدنية بل من خلال لغتك و اسمك و لباسك, لذلك كان يحث الأكراد أن يسموا أولادهم بأسماء كردية, وان يتعلموا لغتهم الأم, وان يطلعوا بشكل جيد على تاريخ أمتهم الكردية.
بقي أن نقول بان آخر أمراء الشعر الكلاسيكي الكردي يوسف برازي (بي بهار) لم يعد جسده القوي و الذي ذاق لسعات السياط و الخيزرانات سنوات طويلة , يحتمل الأمراض لا سيما وإنها اجتاحت جسده في الأعوام الأخيرة دفعة واحدة و دون رحمة, والاسوء قبل أشهر سيطرة كتلة سرطانية على المخيخ ,مما تطلب إجراء عملية جراحية , إلا إن الأطباء رفضوا إجرائها لعدم تحمل جسده أعباء العملية لتراكم الأمراض داخله, وطلبوا من ذويه أن يأخذوه إلى بيته , لان الكتلة سوف تنهي حياته بعد ثلاثة أشهر, وفعلاً صدق الأطباء في تقيمهم لحالته , ومرت الأشهر الثلاثة سريعة على رفاقه و محبيه و أصدقائه , لكنها كانت ثقيلتاً و بطيئاً عليه , إلى أن جاء يوم الخميس المصادف في 15-1-2009 , وفي الساعة الرابعة إلا ربعاً توقف قلبه عن النبض , وأعلن خبر وفاته عبر صفحات الانترنيت وقد شيع إلى مثواه الأخير يوم الجمعة المصادف 16-1-2009من بيته إلى مقبرة المدينة وسط حشد جماهيري كبير جدً قدر بالآلف, وبمشاركة مجموعة من الفرق الفلكلورية الكردية , ووفود سياسية و شخصيات وطنية.
الملفت للنظر هي وصاياه , وأهمها الأول يقول: لم أتقاعس يوماً عن مهامي وواجباتي اتجاه القضية الكردية واتجاه شعبي الكردي المحروم و المجزئ, وان شرفني هذا الشعب الحي بعد وفاتي بلقب المناضل والشاعر, أو قد نساني بسبب المآسي و الويلات المنصبة على رأسه, في كل الحالات فاني أوصي بان كل نتاجي الأدبي والشعري المطبوع والغير مطبوع هو ملك للشعب الكردي , وحلال لهم تعبي وجهدي طيلة خمسة عقود ونصف تقريبا.
الوصية الثانية ويقول: لو طالب احد الأكراد بزيارة قبري , أعطوه نتاجاً من نتاجاتي قد بقرائها ويستفاد منها , أفضل من أن لا يقراء شيء على التراب البارد , فإذا أصر على طلبه فليقرأ العبارة التالية على شاهدة قبري (الحسرة و الدموع لن ترجع ربيعي, عارك الحياة علك تأخذ ربيعنا منها).
نتاجه الشعري طيلة خمسة عقود :  
صدر له الديوان الأول عام 1988 بعنوان (ZNDAN)الزنزانة).
صدر له الديوان الثاني عام 1997 بعنوان(Bang(الصرخة)
صدر له الديوان الثالث عام 2002 بعنوان (RaPeRN(الانتفاضة)
صدر له الديوان الرابع عام 2006 بعنوان ((SerxweboN(الاستقلال)
صدر لهٍ الديوان الخامس عام 2007 بعنوان (PeSeTiN) (التقدم)  إصدار دار سما للثقافة الكردية.
ما لم يطبع ديوانيين شعر-سيرة ذاتية- قاموس كردي عربي-أمثال.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم محمود

أول القول ومضة

بدءاً من هذا اليوم، من هذه اللحظة، بتاريخ ” 23 تشرين الثاني 2024 ” سيكون هناك تاريخ آخر بحدثه، والحدث هو ما يضفي على زمانه ومكانه طابعاً، اعتباراً، ولوناً من التحويل في المبنى والمعنى القيَميين والجماليين، العلميين والمعرفيين، حدث هو عبارة عن حركة تغيير في اتجاه التفكير، في رؤية المعيش اليوم والمنظور…

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…