الطيِّب صالح يهاجرُ جنوباً

  نمر سعدي

 

لم أقرأ رائعة الطيِّب صالح موسم الهجرة إلى الشمال إلاَّ مؤخَّرا قبلَ عدةِ شهور وكم عاتبتُ نفسي لذلكَ.. منذ سنينٍ وأنا أتلهَّفُ لقراءتها ولم أفعلْ رغم ما كنت أسمعُ عنها من أهميَّةٍ أدبيةٍ رفيعة منذ سنواتٍ عديدة وأنها تضيفُ لقارئها الكثير.. حتى أنها اختيرتْ عام 2002 ضمن أهمِّ مائة رواية عالمية وقد اشترك مئةُ ناقد وكاتب عالمي من أكثر من 50 دولة  لتقييمِ الأعمال المختارة.

موسمُ الهجرةِ إلى الشمال روايةٌ تستحوذُ على كلِّ مشاعركَ بلا استئذانٍ وتضربكَ كأنها إعصار إفريقيٌّ قادمٌ من الشمالِ حيثُ عاشَ بطلها وغامرَ وقاربَ بينَ جسدِ أوروبا البضِّ الفائرِ المنادي بألفِ فمٍ المشتعلِ بالرغباتْ وجسدِ أفريقيا الذائبِ شوقاً ولهفةً إلى حريَّةِ المعرفةِ وحريَّةِ الحبِّ والحياةْ.

تعتبر هذه الرواية الخالدة من أروع الروايات العربية التي تناولت الصراع الإنساني بين عقليَّة الغرب وروحانية الشرق حتى أن بعض النقاد ومنهم الناقد المصري رجاء النقَّاش قد تعاطفَ جدا مع هذه الرواية بزعمِ أنها فريدةٌ في موضوعها وطريقة سردها وفلسفتها بين الرواياتِ العربيةِ الأخرى المعاصرةِ لها حينها. وقالَ أيضاً أنَّ لها بعداً خفيَّاً لا بدَّ من الوصولِ إليه.
بينما ربطَ البعض بينها وبين توارد أفكار أو خواطر في روايات أخرى مثل قنديل أم هاشم للكاتب المصري يحيى حقِّي وعصفور من الشرق لتوفيق الحكيم . والحيُّ اللاتيني لسهيل ادريس وقارنَ البعض بينها وبين مرتفعات وذرنغ للكاتبة الإنجليزية إميلي برونتي .
بطلُ رواية الطيِّب وهو مصطفى سعيد شخصية عميقة وغامضة تجمعُ في كيانها العبقري والشرقي الرومانسي والإفريقي الباحث عن ذاتهِ والرجلُ المتمرِّد.
ويقول الطيِّب صالح أن بعض النقاد والدارسين وجدوا في الرواية ثقافات من مختلف الأجناس ولمسوا أيضاً فلسفات لشعوبٍ كثيرة ولم يستطيعوا أن يجدوا أثرَ المتنبي كبريائهِ العربيِّ فيها. أي لم يعثروا على العنصر العربي في تكوينها.
يبدو الكاتب في روايتهِ تائها يبحثُ عن نفسهِ في كيانِ غيرهِ. كبحثِ مصطفى سعيد عن أسئلتهِ في علاقتهِ بجين موريس… وفي أجسادِ نسائهِ الأخريات اللواتي تهاتفنَ على سمرةِ جلدهِ وبريقِ عينيهِ وحدَّةِ عقلهِ وطقوسهِ السحريةِ الغرائبيَّةِ.
لا أريدُ أن أثقلَ الروايةَ بالبعدِ الجنسي الذي اعتمدتهُ الرواية في بعض تصريحاتها وتلميحاتها هنا وهناك على لسان بنت مجذوب أو ود الريِّس . فهنا يشفعُ للكاتب جمالُ تصوريهِ الواقعيِّ للحاضر السوداني الرامز إلى الشرق العربيِّ بكلِّ ما يحتوي من خرافات وسحر وضلالات وتجاوزات.هيَ مواجهة بينَ انسان العالمِ الثالثِ بكلِّ ما لديهِ من أدواتٍ وخصائصْ وبينَ انسانِ العالمِ الأوَّلِ المتقدمِ .
في حديث للطيَّب صالح يقولُ فيهِ أنه التقى بجين موريس بطلةِ روايتهِ موسمِ الهجرةِ إلى الشمالْ واحتسى معها القهوة في متحف الفنون بلندن. وهناكَ دارَ بينهما حديث طويل حولَ الحضارة الغربية والشرقية وأسباب الخلاف وأوجهِ الشبهِ وحولَ مفاهيمِ الحريَّةِ والحبِّ. وافترقا بعد ذلك ولم يلتقيا. وكان ذلكَ الحديث هو الخيط الرفيع الذي راحَ الكاتبُ ينسجُ بهِ أولى أحلامِ الروايةِ العظيمة. التي كانت نقطة تحوُّل في الروايةِ العربية الحديثة .
موسمُ الهجرةِ إلى الشمال رغم رصانةِ لغتها العربيةِ وجدَّتها روايةٌ حديثة بكلِّ ما في الكلمةِ من معنى ذلك أنها تلتصقُ التصاقاً وثيقاً بالواقعِ من حيثُ الصور والإيحاءِ وتسلسلِ الأحداث بينما هيَ تبحثُ موضوعاً فلسفياً رمزيَّاً وتحملُ أفكاراً ساميةً تعبرُّ عنها بزخمٍ وحسٍّ كونيين من منطلق الحبِّ والمعرفةِ واللذةِ والموتِ وهذا ما منحها عالميتها وشهرتها إذ تُرجمتْ إلى أكثر من ثلاثين لغةٍ حيَّةٍ . وأظنها كانت جديرة أن توصلَ صاحبها إلى مصافِ نوبل التي زهدَ بها لتطَّفلِ العرب عليها حسبَ قولهِ.
إذن الطيِّب صالح هو مصطفى سعيد أو ربمَّا هو جزءٌ لا يتجزَّأُ منهُ. أو يجوزُ القولُ أنَّ مصطفى سعيد شخصيةٌ مثيرةٌ للجدلِ من صنعِ الطيب صالح قد جعلَ منها خلطةً غريبةً مزجَ فيها تجاربَ من عرفهم من سياسيين وأدباءْ وأصدقاء سودانيين في لندنْ.
في هذهِ الشخصيَّةِ استلهمَ الكثير من الأفكار الناجحةِ أدبيَّاً وعلى المدى البعيد.
وهذا رأيي الشخصي.. أذكرُ منها تمسكَّهُ بواقعهِ وحضارةِ شعبهِ وتمازجَ الأضدادِ في موضوعاتهِ والبحثِ عن وسيلةٍ جديدةٍ يعرضُ من خلالها حلمَهُ باكتشافِ الغير وهو في قمةِ اعتدادهِ بنفسهِ وحضارتهِ وفي أوجِ طموحهِ ورغبتهِ المتأججةِ المُحرقةْ.
لا تهمُّني تفاصيل الرواية بقد ما يهمُّني مغزاها المُبهم والمفتوح على الاحتمالات فلا هيَ رمزية في نظري لا هيَ واقعية صرفة هي تمازج بين هذا وذاك وإناء شفَّاف عرفَ كيفَ يستعملهُ الطيِّب بحيثُ يصبُّ في داخلهِ ما يشاءْ من رؤيةٍ جديدة مفعمةٍ بالأملِ والندِّيةِ تجاهَ الغربِ المتعجرف وعنجهيتهِ واستعبادهِ للرجلِ الأسودِ وموطنهِ أفريقيا . هيَ وثبةٌ في وجه الظلمِ والإستعلاءِ الغربيينْ .وردُّ اعتبارٍ للكرامةِ الإفريقية المستلبةِ منذُ قرونٍ عديدة على يدِ ذاتِ الجمالِ والحضارةِ والسطوةِ والنفوذِ ( الإمبراطورية البريطانيةْ ) .
عودةُ مصطفى سعيد إلى الوطن بعد مغامراتهِ العاطفيةِ ورحلتهِ العلميةِ العريقةِ في بلادِ الضبابِ فيها الكثيرُ من الغموض وموتهُ في قريتهِ فلاحاً فقيراً يجعلُ الروايةَ من أعصى الرواياتِ وأعظمها في آنٍ واحد. بل أنَّ موتهُ على ترابِ وطنهِ أخيراً  يذكرُّني اليومَ بهجرةِ الطيِّب صالح الأخيرةِ إلى وطنهِ جنوباً بعدما ملأَ الدنيا وشغلَ الناسَ ووطنَّ النفسَ لينامَ قريرَ العينِ في ظلِّ نخلةٍ عاشقةٍ على ضفةِ نهرِ النيلِ الذي أحبَّهُ بكلِّ كيانهِ… فوداعاً أيُّها الطيِّبْ .

 

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

فراس حج محمد| فلسطين

في النص الأخير قلت شيئاً شبيهاً برثاء النفس، وأنا أرثي أصدقائي الشعراء:

كلّما ماتَ شاعرٌ تذكّرتُ أنّني ما زلتُ حيّاً

وأنّ دوري قريبٌ قريبْ

ربّما لم يُتَحْ للأصدقاءِ قراءةُ قصائدهم في رثائي المفاجئ

وها هو الشاعر والناقد محمد دلة يغادر أصدقاء على حين فجأة، ليترك خلفه “فارسه الغريب” ونقده المتوسع في قصائد أصدقائه ونصوصه. محمد دلة…

أحمد جويل – ديرك

 

لقد أدمِنتُ على تذوّق القرنفل كلَّ يوم،

ولم يكن باستطاعتي التخلّص من هذا الإدمان…

وذات يوم، وكعادتي الصباحيّة، دفعتني روحي إلى غيرِ بُستان،

علّني أكتشف نكهةً أُخرى،

لعلّها تُداوي روحي التي تئنّ من عطره…

 

بحثتُ في ثنايا المكان…

وإذا بحوريّةٍ سمراء،

سمراء كعودِ الخيزران،

تتزنّرُ بشقائقَ النّعمان…

عذرًا، سأكمل الخاطرة لاحقًا.

 

شقائق النعمان كانت تخضّب وجنتيها برائحةِ زهرة البيلسان.

أمسكتْ بيدي، وجعلنا نتجوّلُ…

سيماف خالد جميل محمد

 

هناك حيث تنبعث الحياة، حيث كانت روحي تتنفس لأول مرة، هناك أيضاً أعلنتْ روحي مغادرتها، لم يكن من الممكن أن أتخيل ولو للحظة أن تغادرني أمي، هي التي كانت ولا تزال الصوت الوحيد الذي أبحث عنه في الزحام، واليد التي تربت على قلبي في الأوقات الصعبة، كيف يمكن لخبر كهذا أن يتسلل…

بدعوة من جمعية صحفيون بلا حدود الدولية، أقيمت اليوم، السبت ٦ نيسان ٢٠٢٥، أمسية شعرية متميزة في مدينة إيسن الألمانية، شارك فيها نخبة من الشعراء والكتّاب اعضاء الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الكرد.

وشهدت الأمسية حضورًا لافتًا وتفاعلاً كبيرًا من الحضور، حيث تناوب على منصة الشعر كل من:

صالح جانكو

علوان شفان

يسرى زبير

بالإضافة إلى الصديق الشاعر منير خلف، الذي…