حين لا أكتب

إبراهيم اليوسف
 
إلى أمّي في أربعينها وعيدها

ثمّة أشهر متتالية باتت تمرّ ، وأنا ألعق بعيداً عن مسرح الرّوح غربة الكتابة ، وهي لعمري أشدّ الغربات مرارة، وإيلاماً، كما يخيل إلي، في هذه اللحظة المضببة ، ما دمت أجدني خارج مدارات تخيّرتها منذ ثلاثة عقود ونيّف ، كأكثر ما في روزنامة الأيام من صوى ، وألصقها بروحي ، أخلصت لها أيّما إخلاص ، فكانت كلّ عالمي منذ أن أفتح كلتا عيني مع أول ومحات الشمس ، وحتى البرهة التي سيهدّني فيها النوم، آخر كل ليلة .
……………………

ألا أكتب يعني أنني لست أعيش
ألا أكتب يعني أن أجمل الأشياء التي استهويتها قد مات.
…………………… 
عالم الكتب والقراءة الذي قذفتني إليه أمي مع سرّتي المقطوعة بسكّين الداية – قمرة – حيث مكتبة أبي ، كي أقرأ تالياً سواها ، وأكتب بغير حبرها، لتغدو الكتابة الأثيرة رئة أخرى ، أواصل عبرها اللحظات ، وأستمدّ منها توازني الشخصي ، وتغدو معجم الرّوح والنبضات ، فيها تفاصيل اللحظة ، ونثار الحلم الأول ، ورسوم أصداء سياط المواجهة ، بل المواجهة عينها ، ناهيك عن معادلة : الأنثى /الوطن ، عالم هو نسغ الروح، وهو الماء، والهواء، والرغيف .
……………………
حين لا تكتب ، وأنت حرّيف الكتابة، زعماً ، يعني أن بعضاً من أعمدة الروح في نفسك قد تهاوى ، وقد لا يكلفك البتّ في معرفة كل ذلك الكثير، ما دمت قد رأيت في حصيدك الممتدّ طيلة ذيّاك الشريط الزماني ، ما لايعينك على أن تقف على كلتا رجليك ، تدبّر أمور لحظتك الزئبقية التي ما كانت في عداد حسابك يوماً ما، ما دمت قد جنّدت نفسك كي تسمو على كل سفاسف  الوقت المريب التي شغف بها الآخرون ، من حولك ، كي تكون أمجادهم الهوائية أعلى شأواً من أيّ مجد حقيق ..!
…………………… 
مكسوراً على غير العادة، تقف أمام الأرقام والأسماء والأماكن ، تختار منها حفنة قد لا تكون عشوائية :
10-12
25-12
31-12
1-2-
13-2
غياب أمك الخنجري في أعماقك ، الأم التي حملتك تسعة أشهر، وخمسة عقود ، فلم تتمكن من حمل نعشها ، ولم تسر خلف جنازتها، بل ولم تزر ضريحها الغريب في قرية خزنة قرب ضريح جدك ، حيث لا بدّ أن تتحول هديتها لهذه السنة في يوم  عيدها الافتراضي إلى اكليل من الورود المزدوجة
28-2
1-3
8-3
12-3
16-3
20-3
عشية نوروز ، ودماء محمّديك الثلاثة ، ومن معهم من جرحى أعزاء تناولهم رصاص الغدر في تلك الليلة العصيبة التي تحتفل بذكراها وحيداً، منذ رميت للمرّة الثانية بصنارتك في ماء خليج لن يعترف بك البتة ، ما دمت لن تمالقه ، بعيداً عن شعلة كاوا التي توقدها في كل نوروز على طريقتك .
 
الطلقة في رأس كرمك في الليلة عينها
دمه في شارع الحرية وعلى بلاط  مشفى فرمان مع دماء أخوته ممن سيبقى ومن سيمضي
آراس وهو يجرجر إلى سيارة مطلقي الرصاص أنفسهم.
-قلق الأهلين -هناك اللّيلة- حيث تسوّى مسارح رقصهم بالأرض، كما تقول الأنباء الواردة
-صديقك عبد الله دقوري- حفيد سعيد آغا- يجر
إعاقته وصورة شيرين الجميلة كاسمها، إلى ظلمة خطط لها إثر فخ ملفق، نصب له من قبل أساطين الخديعة المتجددة.
……………………
أرقام وأسماء أخرى
طفل صغير سمّيته- أيان- ينافس شقيقته على موقع الحبّة الأخيرة في عنقود الأبوين.
نرجسة بعيدة
تسير إليها منذ عقود على أصابع الروح الحافية
 
شوارع مقفرة عطشى إلى الخطوات والمطر
صور مشعل التمو – مصطفى جمعة – ومن يلحق بهم تالياً: نصر الدين برهك  وفيصل نعسو
بل وغيرهم… وغيرهم…. من الأهلين
– مكتبة يلفها الغبار
رقم هاتفي مع وقف التنفيذ
الأصدقاء المخلصون والمزيفون أيضاً
أبطال الشارع وأبطال مخادع النساء والاجتماعات
مثقفو الولائم والجعجعات والصفوف الأولى من مناسبات الاستعراض
كتاب يعملون بصمت حاملين في المقابل أكفانهم وأقلامهم.
……………………
كل ذلك، يمرّ في مخيلتك سهماً نارياً، لا يهدأ لحظة ما ، ولا يفتأ يذكرك بما ينبغي أن تعمله ، وأنت لا ترى طاولة تتحمل لحظتك الكتابية ، عيياً، تذبح في روحك ألف حلم في كل برهة ، وتوقد في أعماقك ألف جحيم ، مطلقاً لاءك من بعيد ، دون أن يكون لها ما يليق من صدى ، مدركاً في قرارتك أنك حين لا تكتب ، ليعني أنك مجرد هيكل عظمي، مرمي في مكان بعيد ، ما دام أن المرء هو كلمته الصادقة، وموقفه ، وما يدفعه من ضريبة غالية كي يكون جديراً بحمل الرسالة السامية.
 
الشارقة

20 آذار2009

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

سيماڤ خالد محمد

مررتُ ذات مرةٍ بسؤالٍ على إحدى صفحات التواصل الإجتماعي، بدا بسيطاً في صياغته لكنه كان عميقاً في معناه، سؤالاً لا يُطرح ليُجاب عنه سريعاً بل ليبقى معلّقاً في الداخل: لماذا نولد بوجوهٍ، ولماذا نولد بقلوب؟

لم أبحث عن إجابة جاهزة تركت السؤال يقودني بهدوء إلى الذاكرة، إلى الإحساس الأول…

خالد بهلوي

بحضور جمهور غفير من الأخوات والإخوة الكتّاب والشعراء والسياسيين والمثقفين المهتمين بالأدب والشعر، أقام الاتحاد العام للكتّاب والصحفيين الكُرد في سوريا واتحاد كردستان سوريا، بتاريخ 20 كانون الأول 2025، في مدينة إيسين الألمانية، ندوةً بمناسبة الذكرى الخمسين لرحيل الأديب الشاعر سيدايي ملا أحمد نامي.

أدار الجلسة الأخ علوان شفان، ثم ألقى كلمة الاتحاد الأخ/ …

فراس حج محمد| فلسطين

لست أدري كم سيلزمني لأعبر شطّها الممتدّ إيغالاً إلى الصحراءْ
من سيمسك بي لأرى طريقي؟
من سيسقيني قطرة ماء في حرّ ذاك الصيف؟
من سيوصلني إلى شجرة الحور والطلع والنخلة السامقةْ؟
من سيطعمني رطباً على سغب طويلْ؟
من سيقرأ في ذاك الخراب ملامحي؟
من سيمحو آخر حرف من حروفي الأربعةْ؟
أو سيمحو أوّل حرفها لتصير مثل الزوبعة؟
من سيفتح آخر…

حاوره: طه خلو

 

يدخل آلان كيكاني الرواية من منطقة التماس الحاد بين المعرفة والألم، حيث تتحوّل التجربة الإنسانية، كما عاينها طبيباً وكاتباً، إلى سؤال مفتوح على النفس والمجتمع. من هذا الحدّ الفاصل بين ما يُختبر في الممارسة الطبية وما يترسّب في الذاكرة، تتشكّل كتابته بوصفها مسار تأمل طويل في هشاشة الإنسان، وفي التصدّعات التي تتركها الصدمة،…