موت عصافير الظهيرة

محمد باقي محمد

      دوت الصرخة في فضاء الغرفة ، فانتفض النائمون مداهمين بحسّ الانخطاف ، وامتدّت يد ” نيجان ” إلى زرّ النور ، لينتشر ضوء أصفر شاحب في المكان ، اتّجهت العيون إلى ” برهان ” الغارق في عرقه ، كان شعره قد تشعّث بفعل التّقلّب على المخدة ، وصدغاه ينبضان بقوة ، بينما بدت عيناه مزروعتين بالخوف والانكسار ، وراح وجهه يعبّر عن رعب مريع يعصف ببقاع النفس ، ويلقي بها في ظلال التصدّع .
     وبين دهشة الجميع وذهولهم ، أسرعت زوجته لتحضر كأساً من الماء ..

–  خذ ، اشرب قليلاً من الماء .

     ذاهلاً وغائصًا في عالم ناء وبعيد همس :

– عيناهما ! عينا الصغيرين يا نيجان !
     اعتقلها الاستغراب :
–  أيّ صغيرين يا برهان !؟
وكمن استعيد من أرض الرجعى ؛ تلفّت حوله ، كانت الوجوه تتطلّع إليه مترقّبة متعاطفة ، ، تنهّد بقوة،
وامتدّت يده إلى كأس الماء ، ثمّ وضع رأسه بين يديه ..
– هل تشكو من شيء!؟
     لكنّه لم يجب ، فربتت على كتفه ..
–  تمدّد يا عزيزي ! اللّه أعلم بالمصاعب التي تواجهك في الطريق !
وفي سرّها راح السؤال يحفر في النفس .ز
” ترى ما الذي أوصله إلى البيت على تلك الحال !؟”
تمدّد ، كانت عيناه مفتوحتين في الظلام ، وأنشأ الحدث يعيد نفسه على شاشة الذاكرة .. الفوّهات مصوّبة إليه  
خلل الزجاج الأمامي ، والوجوه الصامتة ترتدي وحشية ضارية ، بينما يفصح صمتها عن عزمها الأكيد على تنفيذ تهديدها ! 
      جليّة كانت الصور ، ضاغطة ، مخرّشة للذاكرة ، فعاد العرق ينشع عبر الجلد ، وأخذ وجهه يعكس تشنّجاً حاداً ، شفتاه انفتحتا على آخرهما آن عجزت فتحتا الأنف عن تأمين الهواء اللازم ..
      ” أختنق ” !
      همس من بين شفتيه ، امتدّت كفّه إلى عنقه مغيثة ، ثمّ هبطت إلى صدره المدفدف ، وأنشأت اللحظة الثقيلة تقترب ، ارتفعت العجلتان الأماميتان ، وشعر أنّ اللحم والعظم الآدميين يٍٍُِِمعسان ، اندفع جالسا في فراشه ، وتجمّدت الصرخة الخرساء فوق شفتيه ، تلفّت حوله ، لم يكن الظلام محكما ، إذ كان ثمّة نور باهت يتخلّل من خصاص الباب والنافذة ، كان الموات يشمل الموجودات ، وعادت الذاكرة تضغط .. الشاحنة تحفر الطريق الجبليّ الضيّق ؛ تاركة مدينة ” العمادية ” وراءها ، بينما تسحب أشعة الشمس ذيل ردائها الغارب على السفوح والقمم وذرا الأشجار ، موقظة في النفس استعداداً غامضاً لليلة باردة ، مستمّداً – ربّما – من القمم العارية المغطاة بالثلوج ، وربّما كان قفر المكان وانعدام البشر فيه سبباً في إحساس كهذا ، أخذ ” برهان ” يستعيد وجوه أطفاله ، ويمنّي النفس بليلة مريحة في بيته ، علّ الوحشة الضاربة في منابت النفس تخفّف ضغطها ، وعلى مدّ النظر راحت الخضرة تعلن نفسها ملكة متوّجة ..
   انقطع انتظام الصور ، وهرولت الذاكرة بلا سياق ..
   الفوهات المصوّبة إليه تكشف عن تعطّشها إلى القتل ، ومن خلفها كانت الوجوه الرعناء تهدّد ، ثمّ تحرّكت الشاحنة ، وارتفعت العجلتان الأماميتان تمعسان اللحم الآدميّ ..
    انتفض جسمه بقوة ، كان عرقه غزيراً وبارداً ، ومن حوله كان السكون شاملاً ، بيد أنّ هدوء المحيط لم يكن يعنيه في شيء أمام البركان الداخليّ الذي راح يعصف به ، ويعيده إلى أحضان اللحظة الماضية بكلّ حدّتها وألمها ..
   الشاحنة تمضي في طريقها لاتلوي على شيء ، لم يعد يدري من أين طلعت أمامه بغتة ، فامتدّت قدمه – لاإراديّاً – إلى المكبح ..
   ” أيّ شيطان ألقى بها في هذه البقعة الحدودية النائية !؟”
    بصعوبة بالغة استطاع أن يتفادى المرأة التي ألقت بنفسها على مقدّمة الشاحنة ، وهبط بسرعة يريد أن يطمئنّ إلى أنّه لم يصدمها ..
– ولكن ماذا تفعلين هنا بحقّ الشيطان !؟
    وأخذت المرأة تبربر بكلام غير مفهوم ، بينما كانت يداها تتحرّكان في محاولة لتأكيد ما تقول ، فأسقط في يده ..
   ” والآن ! كيف تفهم منها ما تريد ؛ وأنت تجهل الكردية السورانية !؟”
    وحتّى تكتمل دارة الدهشة برز طفلان صغيران من خلف الأشجار ، تأمّلهما متعجباً ، بينما راحت المرأة تكمل كلامها ، ولم يكن بحاجة إلى كثير تمعّن حتّى يتواصل مع الفجيعة القابعة في أعماق عينيها ، كما لم تغب عنه لهجة التوسّل المنبعثة من كلامها ، فتساءل مرّة أخرى :
    ” باللّه عليك كيف تفهم ما تريد !؟”
–  يااللّه ! ماذا تريدين ؟ الطفلين ؟ مابهما !؟
 بالحركة أقرن سؤاله ، فجذبت الصغيرين من يديهما ، ووضعتهما في يده ..
–   آخذهما !؟
 استفسر مستغرباً ؛ موضّحاً سؤاله بالإشارة ، فهزّت رأسها بالإيجاب ..
–  ولكن !؟
انكبت المرأة على يديه تقبّلهما ، وتلألأت دموع ضارعة في المقلتين ..
” ربّاه ! هل لأمّ أن تتخلّى عن أولادها في أيّ ظرف كان !؟”
تساءل ، وراحت هي تهزّ كمّه بإلحاح ، فربت على كتفها علامة الموافقة ، ثمّ التفت إلى
الصغيرين ، وقادهما نحو الشاحنة ، كان الأول في الثانية ، بينما بدا الثاني في الرابعة من عمره .. اندفعت المرأة خلفهم ملتاعة ، كان التمزّق يشم كلّ حركة من حركاتها ، وهرباً من الأسى العميق المرتسم في البؤبؤين ؛ انطلق ” برهان” بالشاحنة مسرعاً ، بيد أنّ عينيه لم تستطيعا الفرار من صورتها المنعكسة في المرآة الجانبية ، ويدها الملوّحة كغصن يابس تعبث به الريح وسط الطريق .
–  لقد أسلمتهما إليك ! لقد أسلمتهما إليك !
ارتفع صوته متّهماًّ ، فأفاقت زوجته على صوته ، واقتربت منه حيرى ، ربتت على
 كتفه،فأسند رأسه إلى صدرها ، وانخرط في نشيج مرير .
–  حول أن تهدأ ! كلّ شيء – بإذن اللّه – يمكن إصلاحه ، فقط انتظر حتى الصباح !
فضجّ صارخاً :
–   أنت لاتدركين شيئاً ! ما حدث لايمكن إصلاحه أبداً .. أ أبداً !
–  حسناً ! إهدأ والصباح رباح !
وألقى بجسده المنهك على الفراش ..
” كيف يمكن إصلاح ما حدث ، كيف !؟”
أخذته قشعريرة باردة ، وأخذ يرتجف كورقة في هبوب ريح ، وعادت الوجوه الصامتة إلى
 مهاجمته ثانية ، الفوّهات مصوّبة إليه تماماً ، جاهزة للإطلاق ، العجلتان الأماميتان ترتفعان ، واللحم والعظم يمعسان ، والدم يشخب على الطريق المعبّد .
    انتفض فاتحاً عينيه ، للحظات كان النوم قد سرقه ، لم يكن نوماً بالمعنى المفهوم ، بل كان نوعاً من الانهيار العضويّ والعصبيّ الناجم عن اشتعال الأعصاب حتى آخر مدى لها ، لكنّ اليقظة لم تكن أكثر رحمة من النوم ، كلّ شيء كان جليّاً لعينيه ، وكأنّه يحدث للتوّ .. كانت الشاحنة تقترب من الحدود ، حينما فاجأته الدورية المتحرّكة ..
– أوراقك .
تأمّل رئيس الدورية الأوراق والأختام ، وكادت الأمور أن تنتهي بسلام ، لولا حدوث ما لم
يكن في الحسبان ، إذ رفع أحد الطفلين رأسه ، فأبصر به واحد من رجال الشرطة ، وأشار إليه ، التفت الآخرون نحو جهة الإشارة ..
–  من يكون !؟
–  ابني ( وأشارإلى صدره )
تحرّك رئيس الدورية نحو العربة ، فلاح له الطفل الثاني ..
– تعالا .. تعالا .. من أنتما !؟ ومن أين أتيتما !؟
–   لقد أعطتنا أمّنا لهذا الرجل ، و ….
شعر أنّ البساط قد سحب من تحت قدميه ، وقال رئيس الدورية :
– الآن !
 توجّهت فوهات البنادق نحوه ، وأنزل أحدهم الصغيرين ، تراجع ” برهان” إلى الخلف
مذعوراً ، كانت إشارة رئيس الدورية واضحة ! إنّه يطلب إليه أن يدهس الصغيرين !!
–  ولكن ياربّ الأكوان ! إنّهما صغيران ، فما ذنبهما !؟
 لقّم رجال الشرطة بنادقهم ..
–  والآن .. هيّا !
وأشار برأسه الآمر نحو الصغيرين ، جامدة كانت الوجوه ، صلدة وعازمة ، إذّاك راح هذا
الجزء من الزمن يتّخذ معنى لايرحم ، فاستوى خلف المقود ذاهلاًً ، ألف فكرة أبرقت في الذهن ، ألف هاجس ، ألقى نظرة أخيرة على الجنود ، لكنّه لم يجد في عيونهم سوى الوحشية والصلف والتصميم ، وأنشأ الزمن يتناقص ويضمحلّ ويدقّ ..
أمّا كيف تناقصت المسافة بين الشاحنة والصغيرين ، وكيف راحت قامتهما تختفي خلف
مقدّمتها شيئاً فشيئاّ ، ثمّ كيف ارتفعت العجلتان مهشّمة الجسدين الغضّين ! وكيف انفجرت الشمس وتأوّهت الجبال ، وتسمّر الزمن ! فهو لايدري ! إذ كان يريد شيئاً واحداً ، أن يبتعد ، ويبتعد فقط !
    بقوة شعر بأنّ معدته معلّقة في الفراغ , وأنّها – من كلّ بدّ – تروم تقيّؤ ما بجوفها ، كانت مقدّمات الفجر تتمطّى في صلب الظلام البهيم ..
    ” كان يجب أن ترفض تهديدهم ! كإنسان وككرديّ كان عليك أن ترفض ! ”
    ضرب يده على المخدة ، بينما كان جسده يتّقد بالحمّى ، وأنشأ ألم حارق ومبهم ينتشر من أسفل الجمجمة نحو العنق ، فأعلى الظهر ، مترافقاً بتصلّب لايطاق ، جمجمته فارغة تماماً ، فارغة لدرجة ما عاد يتذكّر معها كيف عبر نقطة الحدود إلى ” قزالتبة” داخل الأراضي التركية ، ولا كيف اعتسف المسافة إلى بيته ، ضباب كثيف هبط على العينين ، وضريم اشتعل في الروح ، ذريرات الوعي انصعقت ، وأغلق عينيه للمرة الألف هرباً من يد الأمّ الملوّحة عبر المرآة العاكسة ، فداهمت الفوّهات المصوّبة إليه خلل الزجاج الأمامي الذاكرة ، أسند رأسه إلى حافة النافذة ؛ علّ الطاحون الدائرة في رأسه تتوقّف قليلاً ، ومن كلّ الجهات كانت عيون الصغيرين تجتاحه إمّا تلفّت ، وإمّا تلفّت كانت يداهما الصغيرتان تلوّحان له ..
    نهض من فراشه !
–  أنا قادم إليكما !
أغلق الباب الخارجيّ خلفه ، واندفع أهل الدار في إثره ..
–  لن أسمح لأحد بإيذائكما ، لاتخافا !

تعثّر ، تمزّقت منامته عند الركبة ، وتعفّر وجهه بالتراب ، الأيدي الصغيرة تلوّح له ، نهض ، الصغيران يبتسمان له ، ابتسم ، ارتفعت العجلتان الأماميتان ، بكى ، امتدت يده المرتجفة مستنكرة ، واندفع خلف صورة الصغيرين إلى الأمام !

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم محمود

أول القول ومضة

بدءاً من هذا اليوم، من هذه اللحظة، بتاريخ ” 23 تشرين الثاني 2024 ” سيكون هناك تاريخ آخر بحدثه، والحدث هو ما يضفي على زمانه ومكانه طابعاً، اعتباراً، ولوناً من التحويل في المبنى والمعنى القيَميين والجماليين، العلميين والمعرفيين، حدث هو عبارة عن حركة تغيير في اتجاه التفكير، في رؤية المعيش اليوم والمنظور…

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…