ألأنّنا أعداء لما نجهل، أم لأنّ الأذن تطرب لمألوفها، كان كل هذا الهجوم على قصيدة النثر!؟ ولماذا نسي شعراء التفعيلة الاتهامات التي طالتهم، أو طالت روادها، من تجديف أو اتهام بالتآمر على العربية، وصولاً إلى وصفهم بالطابور الخامس!؟ أليست هذه هي التهم التي واجهها بدر شاكر السياب وبلند الحيدري ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي!؟ ثمّ أليست هي التهم ذاتها التي أطلقوها هم في وجه شعراء النثر لاحقاً!؟
ربّما يكون شاعر من وزن” فايز خضور” قد فصل نثره عن قصائد التفعيلة في شعره، ونشره تحت عنوان ” فضاء الوجه الآخر”، ولكن من قال بأنّ قصائد ” خضور” النثرية أقل جمالاً – أو تلويناً أو تنويعاً أو مجازاً أشدّ تخففاً من البلاغة – من قصائده التي أوكأها إلى التفعيلة!؟
وقد يحضرني في هذا المقام ما أورده الشاعر علي كنعان في أحد الأمسيات، فلقد أفاد بأنّه ليس مع ما يسمى بقصيدة النثر، لكنّ ابنته لا تقرأ – أو للدقة – لا تحفظ له شيئاً من شعره، في حين أنّها تحفظ الكثير للراحل رياض الصالح الحسين، أو يحضرني حوار جرى بيني وبين أحد الأصدقاء من شعراء التفعيلة، ذهب فيه بأنّ المدافعين عن قصيدة النثر كثيراً ما يستشهدون بالشاعر أنسي الحاج، مع أنّه لا يحفظ للـ ” حاج” شيئاً! كان كلامه يدور في فلك الغرابة، و كان لا بدّ من جواب، فإذا بي أردّ عليه بأنّني- على صداقتي له- لا أحفظ له شيئاً، على الرغم من أنّه يكتب التفعيلة! وذات أمسية كنت أقدّم فيها الزميل محمد غازي التدمري في محاضرة له عن الحب في الشعر العربي والغربي، جاء فيها على رأي يتلخّص في أنّ الشاعر الغربيّ تمكّن من اكتناه الحب كمعنى، وعبّر عن فهمه هذا شعراً، بينما وقف الشاعر العربي عند حدود الجسد، ولم يتمكّن من الإعراب عن الحبّ كماهية ، وكان أن همست في أذنه مُتسائلاً إن كان عجزه هذا لا يتأتى عن انهماكه بالشكلانيّ، فصادق من فوره على ما تقدّم من كلام!
وقبل شهر أو أكثر قرأت في ” الأسبوع الأدبيّ ” مقالاً لافتاً للدكتور الشاعر نزار بريك هنيدي، يُقارن فيه بين قصيدتين للشاعر المعروف ممدوح سكاف، الأولى كان قد كتبها قبل ثلاثين سنة على نمط التفعيلة، وجاء فيها على الثورة وماهية الشعر ودور الشاعر، والثانية كتبها مؤخراً على نمط فصيدة النثر، متصدياً للمفاهيم ذاتها، لكنّ فحواها – بحسب الهنيدي – اختلف، وبحصافة يُسند السبب إلى أنّ الشكل لا يُحدّد الثوب الذي نلبسه للعمل الفنيّ فقط، بل يُحدّد رؤية الشاعر للفن والحياة، أي أنّ الأشكال التقليديّة تحيل إلى رؤية تقليديّة، على ألاّ يُفهم ممّا سبق بأنّني أشم قصيدة التفعيلة بالتقليديّة، ذلك أنّ كل شكل يُحيل إلى همس مُختلف للتاريخ!
وفي الخواتيم أعود إلى درويش لأتساءل : ألم يكن محمود يتطلع – كما نزعم – إلى جسر الهوة بين وزن الشعر ونثر الشعر!؟ وعليه هل أنا على خطأ إذ قلت بأنّ التواشج بين شعرية النثر ونثر الوزن بلغ ذرى غير مسبوقة في ديوانه ” أثر الفراشة – 2008″، وأنّه إنّما كان يشتغل على نظم وكأنّه نثر ( 6)، وعلى نثر كأنّه نظم، ومن ثمّ ألم يأزف الوقت الذي نقرّ فيه بجمال القصيدة دون تضييق عليها في الشكل!؟
——————————-
1 – أبو حيان التوحيدي – الإمتاع والمؤانسة – الليلة الخامسة والعشرين.
2 – محمود درويش الأعمال الكاملة – دار الريس /1995 /
3 – محمود درويش – سرير الغريبة / 1999 /
4 – محمود درويش – كزهر اللوز أو أبعد / 2005 /
5 – أبو حيان التوحيدي – المقابسات – المقابسة /60 /