محمد باقي محمد
في “متاهة الصمت” ينسج ” صبري رسول” نصاً أليفاً، ربّما لأنّه جاء فيها على أحوال قرية في وقت أضحينا فيه نفتقد إلى عوالم دافئة وندية كتلك التي جاء عليها في متنه!
ثمّة طفلة ترسم القرية وفق رؤيتها الخاصة، وربّما وفق منطق الطفولة الخاضع لقوانينه الداخلية العصية على أفهام الكبار في غير حال!
كانوا رجالاً ثلاثة جاؤوها لتحريّ ظاهرة عجيبة فيها، ذلك أنّها استسلمت لصمت غريب ومخاتل، ختم على قلوب ساكنيها وألسنتهم، وراح السارد يصف المشاهد التي صادفتهم أولاً بأول، كان الناس قد بدؤوا يومهم في التوّ، بيد أنّ الأصوات المعتادة في الريف غابت، فلم يعلُ صياح الديكة، أو خوار البقر، أو ثغاء الأغنام، حتى صخب الأطفال وهم يلهون غاب تحت عباءة صمت لزج وثقيل
في “متاهة الصمت” ينسج ” صبري رسول” نصاً أليفاً، ربّما لأنّه جاء فيها على أحوال قرية في وقت أضحينا فيه نفتقد إلى عوالم دافئة وندية كتلك التي جاء عليها في متنه!
ثمّة طفلة ترسم القرية وفق رؤيتها الخاصة، وربّما وفق منطق الطفولة الخاضع لقوانينه الداخلية العصية على أفهام الكبار في غير حال!
كانوا رجالاً ثلاثة جاؤوها لتحريّ ظاهرة عجيبة فيها، ذلك أنّها استسلمت لصمت غريب ومخاتل، ختم على قلوب ساكنيها وألسنتهم، وراح السارد يصف المشاهد التي صادفتهم أولاً بأول، كان الناس قد بدؤوا يومهم في التوّ، بيد أنّ الأصوات المعتادة في الريف غابت، فلم يعلُ صياح الديكة، أو خوار البقر، أو ثغاء الأغنام، حتى صخب الأطفال وهم يلهون غاب تحت عباءة صمت لزج وثقيل
على الرغم من مظاهر الحياة اليومية التي كانت تسير على عادتها وقت الحصاد، ففي العمق كانت الحصادات تعمل بنشاط، ومن خلفها راح غبار التبن يرسم أحزمة ملتوية، فيما كان الفلاحون يلقمونها الحصيد، وعلى الدرب الترابية كانت الفتيات تتمايلن في رواحهم أو عودتهم من النبع، أمّا في الكروم فكان الفلاحون يعملون بجدّ، بعضهم كان يعمل في تشييد سياج حقولهم بحجارة بازلتية سوداء، فيما كان بعضهم يقطف عناقيد العنب ليودعها في السلال معدّة لتلك الغاية!
هناك، على الصخرة، قرب النهر، كانت النسوة يغسلن الصوف ، وينشرنه على أكياس الخيش وأعواد القصب المنتشرة على طول النهر، فيما كان الصغار يقفزون بمرح من حولهنّ!
وحده الصمت كان سيد الموقف، حتى كأنّ القرية صورة معلقة على جدار وهميّ، هذا كله فيما الصغيرة مستمرة في تلوينها، توشح سراويل الفلاحين بالرمادي الكالح، وتكسب الصوف المغسول بياض القطن المندوف، وتصفّ عناقيد العنب بأحمر ولا أشهى، ثم تنثر البيوت بفوضى محببة على الجهات، أمّا كيف انتقل السارد ورفيقاه من فظاظة الكلام إلى فتنة الصمت الأثيث، ولماذا ابتلعت القرية لسانها.. هل كانت تعيش حالة شبيهة بمبدأ التقية في الإسلام، أم أنّها أوكأت لسانها إلى صمت فطين!؟
أمّا في التنفيذ، فلقد لجأ ” رسول” إلى ضمير المتكلم، في إحالة إلى الأساليب الحديثة من القص، لكّنه إذْ جاء على زمن القصّ، اعتمد الفيزيائي التقليدي منه، الذي يسير من الماضي نحو الحاضر فالمستقبل، ذلك أنّه لم يعفه من نسق التعاقب، على الرغم من أنّ ضمير المتكلم كان يسمح باجتراح المنكسر أو الدائريّ المنسجم والحداثوي، وهذا يحيلنا إلى إخفاق القاصّ في الاشتغال على توليفة متناغمة!
لغة ” رسول” تميل إلى التعبيريّ، إنّها لغة دالة، مشغولة بدلالة الاقتصاد اللغوي، فلا ترهل إذن، ولكن -وبالمقابل – ليس ثمة اشتغال على المجاز، الذي يأتي على المجنح ذي الأفياء والظلال والتوريات، ليس ثمّة كسر للأنساق التعبيرية المألوفة، لإنجاز أنساق وسياقات مبتكرة، لكنّها – من كل بدّ- قطعت حبل السرة مع المستوى الأولي الخام، الذي يؤسّس لوظيفة التواصل، واندرجت في نسيج فني قصصي، بغضّ النظر عن الملاحظات التي أتينا عليها، فالأمر بمجمله يعود إلى توخي الكثير من ” رسول”، ربّما لأنّه مُجاز في اللغة، أي أنّه متخصص في آدابها وفنونها وشجونها!
وفي التفاتة إلى عنصر المكان، لا بدّ أن نقّر بأنّه جاء عليه بتفصيل، تجاوَزَ مهمة الحاضن البيئيّ للأحداث والشخوص، لكنّه لم يرق إلى التأسيس لفضاء قصصيّ، يندغم بمصائر شخوصه، ويقف معهم على قدم المساواة ليقاسمهم البطولة!
هناك، على الصخرة، قرب النهر، كانت النسوة يغسلن الصوف ، وينشرنه على أكياس الخيش وأعواد القصب المنتشرة على طول النهر، فيما كان الصغار يقفزون بمرح من حولهنّ!
وحده الصمت كان سيد الموقف، حتى كأنّ القرية صورة معلقة على جدار وهميّ، هذا كله فيما الصغيرة مستمرة في تلوينها، توشح سراويل الفلاحين بالرمادي الكالح، وتكسب الصوف المغسول بياض القطن المندوف، وتصفّ عناقيد العنب بأحمر ولا أشهى، ثم تنثر البيوت بفوضى محببة على الجهات، أمّا كيف انتقل السارد ورفيقاه من فظاظة الكلام إلى فتنة الصمت الأثيث، ولماذا ابتلعت القرية لسانها.. هل كانت تعيش حالة شبيهة بمبدأ التقية في الإسلام، أم أنّها أوكأت لسانها إلى صمت فطين!؟
أمّا في التنفيذ، فلقد لجأ ” رسول” إلى ضمير المتكلم، في إحالة إلى الأساليب الحديثة من القص، لكّنه إذْ جاء على زمن القصّ، اعتمد الفيزيائي التقليدي منه، الذي يسير من الماضي نحو الحاضر فالمستقبل، ذلك أنّه لم يعفه من نسق التعاقب، على الرغم من أنّ ضمير المتكلم كان يسمح باجتراح المنكسر أو الدائريّ المنسجم والحداثوي، وهذا يحيلنا إلى إخفاق القاصّ في الاشتغال على توليفة متناغمة!
لغة ” رسول” تميل إلى التعبيريّ، إنّها لغة دالة، مشغولة بدلالة الاقتصاد اللغوي، فلا ترهل إذن، ولكن -وبالمقابل – ليس ثمة اشتغال على المجاز، الذي يأتي على المجنح ذي الأفياء والظلال والتوريات، ليس ثمّة كسر للأنساق التعبيرية المألوفة، لإنجاز أنساق وسياقات مبتكرة، لكنّها – من كل بدّ- قطعت حبل السرة مع المستوى الأولي الخام، الذي يؤسّس لوظيفة التواصل، واندرجت في نسيج فني قصصي، بغضّ النظر عن الملاحظات التي أتينا عليها، فالأمر بمجمله يعود إلى توخي الكثير من ” رسول”، ربّما لأنّه مُجاز في اللغة، أي أنّه متخصص في آدابها وفنونها وشجونها!
وفي التفاتة إلى عنصر المكان، لا بدّ أن نقّر بأنّه جاء عليه بتفصيل، تجاوَزَ مهمة الحاضن البيئيّ للأحداث والشخوص، لكنّه لم يرق إلى التأسيس لفضاء قصصيّ، يندغم بمصائر شخوصه، ويقف معهم على قدم المساواة ليقاسمهم البطولة!
ولأنّه اشتغل بطريقة كاميرا سينمائية، جاء على تفاصيل قُدّر لها أن تقوم بما يشبه محفزات القصّ، ما دفع حركته إلى التناميّ، ليختتم نصّه بالمفارق، فبدل أن يحاول الدارسون الثلاثة أن يجروا القرية إلى دينهم، سرقهم دينها الصامت، وهي نهاية ذكية بحق، ما اقتضى التنويه!