فلم ثقافي
تعويض
أخيراً غفت الزوجة المسنّة و غطّ الأطفال في نوم عميق. التقط جهاز التحكم عن بعد و أدار بضغطة زر واحدة وجهة الستلايت. صارت القنوات تترى أمام عينيه ناقلة إياه نحو عالم مبهم و ساحر و مفعم بالغموض و الأحلام. اختزل الطريق الطويل باستدعاء احد الأرقام المألوفة لديه. أشرقت الصورة و ظهرت صبية ممشوقة القوام، بارعة التكوين تتمايل و تتغنج بأنوثة تجعل من جليد القطب بركاناً هائجاً. فتح عينيه على اتساعهما و تمتم (يا الله، أي عالم هذا!) ركز على الجسد الممزوج بخمرة الآلهة و نار الجحيم يتماوج، يتهزهز، يتوتر و ينبسط كسحابة بيضاء.. يتكوّر، يتكتل، ينعصر و يذوب كنسمة ربيع. أطراف بيضاء تشوّش بتأرجحها على الإتزان المعتاد لهواء الغرفة و تُفقِده القدرة على التوزع بالتساوي فيها. ثديان ملساوان ممتلئان نافران كإوزتين برّيتين يجعلان الضوء يفقد صوابه و يفضّل الركون في زاوية مظلمة. بطن متناسقة العضلات تتوسطها صرّة تحدثك عن سرّ الحب و الرغبة و الشوق الحرون. خلفية مشدودة كوتر (الزير سالم) مكوّرة كوجه الصباح و مصقولة كجبين الحرية. (…) منعّمٌ منمنمٌ ململمٌ يستقر كأخدود خبيث الغايات بين شفيري جهنم. يا للأسف.. قالها همساً و هو يرى سنيّ عمره تنزلق مثل كرات الزئبق من بين يديه و تتدحرج على الجسد البضّ الشهي لتصدمه بحقيقة مُرّة كاد ينساها. لقد عاش عمراً بأكمله خاويا كصحراء الربع الخالي واجرداً مثل صبار مستوحد. نظر في ما حوله ليتأكد من صدق اكتشافه الموجع و المتأخر. حياة انقضت هدراً في سرداب زوجة واحدة و بيت واحد و محيط واحد و لون واحد أوحد. تحسّر متلعثماً (يا للخسارة حيث لم يعد ثمة متسع لتعويض كل هذه الأشياء). حشرج كطفل مخنوق العَبرات و سقط جهاز التحكم من يده، و تشوّهت صورة الفتاة الخرافة تحت سيل الدموع المنهمرة.
تسلسل
كان أول الداخلين إلى قاعة المسرح. تجوّل بين الكراسي متململاً و مشتّت الذهن. استقر به المقام في آخر الصفوف فجلس على الكرسي المنزوي بعيداً في احد أركان القاعة. حاول المسئولون إقناعه بتغيير مقعده لأنه سبق الجميع بقدومه غير انه تشبث باختياره و قرر في دخيلة نفسه انه لن يبرح مكانه أبداً. بيّن احدهم له أحقيته و جدارته في شغل احد الأماكن في الصف الأمامي لكنه أكد لهم انه لن يأخذ إلاّ ما يستحقه بالفعل. تقاطر الناس على القاعة و بدأ مهرجان توزيع الأدوار على الحضور. حددوا ـ دون أن يأخذ رأيه احد ـ أبطال المسرحية و الممثلين المساعدين و بقية الكومبارس. قرروا ـ دون مشورته أيضا ـ من يجلس في الصف الأمامي و الصفوف التالية. ازداد الزحام و علا الهرج و المرج داخل أوصال المكان. لم يكترث بضجيجهم و اعتبر ضوضائهم احد حقوقهم الطبيعية. كادت الأصوات تخفت و الهدوء يعم حينما رضي الكل بما حصلوا عليه، لكن وصول إحدى المشاهدات في آخر لحظة قبل بدء المسرحية أشاع الضجة من جديد. بحث الجميع عن مكان للسيدة المحترمة ثم نظروا كلهم في وقت واحد إليه. تقدموا نحوه و طلبوا منه بصلافة أن يُخْلي المقعد للقادمة الجديدة. قال لهم بأسلوبه الهادئ إنهم يسلبونه حقه لكنهم ازدروا كلماته. نهض متحدياً تجاوزهم و اخبرهم بأنه ليس هناك قوة في الأرض تجعله يتنازل عن حقه. انغرست في عينيه آلاف الأصابع و امتدت إليه مئات الأيادي و رفعته رفعا ثم رمته بلا شفقة خارج القاعة.
مناكفة
ضاقت ذرعاً بحركاته المريبة. حاولت قدر المستطاع تحاشي احتكاكات فخذه المبالغ فيها بفخذها. انكفأت على نفسها في زاوية المقعد و حوّلت وجهها صوب نافذة السيارة في رجاء خائب بأن يمضي الوقت بسرعة و تنتهي تلك المهزلة. استمر بمناوراته و صار يضيّق الخناق عليها أكثر وبات الأمر غير محتمل. كظمت غيظها و هي تحسّ بالكتف التائهة تبحث عن اقل فرصة للالتصاق بكتفها. أحسّتْ بتهدج أنفاسه و الشعاع الساخن المنبعث من مسامات جلده ليحكي في خجل عذراء مرتبكة عن حرمان أبدي و شوق حرّاق. في خطوة طائشة، شعرت باليد المتوترة المرتعشة تحط كحمامة بلهاء على تدويرة فخذها المكتنز و تعصر لحماً شهياً طرياً معجوناً بشهوة الآلهة القديمة. نكّست رأسها و هي تراقب ذلك الانتهاك الهمجي لمساحات أنوثتها دون أن يوخز تحفظها العقلاني وجدان ذلك الرجل الأهوج. تمادت اليد الشبقة في اندفاعها و صارت تقرص فخذها قرصات مؤلمة. إرتبكتْ، حرّكتْ رأسها يميناً و شمالاً، أطلقتْ زفرة انزعاج أخطأت هدفها و لم تنجح في ردعه. أبعدتْ اليد المتطفلة عن ممتلكاتها و رمقتْ صاحبها بنظرات تحمل تهديداً واضحاً دون طائل. استأنفَ مناكفها هجومه و أصبح أكثر جرأة و وقاحة.
انفجرتْ كبركان هائج مرة واحدة و صبّتْ حممها على رأس الرجل الذي أُخِذَ على حين غِرة. أسمعتهُ أقذع الكلمات و أبشع النعوت و جعلت منه أضحوكة في فضاء السيارة المزدحم بالركاب و الدخان و هدير المحرك.
في منتصف الليل تماماً، تمددتْ على ظهرها و قررت إنها نجحت في التصرف وفق ما يشتهي المجتمع و ما تفرضه التقاليد، لكن في داخلها.. في أعماقها.. في لبّ عالمها ألحميمي.. حيث لا رقيب ولا عين تحسب عليها الأنفاس صارت تستعيد كل حركاته و انفعالاته،و راحت تغوص بعيدا في تأملها و بدأت بصعوبة تتذكر لون عينيه و تسريحة شعره و رائحة حرمانه المتقدة. (اااااه) تنهدت و وضعت يدها على الفخذ الذي تلقّى أولى جرعات التعرّف إلى لمسات الرجل و أدركت إن تلك البقعة هي الأكثر حياةً و إبهاجاً في كل مفاصل جسدها البض.
شاعرة
تقف على المنبر. تلقي قصيدتها المفعمة بالدفء و الرقة و الجمال. تفاجئها العيون الشرهة بالتحديق في جمالها الأسطوري. تنغـّم عباراتها و تموسق مفرداتها كي تخاطب الإذن و الوجدان لكنها لا تفلح إلاّ في سحر العيون و إثارة الغرائز. تدرك إن في متن قصيدتها ما يضارع جمال وجها و أكثر، وتحاول أن تقهر حقيقة أن شهوات الجسد أقوى من قدرة الروح على استقبال الكلمات الدافئة و الأفكار النبيلة.
تتخلص في تلك اللحظة من أدران الجسد و تصبح روحاً هائمة في فضاءات الشِعر إلاّ إنها تخفق في تخليص الجمهور من ارث ثقيل يمتد عبر آلاف السنين، و يحسب الأنثى كائناً مخلوقاً للسرير فقط. تبحث عن أفكارها التي نثرتها في أوصال القاعة فلا تجد غير بقايا عطرها المتشبث بالأنوف و الثغور.
تبتسم رغم كل شيء ابتسامة حفيفية الوقع بانتصار غير خالص حين تكتشف إن الخلل لا يكمن في القصيدة.