بقلم: دلاور زنكي
dilawerzengi@nefel.com
dilawerzengi@nefel.com
ولد جلادت في السادس والعشرين من شهر أيار عام 1893م في مدينة استانبول من والده: أمين عالي بدرخان ووالدته “سنيحة” شركسية الأصل. وقد كان لوالده زوجة ثانية. فنشأ جلادت وترعرع في بيئة ميسورة غنية مرهفة الإحساس والذوق فعرف طيبات الحياة، إنَّ جلادت وهو سليل الأمراء وقد اعتاد على حياة البذخ والرفاهية والأمان يرفل في ثوب الرخاء والثراء تبدلت أحوله وأحوال عائلته بعد المنفى، فعاش في ضنك من العيش وعوز وفاقة ويذوق علقم الاغتراب، وهكذا انعكست آلام العائلة وهمومها على طفولة جلادت ومزّقتها شر ممزّق. هذه الطفولة التي قاست مشقة الأسفار من بلد الى بلد ومن أرض الى أرض.
شب وترعرع، تملأ نفسه أحلام آبائه وأجداده في حياة حرة كريمة فوق أرض أسلافه الغابرين. فكان في هذا وذاك الأثر الكبير في تكوين شخصيته. فإذا هو يحمل بين جنباته كل الهم الكردي ويضع نصب عينيه السعي وراء الحلم الكبير وتحقيقه… لقد نشأ جلادت واخوته واخواته في كنف أولئك الأسلاف العظماء وساروا على نهجهم فكانوا خير خلف لخير سلف.
كان العثمانيون في ريب من أمر البدرخانيين لذلك كانوا يكلفونهم بالوظائف الحكومية والأعمال الرسمية وكانوا ينقلونهم من مكان الى آخر. وكان جلادت –في رفقة والده- يتنقل من مدينة الى أخرى بين النفي واستلام منصب وظيفي مثل: استانبول، اسبارطة، وأدرنه، وقونيه، ونابلس، وعكا، وسالونيك… ويتجول بينها، وهكذا أمضى أيام طفولته البريئة في حل وترحال. وهكذا كان الأمر بشأن رواتبهم المهنية تدفع حيناً وتقطع حيناً وقد استمرت الحالة تتأرجح بين الغضب والرضي لا تعرف الاستقرار فكان السلطان يرضى عنهم يوماً ويغضب يوماً.
عندما بلغ جلادت من العمر ثمانية عشر عاماً انتسب الى الكلية الحربية وتابع فيها دراسته ولما تخرّج منها بصفة ضابط التحق بالجيش العثماني في حرب القفقاس وحروب البلقان.
كتب جلادت بدرخان في مجلته “روناهي” العدد/25/ الصادر عام 1944م أنه كان في عام 1917م قد التحق بإحدى الوحدات العسكرية العثمانية التي ترابط قريباً من بحيرة “أورميا” برتبة ضابط.
بدأ جلادت وأخوه كاميران بالكتابة في سن مبكرة، وهذا ما نلاحظه من خلال التاريخ الذي نشر فيه كتاب “حقيقة سقوط أدرنة” عام (1913)م. هذا يعني أنهما عندما أعدا هذا الكتاب لم يكونا قد تجاوزا عشرين سنة من عمرهما.
في عام 1919 توجه جلادت عالي بدرخان و أخوه كاميران و أكرم جميل باشا وفائق توفيق الى كردستان والى جانبهم الضابط السياسي الانكليزي الذائع الصيت: “الميجر ادوارد نوئيل”. للوقوف على مطالب الشعب الكردي. وما إذا كان الأكراد قادرين على حمل مسؤولياتهم قبل أن تعقد جلسة معاهدة (سيفر)[1] بين الحلفاء والحكومة العثمانية. في البدء ذهبوا الى “ملاطية” والتقوا بالزعماء ورؤساء العشائر وكبار القوم ولكن كمال باشا كان أكثر دهاء فقطع عليهم الطريق إذ اتصل بأولئك الزعماء والرؤساء ووعدهم مواعيد كاذبة بمنحهم المناصب والأموال ونجح في خداعهم وفي الوقت نفسه أرسل جنوده على ظهور الخيول الى المنطقة لردع كل من يحاول انتفاضة أو تمرداً، فلم تثمر جهود الأمير واضطر الى التقهقر بعد ما لقي من غدر العثمانيين وخذلان العشائر له شيئاً كثيراً.
في هذه المرحلة تحديداً تكونت لديه فكرة تأليف ألف باء بالأحرف اللاتينية و لمعرفة كيفية اعداده للألفباء الكردية، لابد من العودة الى كتابه المطبوع في دمشق،(صفحات من الألفباء) ضمن سلسلة مطبوعات هاوار عدد(2) عام 1932م يقول في مقدمته: “في عام 1919م توغلنا في عمق جبال “ملاطية” ودخلنا بين عشيرة “رشوان” وكان الميجر نوئيل الانكليزي يصطحبنا وهو الذي كان ملماً باللهجات الكردية-(الصورانية) ويرغب في تعلم اللهجة الشمالية (الكرمانجية). وكنا نصغي الى الناس وننقل عنهم الأمثال والطرائف والقصص وندونها ثم يعود كل منا الى قراءة ما كتبناه وتنقيحه وتهذيبه إن كان بحاجة الى ذلك. ولفت نظري أن الميجر الانكليزي كان يقرأ ما دوّنه بلكنة أجنبية ولكنه كان يقرأ كتابته بسهولة واضحة. أما أنا فكنت أجد مشقة كبيرة في لفظ الأحرف الصوتية وتمييز الحرف (î ) من الحرف (ê ) وحرف الـ(o ) من حرف الـ (û ) الخ. إلا إنني كنت أحرر كتاباتي بالأحرف العربية؟. وهذا الرجل الانكليزي يستخدم الحروف اللاتينية؟ وعندئذ أدركت السبب وقررت بيني وبين نفسي أن أضع أبجدية بالحروف اللاتينية واستخدامها في الكتابة الكردية.
كان من نتائج الحرب الكونية الأولى سقوط الإمبراطورية العثمانية، ثم نهوض الشعوب التي كانت تحت هيمنتها وظهور الحركات الثورية الداعية إلى إطلاق الحريات. وفي هذه الظروف نشط جلادت في الاتصال بالعشائر الكردية وحضها على التوحد وجمع الصفوف ساعياً إلى رفع الجور عن الأكراد. ولكن العنصريين الأتراك في حزب “الاتحاد التركي” في كافة أرجاء الأناضول ازدادوا شراسة وعدوانية بعد تردي الإمبراطورية العثمانية وجرت على أيديهم مجازر ومذابح جماعية للأرمن والأكراد. وفي هذه الفترة أصدر العنصريون أحكاماً جائرة لتبديد الأسرة البدرخانية وتشتيتها، ولهذا رأينا جلادت بدرخان وأخاه كاميران يسيران على طريق منفى جديد، ومستقبل غامض ومجهول.
بعد أن احتل الكماليون مدينة استانبول وأخضعوها لنفوذهم وسلطانهم عام 1922م قرروا القضاء على القوميين الأكراد وفي اللائحة اسم جلادت بدرخان وفي هذه الأثناء لجأ الأمير وشقيقه كاميران الى ألمانيا وهناك بيّن جلادت سبب فرارهما للمستشرق “كارل سوسهايم” الذي اصدر كتاباً فيما بعد ذكر فيه: ان جلادت كان يقوم بالدور الإعلامي للتحرر الكردي وكان هو وكافة البدرخانيين يحتلون المراكز القيادية في كل الحركات الثورية وقد ذكر لي أن أفراداً من العائلة البدرخانية عبروا الحدود الإمبراطورية العثمانية عن طريق الموصل وشاركوا في انتفاضة في ذلك الإقليم. وأنّ محكمة “سيواس” كانت قد أصدرت قراراً بإعدامه. يستأنف المستشرق “سوسهايم” القول: إن العثمانيين والأتراك كانوا يتجنبون جلادت ويتهربون من مخالطته بسبب ذاك الحكم الصادر عن محكمة “سيواس”. في تلك الأعوام الثلاثة اهتم باللغة الألمانية وانكب على دراستها. ولاسيما الجوانب الأدبية والتركيبية. وعندما ذهب الى سورية واستقر هناك في دمشق ألّف بعض الكتب مثل “ألف باء” و “النحو والقواعد الإملائية” بناءً على أسس علمية وبحوث دقيقة اكتسبها في ألمانيا. يقول جلادت في مجلة “هاوار”: “إنّ وحدة الشعوب تبدأ بوحدة اللغة كان “بسمارك” قد وجد توحيد اللغة الألمانية شرطاً لاتحاد ألمانيا”. وتمت هذه الوحدة على يد “لوثر” وترسخت. ولا تتم وحدة الأكراد إلا بوحدة لغتهم… ولا تتوحد اللغة إلا بتوحيد حروف الكتابة أي أن الخطوة الأولى نحو توحيد اللغة هي وحدة الحروف وبها يبدأ هذا التوحيد.
عندما تفجرّت ثورة الشيخ سعيد “بيران” عام 1925م تخلى جلادت عن كل مهامه وأعماله وترك كل شيء رغبة في الالتحاق بالثورة، ولكن- واأسفاه- عندما وصل الى كردستان كانت الثورة قد أخفقت وانطفأ أوارها. فعاد سراً الى ألمانيا وبالتزامن مع هذا الحدث توفي شقيقه: صفدار في ألمانيا بعد معاناة المرض. أما أخوه الآخر: توفيق فقد قضى على نفسه بعد أن وثق بالكماليين واستسلم لهم فغدروا به وقتلوه. أما كاميران فأنهى دراسته القانون وحصل على شهادة الدكتوراه في الحقوق، ولكن جلادت لم يجد الفرصة سانحة لمتابعة الدراسة ونيل “الدكتوراه” لأن والده كان مريضاً في القاهرة فسافر اليها لعيادة والده المريض الذي توفي عام 1926م. وبعد وفاة والده توجه الى بيروت وحل ضيفاً على دار عمه: خليل رامي بدرخان. وفي تلك الأيام كان كثيرون من المثقفين والمتنورين الأكراد قد تجمعوا في مدينة بيروت فاختلط بهم وشاركهم في اجتماعاتهم، كما اختلط بالأكراد في سورية.
في الخامس من أيلول عام 1927م. عُقد في مدينة “بحمدون” اللبنانية اجتماع لتأسيس جمعية “خويبون” التي من كان أهدافها مناصرة ودعم ثورة آرارات من أراضي الجزيرة (السورية) والاشتراك في العمليات العسكرية ولكنّ الثورة لم تفلح فلجأ الى ايران وفي ايران حاول شاه ايران: محمد بهلوي تنحيته وإبعاده عن المسائل القومية فأغراه بإسناد منصب “قنصل” إليه في إحدى الدول التي يرغب فيها من العالم، ولكنه لم يلبِّ طلب الشاه ولم يحقق رغبته فأُخرِجَ من الأراضي الإيرانية. فعاد الى كردستان الجنوبية ومكث فيها أمداً ثم سافر الى العراق وأقام فيها مدة ولكن الانكليز كرهوا إقامته في بغداد فلم يسلم من مضايقاتهم. فغادر الى بيروت وأقام هناك وفي 16/4/1929م انتسب الى نقابة المحامين وحصل على إجازة في ممارسة مهنة “المحاماة” ويبدو أنه باشر كتابة مذكراته بتاريخ 16/8/1929م وهو في بيروت.
من أجل العمل السياسي وتوسيع دائرة النضال عاد الى سورية، حيث أنضم الى أعضاء من عائلة جميل باشا وحمزة بك مكسي وحاجو آغا وأسسوا جمعية باسم “الجمعية الكردية لمساعدة بؤساء الكرد” ومقرها في الحسكة، وكانت الغاية من إنشاء هذه الجمعية هي إغاثة أولئك الأكراد الملهوفين النازحين من الشمال، وكانت سورية في ذلك العهد تحت الوصاية الفرنسية، وكانت العلاقات بين فرنسا والكماليين طيبة ووطيدة، وبسبب الضغوط التركية المتكررة لم تكن الحكومة الفرنسية ترغب في السماح له بالمكوث في المناطق الحدودية.
في 25 شهر آب من عام 1930م أذنت حكومة الانتداب له مع لفيف من المثقفين الأكراد بالإقامة في دمشق بعد بذل جهود مضنية وحثيثة. كانت الحركات السياسية العقيمة التي لم تثمر يوماً والدول المحدقة بكردستان قد غيرت وجهة سير جلادت بدرخان. وكانت أوضاع المنطقة لا تأذن للأكراد بالتحالف مع دول ذات نفوذ، كما لم تأذن لهم بالإعداد لقيام ثورة أو انتفاضة قومية. إضافة الى أسباب أخرى. عندما استقر جلادت في سوريا لم يكن له أيّ مورد مالي وقد كانت الدولة العثمانية توقفت عن دفع التعويض له عن ممتلكات العائلة منذ تسلم اتاتورك الحكم واستبدل التعويض ببدل هزيل عن الملكية نفسها فعرضت عليه دولة فرنسا المنتدبة نفقة خاصة فرفضها ليبقي حياته حرة من كل قيد مكرسة تكريساً كلياً للقضية الكردية.
تأكَّد لـ جلادت وهو في دمشق أن الأكراد- بشكل عام- تنقصهم المعرفة وبحاجة الى القراءة والكتابة وتلقيِّ العلوم، ورأى أن تحرير كردستان لن يكون متاحاً قبل يقظة الشعب الكردي كله والالتفات الى قضيته الوطنية والقومية فكان يقول:” لو أن الشعب الكردي تعلم القراءة والكتابة لاستطاع رؤية أحواله البائسة وتذوق مرارة عيشه ومتى وصل الى هذه الدرجة من الوعي والفطنة سَهُل عليه الاحتيال لذلك، وتغيير أحواله تغييراً جذرياً. وقد كان يشعر دوماً ان سلالته المجيدة تضع على عاتقه مسؤولية خاصة ويرى انه لا يمكن له ان يسعد في الحياة بينما أكثرية أبناء قومه يعانون الحرمان والظلم حتى أنهم لا تتاح لهم الحرية في استعمال لغتهم.
إن جلادت يدرك جيداً أن البلوغ بالأكراد الى هذه الدرجة من الوعي واليقظة يحتاج الى عمل دؤوب وبذل جهود كبيرة وتحمل المشقة، وهذا الوعي لا يتأتى ولا يتسنى إلا عن طريق تعلم لغة الشعب الكردي. وأن الشعب الكردي يمكن أن يكون متماسكاً وموحداً متى تعلم لغته الكردية… لغته القومية، وعندئذ سوف يشعر بوجوده القومي المستقل، ولكي نستطيع توحيد اللغة الكردية فإننا نفتقر الى أبجدية واحدة تكون حجر أساس في هيكل اللغة الكردية.
وبناءً على هذه الرؤية وضع جلادت أبجدية بالأحرف اللاتينية التي تلائم اللغة الكردية عام 1919م ولتعميم هذه الحروف وترسيخ الكتابة بها أصدر مجلة “هاوار” عام 1932م .
يقول جلادت بدرخان في مجلة “هاوار” بعد أن أرسى قواعد الالفباء اللاتينية متحدثاً عن الأبجدية التي صاغها: ولما كانت الحكومة السورية في دمشق قد منعتنا من التحرك، تفرغت للعمل الثقافي وانكفأت- ليلاً نهاراً- على البحث في قواعد اللغة وأبجديتها.
كان الأمير جلادت في تلك الفترة يقيم في غرفة ضيقة رطبة في طابق أرضي كائن في حي الشهداء، طريق الصالحية، فيستعمل تلك الغرفة مكتبة وقاعة استقبال وغرفة نوم وداراً للتحرير في آن واحد وكان يكتب جميع المقالات ويوقعها بأسماء مستعارة مختلفة ثم ينضدها بنفسه ويحملها الى المطبعة ويقوم بعد ذلك بتوزيع المجلة بنفسه. وكانت حياته الخاصة حياة حرمان دائم فلم يكن له من مورد سوى العطايا اليسيرة التي كان يجود بها الأكراد وفقاً لتقاليد العشائر إزاء أمرائها في كل عام اعترافاً منها بفضلهم وإظهارا لاحترامهم.
كان جلادت يحاول حث الأكراد على كتابة قصائدهم وقصصهم وحكاياتهم وآدابهم الشعبية والتعبير عن آلامهم وأحلامهم وآمالهم وتاريخهم بلغتهم القومية وليس باللغات الأخرى.
في اليوم السادس والعشرين من شهر تشرين الأول عام 1931 حصل جلادت بدرخان على رخصة وامتياز لإصدار مجلة “هاوار” من وزارة الداخلية في سورية تحت الرقم /6224/. وفي الخامس عشر من شهر أيار عام 1932م قدم العدد الأول من المجلة الى مطبعة الترقي بدمشق واستمر صدورها حتى تاريخ اليوم الخامس عشر من شهر آب عام 1943م وفي هذه الأعوام بلغت الأعداد الصادر من “هاوار” /57/ سبعة وخمسين عدداً. والجدير بالذكر أن “هاوار” كانت مجلة اجتماعية- أدبية- ثقافية. يقول عنها جلادت بدرخان: “إن مجلة “هاوار” هي صوت المعرفة.. معرفة الذات… معرفة الذات هي سبيلنا الى الخلاص والفلاح، طريقنا الى الرفاهية والرخاء”.
كانت الغاية من صدور هذه المجلة من اسمى الغايات وهي إغناء الأدب الكردي والثقافة الكردية، والدعوة الى تبني هذه الحروف الجديدة والكتابة. واضافة الى جريدة “هاوار” أصدر جلادت بدرخان مجلة “روناهي”. دام صدورها منذ اليوم الأول من شهر نيسان عام 1942م حتى عام 1945م وبلغت اعدادها ثمانية وعشرين عدداً. كانت مجلة “روناهي” صحيفة شهرية تصدر باللغة الكردية اللهجة الكرمانجية والحروف اللاتينية، وكانت تنشر على صدر صفحاتها أنباء الحرب وأحداثها بإسهاب وكثافة، وتندد بالفاشيستية والنازية. وكان جلادت بدرخان يحاول بث أفكار عن الديمقراطية في صحيفته ونشرها في أذهان الناس.
كانت هاتان الصحيفتان سلاحاً لنشر الوعي والعودة الى الذات والتعريف بالهوية الكردية… وكانتا ركنين من أركان لغة الأدب الكردي. ومنذ ذلك العهد بدأت بحوث ودراسات جادة في اللغة وقواعدها وكل ما يمت إليها بصلة. وقصارى القول فإن اللغة الكردية مدينة لجلادت بدرخان في قواعدها وأبجديتها اللاتينية.
في عام 1935م تزوج جلادت من السيدة الفاضلة “روشن بدرخان”[2] التي كانت تدرّس وتعلّم في مدارس دمشق، عندئذ تحسنت أحواله المادية فتغلب على البؤس وانتقل الى بيت رحب في حي الشمسية بدمشق وبعد ثلاثة أعوام –في 21 آذارمن عام 1938م، رزقا ابنة أطلقا عليها اسم: “سينم” ، وفي 9 تشرين الثاني عام 1939م رُزقا ولدهما “جمشيد”. وقد كان لزوجته الأميرة روشن من زوجها الأول(عمر مالك حمدي) ابنة تدعى اسيمة ولدت في 15 تشرين الثاني 1930م.
كان الأمير جلادت في جميع الظروف والأحوال مثال الشفقة والحنان يستقبل الفقير والثرى على حد سواء ويخدم ذا الفاقة مثلما يخدم ضيفاً كريماً وكان على قوة جسده وعلى الرغم من رباطة جأشه الدائمة ومما لاقاه في الحياة من صدمات وخيبات متكررة مرهف الحس رقيق العاطفة وقد أغدق عليه هذا المزيج من القوة والعاطفة والحكمة مسحة من الكمال كانت تؤثر في كل من اقترب منه تأثيراً عميقاً. ومما زاد شخصيته رونقاً هو حبه للمطالعة وشغفه بالحياة الفكرية وشغفه بالحرب وكان على الرغم من الظروف المضنية التي مرت به وعلى الرغم من شظف العيش والحرمان اللذين عرفهما مراراً، مغرماً ببعض مراتع الحياة غراماً مقيماً وقد كان لَهُ وَلَهٌ بالصيد خاصة حتى انه عندما اضطر الى الاكتفاء بتلك الغرفة الصغيرة التي كانت مكتبته وغرفة استقباله ونومه ومطبخه كان يحتفظ بخادم مغن كردي يدعى (أحمد فرمان) وبكلب صيد وكان يمارس الصيد بولع لا يعرف الملل.
في هذه المرحلة الأخيرة كانت زوجته لا تألو جهداً في تقديم كل ما تستطيع من دعم له لإصدار مجلة “هاوار”. فكانت تصفف الحروف وتنضدها. لقد كانت خير معين له في نضاله وكفاحه في معترك الحياة اليومية.
كان جلادت يدرس اللغة الفرنسية في مدرسة الصنائع بدمشق منذ نهاية عام1934ولغاية 1936م ثم أصبح في 1939م محامي شركة الريجي ورئيس مفتشيها وقنع بحياة عائلية هادئة. ويُذكر أنه كان يجيد اللغة التركية والعربية والفارسية واليونانية والروسية والفرنسية والألمانية وكان ملماً بالانكليزية.
عرض على الثوار العرب في فلسطين خلال عام 1936م مساعدتهم بتقديم الرجال والسلاح فضاع اقتراحه بين الأخذ والرد وفي عام 1948 اقترح على الحكومة السورية ان يؤلف فرقة من الأكراد تعين العرب على صد هجمات خارجية فلم تأخذ الحكومة السورية باقتراحه.
بعد اندلاع نار الحرب العالمية الثانية بدأت الضغوط مرة أخرى تنهال على المثقفين الأكراد المقيمين في دمشق وفي ما بين أعوام 1943م و 1946م ألزمته السلطات الفرنسية بالإقامة الجبرية ومنعته من مغادرة دمشق. وعندما رفعتها عنه عام 1947م دعي الأمير الى ترشيح نفسه للنيابة عن الجزيرة المأهولة بالأكراد فلبى الطلب وذهب الى الجزيرة بموافقة السلطات السورية للقيام بحملته الانتخابية لكنه ما كاد يطؤها ويقضي 24 ساعة فيها حتى اعادته السلطات السورية الى دمشق مخفوراً.
ومهما يكن من شيء فلا ينبغي للمرء أن ينسى أنّ جلادت بدرخان –بالإضافة الى نضاله القومي- كان ضليعاً من اللغة وقواعدها وخبيراً بدقائقها وكان كاتباً مُجيداً وشاعراً ومترجماً فذاً… ينشر شعره وقصائده باسمه الصريح وأحياناً وأطوارا باسم مستعار ومازالت أعماله الرائعة يعاد نشرها ويقبل القراء على قراءتها بشوق كبير… وكأنها كتبت اليوم رغم مرور أكثر من خمسة وسبعين عاماً عليها.
هذا القدر الذي هيمن على أيام الأمير الأخيرة كان القدر نفس الذي رافقه منذ ولادته ووجه حياته توجيهاً لم يكن في يد احد ان يبدل شيئاً فيه فعندما ولد الأمير جلادت كانت ولادته صعبة وأمه تأبى وترفض دعوة الطبيب إلا أنه استدعى على كرهٍ منها فحكم ان الطفل قد مات قبل الولادة واستخدم الكلابة لينتزعه وسلمه للخادمة لتضعه جانباً بينما تؤدي الإسعافات اللازمة للام فبقي الطفل مهملا منسياً فترة من الزمن حتى صرخ على حين غرة فتجمع الأهل والأصحاب حوله يهللون من شدة التأثر والفرح وقد بقي اثر الكلابة في رأس الأمير حتى آخر أيامه.
لم يكن جلادت قد تعاطي الزراعة أو التجارة يوماً في حياته ولم يكن يعتقد احد من معارفه انه خلق ليكون مزارعاً او تاجراً غير ان للأقدار مشيئة غير مشيئة البشر. ففي سنة 1950 طغت حمى القطن على البلاد السورية وأخذ المزارعون وغير المزارعين يسعون الى زراعته ويحلمون ببناء ثروات عجلى بفضل تصديره فاتصل “حسين بك ايبش” الذي يملك أراض واسعة في قرية الهيجانة على بعد 35 كيلو متراً من دمشق بصديقه الأمير جلادت وعرض عليه ان يشاطره استغلال تلك الأراضي فقبل الأمير رغم ممانعة زوجته واقتضى المشروع حفر بئر كبيرة بلغ عمقها نحو 25 متراً ونصبت الآلات عليها لسحب المياه وخزنها في بركة قريبة من البئر، وكان الأمير يذهب كل يوم الى الهيجانة ليراقب الأعمال. والغريب انه منذ شهر شباط 1951م ما كان ينظر مرة الى هذه البئر تتسع وتتعمق إلا شعر بانقباض عميق حتى دعا البئر بالبئر (المقدّرة) قبل خمسة أشهرمن وفاته وكان يعنون رسائله من الهيجانة الى قرينته وأولاده بذلك الاسم وكان يتوجس ان تحمل له هذه البئر شؤماً مقدراً.
وفي الساعة التاسعة من صباح يوم 15/تموز/1951م بينما كان جلادت جالساً على حافة بركة الماء المجاورة للبئر إذا بانفجار عنيف مفاجئ يحصل في بركة الماء نتيجة للضغط فتتدفق المياه بغزارة وتهدم الجدار الذي كان جلادت واقفاً عليه وتجرفه مع الحجارة والتراب الى البئر فلا يعي جلادت إلا وهو في قبضة (البئر المقدرة) التي كان قلبه يحذره منها منذ أشهر.
بقي الأمير في قعر البئر فترة من الزمن قبل ان وصول النجدة فنقل الى المستشفى الفرنسي بدمشق وكانت صورة بئر المقدرة ماثلة أمامه مع انه لم يكن يعلم ان حالتها تأذن بالخطر الداهم. على انه لم يمكث في المستشفى أكثر من بضع ساعات حتى فارقته الروح، وعندما وصلت زوجته بناء على مخابرة هاتفية وجدته جثة هامدة.
وقد قوبل النبأ المفجع في مختلف أوساط البلاد بالحزن العميق والأسى البالغ لما كان يتمتع به الفقيد من صفات علمية واسعة أحلته محل الاحترام من نفوس معارفه واصحابه ومزايا خليقة رفيعة أنزلته أسمى منازل المحبة والود من قلوب أصدقائه. وقد احتفل بتشييع جثمانه بعد ظهر يوم الأثنين الواقع في 16/تموز/1951م بموكب مهيب تقدمته عشرات أكاليل الزهر ومشى فيه بعض الوزراء والوزراء السابقين وكبار ضباط الجيش ورجال السياسة وعلماء الدين ووجهاء المدينة وشبابها وطلابها[3].
وفي تمام الساعة الرابعة من بعد ظهر يوم الاثنين الواقع في 16/تموز/1951م وبعد ان صلى على جثمانه في مسجد الشيخ محي الدين واصل الموكب سيره في حي الأكراد حتى مقبرة الشيخ خالد النقشبندي حيث أودع مقره الأخير. دفن في المقبرة التي دفن فيها جده الأمير الكبير: بدرخان.
وعلى شاهدة قبره نقشت أبيات من شعر صديقه الشاعر قدري جان.
أمير الأكراد وابن كردستان البار
حفيد بدرخان صاحب العزائم
جلادت… ذو التضحيات
وان كان جسمه مدفوناً هنا
إلا ان روحه صعدت الى السماء
في سبيل الوطن
صاحب العهد والميثاق
جعل روحه قرباناً
لم يمت هو خالد واسمه ابدي.
من أعماله:
ما عدا عن مجلتيه القيمتين(هاوار و روناهي).
يذكر الباحث مالميسانز في كتابه “البدرخانيون في جزيرة بوطان” الصفحة181 لائحة بأسماء كتب ومؤلفات هي لثريا وكاميران وجلادت بدرخان منها المترجمة ومنها المؤلفة لا نعرف فيما إذا كانت قد نشرت أم لا؟.” 1-الى أخوة الدين: يشرح الكارثة الواقعة في روملي بلغة واضحة ألفه جلادت وكاميران بدرخان. 2-سلطنة الأدب: عبارة عن أربعة أجزاء يتضمن الجزء الأول القصائد والجزء الثاني النثر والجزء الثالث المقاطع- الرباعيات والجزء الرابع الأبيات. 3- الزفاف: يتألف من جزئين، يتضمن الجزء الأول القصائد والجزء الثاني الشعر النثري وهو للشاعر كاميران بدرخان. 4- الوظائف الاجتماعية للمرأة: تأليف آنا لامبربر، ترجمة: ثريا بدرخان. 5-الانفعالات أمام الكوارث: مبدع ومترجم أنها صرخات أدبية ووطنية للمؤلفين كاميران وجلادت بدرخان. 6-حكومة العزيزي الكردية: ثريا بدرخان و كاميران بدرخان. 7-شرارات المحاصرة: انها شرارات من النار الحقيقية لمؤلفه جلادت بدرخان بك. 8-مجرمو السيارة في محاكمة سان (sen) في باريس –لثريا بدرخان بك”.
–حقيقة سقوط أدرنة، عام 1913م، بالتعاون مع أخيه كاميران بدرخان.
–قواعد الألفباء الكردية: طبع هذا الكتيب ضمن سلسلة (مكتبة هاوار)-1- عام 1932، في دمشق، تحت اسمه المستعار (هراكول آزيزان).
–صفحات من الألفباء: طبع هذا الكتيب ضمن سلسلة (مكتبة هاوار)-2- عام 1932، دمشق.
–المولد النبوي: كتب الأمير جلادت مقدمة لهذا الكتاب، ونشرها عام 1933 في دمشق.
–صلوات اليزيديين: كتب الأمير جلادت مقدمة لهذا الكتاب، ونشرها عام 1933-دمشق.
–رسالة الى حضرة الغازي مصطفى كمال باشا: ألفها جلادت بالتركية، وطبعها عام 1933 تحت سلسلة (مكتبة هاوار) العدد(6). ترجمة الى العربية: روشن بدرخان. الناشر: دلاور زنكي.
–حول المسألة الكردية: ألفها جلادت بالفرنسية، ونشرها عام 1934 تحت سلسلة (مكتبة هاوار) رقم(8) ترجمها ونشرها: دلاور زنكي.
–القواعد الكردية: أعدها ونشرها جلادت بالفرنسية عام 1943.
–قواعد اللغة الكردية: تأليف:جلادت بدرخان وروجر ليسكو، طبعة عام 1970 في باريس. ترجمها ونشرها: دلاور زنكي عام 1990م في دمشق.
–القاموس الكردي – الفرنسي: موجود في المعهد الكردي في باريس-غير مطبوع.
–القاموس الكردي- الكردي: مخطوط. موجود الآن لدى ابنته (سينم خان بدرخان).
–أعرف نفسك: حول هذا الكتاب، انظر مجلة (هاوار) العدد/18/.
–كتاب سينم خان: هذا الكتاب يبحث في قواعد اللغة الكردية، وخاصة انه اعد لأجل الأطفال راجع مجلة (روناهي) العدد/19/.
–هفند: مسرحية، وهي مخطوط، وقد نشرت في مجلة (هاوار) العدد/20/.
–جوني وجيمينا: قصة انكليزية ترجمها:جلادت بدرخان، الى الكردية وطبعها عام 1943 بدمشق.
الأسماء التي كتب بها الأمير جلادت بدرخان وهي:
-هراكول آزيزان.-والد جمشيد.-والد جمشيد وسينم خان.-أمير بوطان.-C.A.B -هاوار.-صاحب هاوار. روناهي.-صاحب روناهي.-القاموسي.-نيرفان.- صياد هاوار.-خبر كوهيز.-جيروك بيز.-ستران فان.- طاووس باريز.- نفيسانوكا هاوار.- نفيسانوك. سيداي كروك.
على الأغلب هناك أسماء وألقاب أخرى. ويرجع سبب اتخاذه الألقاب المذكورة الى قلة الكتاب والأدباء في ذلك العهد وكان لقلمه النصيب الأوفر في مجلتي (هاوار) و (روناهي) لهذا كان يتستر تحت أسماء مستعارة.
المصادر:
– ذكرى الأمير جلادت بدرخان (1897-1951)، منصور شليطا ويوسف ملك.
– مالميسانز: (البدرخانيون في جزيرة بوطان)، وثائق جمعية العائلة البدرخانية. ترجمة: كولبهار بدرخان ودلاور زنكي، بيروت –لبنان،1998.
– روشن بدرخان في لقاءاتي العديدة معها شخصياً.
– مجلة هاوار. النسخ الأساسية.
– إصدارات سلسلة (مكتبة هاوار).
– مذكرات جلادت بدرخان (1893-1951)م، جمع واعداد: دلاور زنكي، مطبعة: آميرال. بيروت –لبنان،1997.
كان العثمانيون في ريب من أمر البدرخانيين لذلك كانوا يكلفونهم بالوظائف الحكومية والأعمال الرسمية وكانوا ينقلونهم من مكان الى آخر. وكان جلادت –في رفقة والده- يتنقل من مدينة الى أخرى بين النفي واستلام منصب وظيفي مثل: استانبول، اسبارطة، وأدرنه، وقونيه، ونابلس، وعكا، وسالونيك… ويتجول بينها، وهكذا أمضى أيام طفولته البريئة في حل وترحال. وهكذا كان الأمر بشأن رواتبهم المهنية تدفع حيناً وتقطع حيناً وقد استمرت الحالة تتأرجح بين الغضب والرضي لا تعرف الاستقرار فكان السلطان يرضى عنهم يوماً ويغضب يوماً.
عندما بلغ جلادت من العمر ثمانية عشر عاماً انتسب الى الكلية الحربية وتابع فيها دراسته ولما تخرّج منها بصفة ضابط التحق بالجيش العثماني في حرب القفقاس وحروب البلقان.
كتب جلادت بدرخان في مجلته “روناهي” العدد/25/ الصادر عام 1944م أنه كان في عام 1917م قد التحق بإحدى الوحدات العسكرية العثمانية التي ترابط قريباً من بحيرة “أورميا” برتبة ضابط.
بدأ جلادت وأخوه كاميران بالكتابة في سن مبكرة، وهذا ما نلاحظه من خلال التاريخ الذي نشر فيه كتاب “حقيقة سقوط أدرنة” عام (1913)م. هذا يعني أنهما عندما أعدا هذا الكتاب لم يكونا قد تجاوزا عشرين سنة من عمرهما.
في عام 1919 توجه جلادت عالي بدرخان و أخوه كاميران و أكرم جميل باشا وفائق توفيق الى كردستان والى جانبهم الضابط السياسي الانكليزي الذائع الصيت: “الميجر ادوارد نوئيل”. للوقوف على مطالب الشعب الكردي. وما إذا كان الأكراد قادرين على حمل مسؤولياتهم قبل أن تعقد جلسة معاهدة (سيفر)[1] بين الحلفاء والحكومة العثمانية. في البدء ذهبوا الى “ملاطية” والتقوا بالزعماء ورؤساء العشائر وكبار القوم ولكن كمال باشا كان أكثر دهاء فقطع عليهم الطريق إذ اتصل بأولئك الزعماء والرؤساء ووعدهم مواعيد كاذبة بمنحهم المناصب والأموال ونجح في خداعهم وفي الوقت نفسه أرسل جنوده على ظهور الخيول الى المنطقة لردع كل من يحاول انتفاضة أو تمرداً، فلم تثمر جهود الأمير واضطر الى التقهقر بعد ما لقي من غدر العثمانيين وخذلان العشائر له شيئاً كثيراً.
في هذه المرحلة تحديداً تكونت لديه فكرة تأليف ألف باء بالأحرف اللاتينية و لمعرفة كيفية اعداده للألفباء الكردية، لابد من العودة الى كتابه المطبوع في دمشق،(صفحات من الألفباء) ضمن سلسلة مطبوعات هاوار عدد(2) عام 1932م يقول في مقدمته: “في عام 1919م توغلنا في عمق جبال “ملاطية” ودخلنا بين عشيرة “رشوان” وكان الميجر نوئيل الانكليزي يصطحبنا وهو الذي كان ملماً باللهجات الكردية-(الصورانية) ويرغب في تعلم اللهجة الشمالية (الكرمانجية). وكنا نصغي الى الناس وننقل عنهم الأمثال والطرائف والقصص وندونها ثم يعود كل منا الى قراءة ما كتبناه وتنقيحه وتهذيبه إن كان بحاجة الى ذلك. ولفت نظري أن الميجر الانكليزي كان يقرأ ما دوّنه بلكنة أجنبية ولكنه كان يقرأ كتابته بسهولة واضحة. أما أنا فكنت أجد مشقة كبيرة في لفظ الأحرف الصوتية وتمييز الحرف (î ) من الحرف (ê ) وحرف الـ(o ) من حرف الـ (û ) الخ. إلا إنني كنت أحرر كتاباتي بالأحرف العربية؟. وهذا الرجل الانكليزي يستخدم الحروف اللاتينية؟ وعندئذ أدركت السبب وقررت بيني وبين نفسي أن أضع أبجدية بالحروف اللاتينية واستخدامها في الكتابة الكردية.
كان من نتائج الحرب الكونية الأولى سقوط الإمبراطورية العثمانية، ثم نهوض الشعوب التي كانت تحت هيمنتها وظهور الحركات الثورية الداعية إلى إطلاق الحريات. وفي هذه الظروف نشط جلادت في الاتصال بالعشائر الكردية وحضها على التوحد وجمع الصفوف ساعياً إلى رفع الجور عن الأكراد. ولكن العنصريين الأتراك في حزب “الاتحاد التركي” في كافة أرجاء الأناضول ازدادوا شراسة وعدوانية بعد تردي الإمبراطورية العثمانية وجرت على أيديهم مجازر ومذابح جماعية للأرمن والأكراد. وفي هذه الفترة أصدر العنصريون أحكاماً جائرة لتبديد الأسرة البدرخانية وتشتيتها، ولهذا رأينا جلادت بدرخان وأخاه كاميران يسيران على طريق منفى جديد، ومستقبل غامض ومجهول.
بعد أن احتل الكماليون مدينة استانبول وأخضعوها لنفوذهم وسلطانهم عام 1922م قرروا القضاء على القوميين الأكراد وفي اللائحة اسم جلادت بدرخان وفي هذه الأثناء لجأ الأمير وشقيقه كاميران الى ألمانيا وهناك بيّن جلادت سبب فرارهما للمستشرق “كارل سوسهايم” الذي اصدر كتاباً فيما بعد ذكر فيه: ان جلادت كان يقوم بالدور الإعلامي للتحرر الكردي وكان هو وكافة البدرخانيين يحتلون المراكز القيادية في كل الحركات الثورية وقد ذكر لي أن أفراداً من العائلة البدرخانية عبروا الحدود الإمبراطورية العثمانية عن طريق الموصل وشاركوا في انتفاضة في ذلك الإقليم. وأنّ محكمة “سيواس” كانت قد أصدرت قراراً بإعدامه. يستأنف المستشرق “سوسهايم” القول: إن العثمانيين والأتراك كانوا يتجنبون جلادت ويتهربون من مخالطته بسبب ذاك الحكم الصادر عن محكمة “سيواس”. في تلك الأعوام الثلاثة اهتم باللغة الألمانية وانكب على دراستها. ولاسيما الجوانب الأدبية والتركيبية. وعندما ذهب الى سورية واستقر هناك في دمشق ألّف بعض الكتب مثل “ألف باء” و “النحو والقواعد الإملائية” بناءً على أسس علمية وبحوث دقيقة اكتسبها في ألمانيا. يقول جلادت في مجلة “هاوار”: “إنّ وحدة الشعوب تبدأ بوحدة اللغة كان “بسمارك” قد وجد توحيد اللغة الألمانية شرطاً لاتحاد ألمانيا”. وتمت هذه الوحدة على يد “لوثر” وترسخت. ولا تتم وحدة الأكراد إلا بوحدة لغتهم… ولا تتوحد اللغة إلا بتوحيد حروف الكتابة أي أن الخطوة الأولى نحو توحيد اللغة هي وحدة الحروف وبها يبدأ هذا التوحيد.
عندما تفجرّت ثورة الشيخ سعيد “بيران” عام 1925م تخلى جلادت عن كل مهامه وأعماله وترك كل شيء رغبة في الالتحاق بالثورة، ولكن- واأسفاه- عندما وصل الى كردستان كانت الثورة قد أخفقت وانطفأ أوارها. فعاد سراً الى ألمانيا وبالتزامن مع هذا الحدث توفي شقيقه: صفدار في ألمانيا بعد معاناة المرض. أما أخوه الآخر: توفيق فقد قضى على نفسه بعد أن وثق بالكماليين واستسلم لهم فغدروا به وقتلوه. أما كاميران فأنهى دراسته القانون وحصل على شهادة الدكتوراه في الحقوق، ولكن جلادت لم يجد الفرصة سانحة لمتابعة الدراسة ونيل “الدكتوراه” لأن والده كان مريضاً في القاهرة فسافر اليها لعيادة والده المريض الذي توفي عام 1926م. وبعد وفاة والده توجه الى بيروت وحل ضيفاً على دار عمه: خليل رامي بدرخان. وفي تلك الأيام كان كثيرون من المثقفين والمتنورين الأكراد قد تجمعوا في مدينة بيروت فاختلط بهم وشاركهم في اجتماعاتهم، كما اختلط بالأكراد في سورية.
في الخامس من أيلول عام 1927م. عُقد في مدينة “بحمدون” اللبنانية اجتماع لتأسيس جمعية “خويبون” التي من كان أهدافها مناصرة ودعم ثورة آرارات من أراضي الجزيرة (السورية) والاشتراك في العمليات العسكرية ولكنّ الثورة لم تفلح فلجأ الى ايران وفي ايران حاول شاه ايران: محمد بهلوي تنحيته وإبعاده عن المسائل القومية فأغراه بإسناد منصب “قنصل” إليه في إحدى الدول التي يرغب فيها من العالم، ولكنه لم يلبِّ طلب الشاه ولم يحقق رغبته فأُخرِجَ من الأراضي الإيرانية. فعاد الى كردستان الجنوبية ومكث فيها أمداً ثم سافر الى العراق وأقام فيها مدة ولكن الانكليز كرهوا إقامته في بغداد فلم يسلم من مضايقاتهم. فغادر الى بيروت وأقام هناك وفي 16/4/1929م انتسب الى نقابة المحامين وحصل على إجازة في ممارسة مهنة “المحاماة” ويبدو أنه باشر كتابة مذكراته بتاريخ 16/8/1929م وهو في بيروت.
من أجل العمل السياسي وتوسيع دائرة النضال عاد الى سورية، حيث أنضم الى أعضاء من عائلة جميل باشا وحمزة بك مكسي وحاجو آغا وأسسوا جمعية باسم “الجمعية الكردية لمساعدة بؤساء الكرد” ومقرها في الحسكة، وكانت الغاية من إنشاء هذه الجمعية هي إغاثة أولئك الأكراد الملهوفين النازحين من الشمال، وكانت سورية في ذلك العهد تحت الوصاية الفرنسية، وكانت العلاقات بين فرنسا والكماليين طيبة ووطيدة، وبسبب الضغوط التركية المتكررة لم تكن الحكومة الفرنسية ترغب في السماح له بالمكوث في المناطق الحدودية.
في 25 شهر آب من عام 1930م أذنت حكومة الانتداب له مع لفيف من المثقفين الأكراد بالإقامة في دمشق بعد بذل جهود مضنية وحثيثة. كانت الحركات السياسية العقيمة التي لم تثمر يوماً والدول المحدقة بكردستان قد غيرت وجهة سير جلادت بدرخان. وكانت أوضاع المنطقة لا تأذن للأكراد بالتحالف مع دول ذات نفوذ، كما لم تأذن لهم بالإعداد لقيام ثورة أو انتفاضة قومية. إضافة الى أسباب أخرى. عندما استقر جلادت في سوريا لم يكن له أيّ مورد مالي وقد كانت الدولة العثمانية توقفت عن دفع التعويض له عن ممتلكات العائلة منذ تسلم اتاتورك الحكم واستبدل التعويض ببدل هزيل عن الملكية نفسها فعرضت عليه دولة فرنسا المنتدبة نفقة خاصة فرفضها ليبقي حياته حرة من كل قيد مكرسة تكريساً كلياً للقضية الكردية.
تأكَّد لـ جلادت وهو في دمشق أن الأكراد- بشكل عام- تنقصهم المعرفة وبحاجة الى القراءة والكتابة وتلقيِّ العلوم، ورأى أن تحرير كردستان لن يكون متاحاً قبل يقظة الشعب الكردي كله والالتفات الى قضيته الوطنية والقومية فكان يقول:” لو أن الشعب الكردي تعلم القراءة والكتابة لاستطاع رؤية أحواله البائسة وتذوق مرارة عيشه ومتى وصل الى هذه الدرجة من الوعي والفطنة سَهُل عليه الاحتيال لذلك، وتغيير أحواله تغييراً جذرياً. وقد كان يشعر دوماً ان سلالته المجيدة تضع على عاتقه مسؤولية خاصة ويرى انه لا يمكن له ان يسعد في الحياة بينما أكثرية أبناء قومه يعانون الحرمان والظلم حتى أنهم لا تتاح لهم الحرية في استعمال لغتهم.
إن جلادت يدرك جيداً أن البلوغ بالأكراد الى هذه الدرجة من الوعي واليقظة يحتاج الى عمل دؤوب وبذل جهود كبيرة وتحمل المشقة، وهذا الوعي لا يتأتى ولا يتسنى إلا عن طريق تعلم لغة الشعب الكردي. وأن الشعب الكردي يمكن أن يكون متماسكاً وموحداً متى تعلم لغته الكردية… لغته القومية، وعندئذ سوف يشعر بوجوده القومي المستقل، ولكي نستطيع توحيد اللغة الكردية فإننا نفتقر الى أبجدية واحدة تكون حجر أساس في هيكل اللغة الكردية.
وبناءً على هذه الرؤية وضع جلادت أبجدية بالأحرف اللاتينية التي تلائم اللغة الكردية عام 1919م ولتعميم هذه الحروف وترسيخ الكتابة بها أصدر مجلة “هاوار” عام 1932م .
يقول جلادت بدرخان في مجلة “هاوار” بعد أن أرسى قواعد الالفباء اللاتينية متحدثاً عن الأبجدية التي صاغها: ولما كانت الحكومة السورية في دمشق قد منعتنا من التحرك، تفرغت للعمل الثقافي وانكفأت- ليلاً نهاراً- على البحث في قواعد اللغة وأبجديتها.
كان الأمير جلادت في تلك الفترة يقيم في غرفة ضيقة رطبة في طابق أرضي كائن في حي الشهداء، طريق الصالحية، فيستعمل تلك الغرفة مكتبة وقاعة استقبال وغرفة نوم وداراً للتحرير في آن واحد وكان يكتب جميع المقالات ويوقعها بأسماء مستعارة مختلفة ثم ينضدها بنفسه ويحملها الى المطبعة ويقوم بعد ذلك بتوزيع المجلة بنفسه. وكانت حياته الخاصة حياة حرمان دائم فلم يكن له من مورد سوى العطايا اليسيرة التي كان يجود بها الأكراد وفقاً لتقاليد العشائر إزاء أمرائها في كل عام اعترافاً منها بفضلهم وإظهارا لاحترامهم.
كان جلادت يحاول حث الأكراد على كتابة قصائدهم وقصصهم وحكاياتهم وآدابهم الشعبية والتعبير عن آلامهم وأحلامهم وآمالهم وتاريخهم بلغتهم القومية وليس باللغات الأخرى.
في اليوم السادس والعشرين من شهر تشرين الأول عام 1931 حصل جلادت بدرخان على رخصة وامتياز لإصدار مجلة “هاوار” من وزارة الداخلية في سورية تحت الرقم /6224/. وفي الخامس عشر من شهر أيار عام 1932م قدم العدد الأول من المجلة الى مطبعة الترقي بدمشق واستمر صدورها حتى تاريخ اليوم الخامس عشر من شهر آب عام 1943م وفي هذه الأعوام بلغت الأعداد الصادر من “هاوار” /57/ سبعة وخمسين عدداً. والجدير بالذكر أن “هاوار” كانت مجلة اجتماعية- أدبية- ثقافية. يقول عنها جلادت بدرخان: “إن مجلة “هاوار” هي صوت المعرفة.. معرفة الذات… معرفة الذات هي سبيلنا الى الخلاص والفلاح، طريقنا الى الرفاهية والرخاء”.
كانت الغاية من صدور هذه المجلة من اسمى الغايات وهي إغناء الأدب الكردي والثقافة الكردية، والدعوة الى تبني هذه الحروف الجديدة والكتابة. واضافة الى جريدة “هاوار” أصدر جلادت بدرخان مجلة “روناهي”. دام صدورها منذ اليوم الأول من شهر نيسان عام 1942م حتى عام 1945م وبلغت اعدادها ثمانية وعشرين عدداً. كانت مجلة “روناهي” صحيفة شهرية تصدر باللغة الكردية اللهجة الكرمانجية والحروف اللاتينية، وكانت تنشر على صدر صفحاتها أنباء الحرب وأحداثها بإسهاب وكثافة، وتندد بالفاشيستية والنازية. وكان جلادت بدرخان يحاول بث أفكار عن الديمقراطية في صحيفته ونشرها في أذهان الناس.
كانت هاتان الصحيفتان سلاحاً لنشر الوعي والعودة الى الذات والتعريف بالهوية الكردية… وكانتا ركنين من أركان لغة الأدب الكردي. ومنذ ذلك العهد بدأت بحوث ودراسات جادة في اللغة وقواعدها وكل ما يمت إليها بصلة. وقصارى القول فإن اللغة الكردية مدينة لجلادت بدرخان في قواعدها وأبجديتها اللاتينية.
في عام 1935م تزوج جلادت من السيدة الفاضلة “روشن بدرخان”[2] التي كانت تدرّس وتعلّم في مدارس دمشق، عندئذ تحسنت أحواله المادية فتغلب على البؤس وانتقل الى بيت رحب في حي الشمسية بدمشق وبعد ثلاثة أعوام –في 21 آذارمن عام 1938م، رزقا ابنة أطلقا عليها اسم: “سينم” ، وفي 9 تشرين الثاني عام 1939م رُزقا ولدهما “جمشيد”. وقد كان لزوجته الأميرة روشن من زوجها الأول(عمر مالك حمدي) ابنة تدعى اسيمة ولدت في 15 تشرين الثاني 1930م.
كان الأمير جلادت في جميع الظروف والأحوال مثال الشفقة والحنان يستقبل الفقير والثرى على حد سواء ويخدم ذا الفاقة مثلما يخدم ضيفاً كريماً وكان على قوة جسده وعلى الرغم من رباطة جأشه الدائمة ومما لاقاه في الحياة من صدمات وخيبات متكررة مرهف الحس رقيق العاطفة وقد أغدق عليه هذا المزيج من القوة والعاطفة والحكمة مسحة من الكمال كانت تؤثر في كل من اقترب منه تأثيراً عميقاً. ومما زاد شخصيته رونقاً هو حبه للمطالعة وشغفه بالحياة الفكرية وشغفه بالحرب وكان على الرغم من الظروف المضنية التي مرت به وعلى الرغم من شظف العيش والحرمان اللذين عرفهما مراراً، مغرماً ببعض مراتع الحياة غراماً مقيماً وقد كان لَهُ وَلَهٌ بالصيد خاصة حتى انه عندما اضطر الى الاكتفاء بتلك الغرفة الصغيرة التي كانت مكتبته وغرفة استقباله ونومه ومطبخه كان يحتفظ بخادم مغن كردي يدعى (أحمد فرمان) وبكلب صيد وكان يمارس الصيد بولع لا يعرف الملل.
في هذه المرحلة الأخيرة كانت زوجته لا تألو جهداً في تقديم كل ما تستطيع من دعم له لإصدار مجلة “هاوار”. فكانت تصفف الحروف وتنضدها. لقد كانت خير معين له في نضاله وكفاحه في معترك الحياة اليومية.
كان جلادت يدرس اللغة الفرنسية في مدرسة الصنائع بدمشق منذ نهاية عام1934ولغاية 1936م ثم أصبح في 1939م محامي شركة الريجي ورئيس مفتشيها وقنع بحياة عائلية هادئة. ويُذكر أنه كان يجيد اللغة التركية والعربية والفارسية واليونانية والروسية والفرنسية والألمانية وكان ملماً بالانكليزية.
عرض على الثوار العرب في فلسطين خلال عام 1936م مساعدتهم بتقديم الرجال والسلاح فضاع اقتراحه بين الأخذ والرد وفي عام 1948 اقترح على الحكومة السورية ان يؤلف فرقة من الأكراد تعين العرب على صد هجمات خارجية فلم تأخذ الحكومة السورية باقتراحه.
بعد اندلاع نار الحرب العالمية الثانية بدأت الضغوط مرة أخرى تنهال على المثقفين الأكراد المقيمين في دمشق وفي ما بين أعوام 1943م و 1946م ألزمته السلطات الفرنسية بالإقامة الجبرية ومنعته من مغادرة دمشق. وعندما رفعتها عنه عام 1947م دعي الأمير الى ترشيح نفسه للنيابة عن الجزيرة المأهولة بالأكراد فلبى الطلب وذهب الى الجزيرة بموافقة السلطات السورية للقيام بحملته الانتخابية لكنه ما كاد يطؤها ويقضي 24 ساعة فيها حتى اعادته السلطات السورية الى دمشق مخفوراً.
ومهما يكن من شيء فلا ينبغي للمرء أن ينسى أنّ جلادت بدرخان –بالإضافة الى نضاله القومي- كان ضليعاً من اللغة وقواعدها وخبيراً بدقائقها وكان كاتباً مُجيداً وشاعراً ومترجماً فذاً… ينشر شعره وقصائده باسمه الصريح وأحياناً وأطوارا باسم مستعار ومازالت أعماله الرائعة يعاد نشرها ويقبل القراء على قراءتها بشوق كبير… وكأنها كتبت اليوم رغم مرور أكثر من خمسة وسبعين عاماً عليها.
هذا القدر الذي هيمن على أيام الأمير الأخيرة كان القدر نفس الذي رافقه منذ ولادته ووجه حياته توجيهاً لم يكن في يد احد ان يبدل شيئاً فيه فعندما ولد الأمير جلادت كانت ولادته صعبة وأمه تأبى وترفض دعوة الطبيب إلا أنه استدعى على كرهٍ منها فحكم ان الطفل قد مات قبل الولادة واستخدم الكلابة لينتزعه وسلمه للخادمة لتضعه جانباً بينما تؤدي الإسعافات اللازمة للام فبقي الطفل مهملا منسياً فترة من الزمن حتى صرخ على حين غرة فتجمع الأهل والأصحاب حوله يهللون من شدة التأثر والفرح وقد بقي اثر الكلابة في رأس الأمير حتى آخر أيامه.
لم يكن جلادت قد تعاطي الزراعة أو التجارة يوماً في حياته ولم يكن يعتقد احد من معارفه انه خلق ليكون مزارعاً او تاجراً غير ان للأقدار مشيئة غير مشيئة البشر. ففي سنة 1950 طغت حمى القطن على البلاد السورية وأخذ المزارعون وغير المزارعين يسعون الى زراعته ويحلمون ببناء ثروات عجلى بفضل تصديره فاتصل “حسين بك ايبش” الذي يملك أراض واسعة في قرية الهيجانة على بعد 35 كيلو متراً من دمشق بصديقه الأمير جلادت وعرض عليه ان يشاطره استغلال تلك الأراضي فقبل الأمير رغم ممانعة زوجته واقتضى المشروع حفر بئر كبيرة بلغ عمقها نحو 25 متراً ونصبت الآلات عليها لسحب المياه وخزنها في بركة قريبة من البئر، وكان الأمير يذهب كل يوم الى الهيجانة ليراقب الأعمال. والغريب انه منذ شهر شباط 1951م ما كان ينظر مرة الى هذه البئر تتسع وتتعمق إلا شعر بانقباض عميق حتى دعا البئر بالبئر (المقدّرة) قبل خمسة أشهرمن وفاته وكان يعنون رسائله من الهيجانة الى قرينته وأولاده بذلك الاسم وكان يتوجس ان تحمل له هذه البئر شؤماً مقدراً.
وفي الساعة التاسعة من صباح يوم 15/تموز/1951م بينما كان جلادت جالساً على حافة بركة الماء المجاورة للبئر إذا بانفجار عنيف مفاجئ يحصل في بركة الماء نتيجة للضغط فتتدفق المياه بغزارة وتهدم الجدار الذي كان جلادت واقفاً عليه وتجرفه مع الحجارة والتراب الى البئر فلا يعي جلادت إلا وهو في قبضة (البئر المقدرة) التي كان قلبه يحذره منها منذ أشهر.
بقي الأمير في قعر البئر فترة من الزمن قبل ان وصول النجدة فنقل الى المستشفى الفرنسي بدمشق وكانت صورة بئر المقدرة ماثلة أمامه مع انه لم يكن يعلم ان حالتها تأذن بالخطر الداهم. على انه لم يمكث في المستشفى أكثر من بضع ساعات حتى فارقته الروح، وعندما وصلت زوجته بناء على مخابرة هاتفية وجدته جثة هامدة.
وقد قوبل النبأ المفجع في مختلف أوساط البلاد بالحزن العميق والأسى البالغ لما كان يتمتع به الفقيد من صفات علمية واسعة أحلته محل الاحترام من نفوس معارفه واصحابه ومزايا خليقة رفيعة أنزلته أسمى منازل المحبة والود من قلوب أصدقائه. وقد احتفل بتشييع جثمانه بعد ظهر يوم الأثنين الواقع في 16/تموز/1951م بموكب مهيب تقدمته عشرات أكاليل الزهر ومشى فيه بعض الوزراء والوزراء السابقين وكبار ضباط الجيش ورجال السياسة وعلماء الدين ووجهاء المدينة وشبابها وطلابها[3].
وفي تمام الساعة الرابعة من بعد ظهر يوم الاثنين الواقع في 16/تموز/1951م وبعد ان صلى على جثمانه في مسجد الشيخ محي الدين واصل الموكب سيره في حي الأكراد حتى مقبرة الشيخ خالد النقشبندي حيث أودع مقره الأخير. دفن في المقبرة التي دفن فيها جده الأمير الكبير: بدرخان.
وعلى شاهدة قبره نقشت أبيات من شعر صديقه الشاعر قدري جان.
أمير الأكراد وابن كردستان البار
حفيد بدرخان صاحب العزائم
جلادت… ذو التضحيات
وان كان جسمه مدفوناً هنا
إلا ان روحه صعدت الى السماء
في سبيل الوطن
صاحب العهد والميثاق
جعل روحه قرباناً
لم يمت هو خالد واسمه ابدي.
من أعماله:
ما عدا عن مجلتيه القيمتين(هاوار و روناهي).
يذكر الباحث مالميسانز في كتابه “البدرخانيون في جزيرة بوطان” الصفحة181 لائحة بأسماء كتب ومؤلفات هي لثريا وكاميران وجلادت بدرخان منها المترجمة ومنها المؤلفة لا نعرف فيما إذا كانت قد نشرت أم لا؟.” 1-الى أخوة الدين: يشرح الكارثة الواقعة في روملي بلغة واضحة ألفه جلادت وكاميران بدرخان. 2-سلطنة الأدب: عبارة عن أربعة أجزاء يتضمن الجزء الأول القصائد والجزء الثاني النثر والجزء الثالث المقاطع- الرباعيات والجزء الرابع الأبيات. 3- الزفاف: يتألف من جزئين، يتضمن الجزء الأول القصائد والجزء الثاني الشعر النثري وهو للشاعر كاميران بدرخان. 4- الوظائف الاجتماعية للمرأة: تأليف آنا لامبربر، ترجمة: ثريا بدرخان. 5-الانفعالات أمام الكوارث: مبدع ومترجم أنها صرخات أدبية ووطنية للمؤلفين كاميران وجلادت بدرخان. 6-حكومة العزيزي الكردية: ثريا بدرخان و كاميران بدرخان. 7-شرارات المحاصرة: انها شرارات من النار الحقيقية لمؤلفه جلادت بدرخان بك. 8-مجرمو السيارة في محاكمة سان (sen) في باريس –لثريا بدرخان بك”.
–حقيقة سقوط أدرنة، عام 1913م، بالتعاون مع أخيه كاميران بدرخان.
–قواعد الألفباء الكردية: طبع هذا الكتيب ضمن سلسلة (مكتبة هاوار)-1- عام 1932، في دمشق، تحت اسمه المستعار (هراكول آزيزان).
–صفحات من الألفباء: طبع هذا الكتيب ضمن سلسلة (مكتبة هاوار)-2- عام 1932، دمشق.
–المولد النبوي: كتب الأمير جلادت مقدمة لهذا الكتاب، ونشرها عام 1933 في دمشق.
–صلوات اليزيديين: كتب الأمير جلادت مقدمة لهذا الكتاب، ونشرها عام 1933-دمشق.
–رسالة الى حضرة الغازي مصطفى كمال باشا: ألفها جلادت بالتركية، وطبعها عام 1933 تحت سلسلة (مكتبة هاوار) العدد(6). ترجمة الى العربية: روشن بدرخان. الناشر: دلاور زنكي.
–حول المسألة الكردية: ألفها جلادت بالفرنسية، ونشرها عام 1934 تحت سلسلة (مكتبة هاوار) رقم(8) ترجمها ونشرها: دلاور زنكي.
–القواعد الكردية: أعدها ونشرها جلادت بالفرنسية عام 1943.
–قواعد اللغة الكردية: تأليف:جلادت بدرخان وروجر ليسكو، طبعة عام 1970 في باريس. ترجمها ونشرها: دلاور زنكي عام 1990م في دمشق.
–القاموس الكردي – الفرنسي: موجود في المعهد الكردي في باريس-غير مطبوع.
–القاموس الكردي- الكردي: مخطوط. موجود الآن لدى ابنته (سينم خان بدرخان).
–أعرف نفسك: حول هذا الكتاب، انظر مجلة (هاوار) العدد/18/.
–كتاب سينم خان: هذا الكتاب يبحث في قواعد اللغة الكردية، وخاصة انه اعد لأجل الأطفال راجع مجلة (روناهي) العدد/19/.
–هفند: مسرحية، وهي مخطوط، وقد نشرت في مجلة (هاوار) العدد/20/.
–جوني وجيمينا: قصة انكليزية ترجمها:جلادت بدرخان، الى الكردية وطبعها عام 1943 بدمشق.
الأسماء التي كتب بها الأمير جلادت بدرخان وهي:
-هراكول آزيزان.-والد جمشيد.-والد جمشيد وسينم خان.-أمير بوطان.-C.A.B -هاوار.-صاحب هاوار. روناهي.-صاحب روناهي.-القاموسي.-نيرفان.- صياد هاوار.-خبر كوهيز.-جيروك بيز.-ستران فان.- طاووس باريز.- نفيسانوكا هاوار.- نفيسانوك. سيداي كروك.
على الأغلب هناك أسماء وألقاب أخرى. ويرجع سبب اتخاذه الألقاب المذكورة الى قلة الكتاب والأدباء في ذلك العهد وكان لقلمه النصيب الأوفر في مجلتي (هاوار) و (روناهي) لهذا كان يتستر تحت أسماء مستعارة.
المصادر:
– ذكرى الأمير جلادت بدرخان (1897-1951)، منصور شليطا ويوسف ملك.
– مالميسانز: (البدرخانيون في جزيرة بوطان)، وثائق جمعية العائلة البدرخانية. ترجمة: كولبهار بدرخان ودلاور زنكي، بيروت –لبنان،1998.
– روشن بدرخان في لقاءاتي العديدة معها شخصياً.
– مجلة هاوار. النسخ الأساسية.
– إصدارات سلسلة (مكتبة هاوار).
– مذكرات جلادت بدرخان (1893-1951)م، جمع واعداد: دلاور زنكي، مطبعة: آميرال. بيروت –لبنان،1997.
[1] -تتألف معاهدة “سيفر” من (13)باباً و (433)بنداً أعدتها (5)خمس لجان خاصة تفرعت من مؤتمر باريس. راجع البنود (62،63،64) عن المسألة الكردية.
[2] -كانت والدتها ووالد الأمير جلادت ابناء عم وكان يعرفها منذ عدة سنوات قبل الزواج وكانت تعاونه في نشاطه الوطني ومجلاته بفضل ثقافتها ومركزها الاجتماعي فهي كانت تحسن العربية والكردية والتركية والفرنسية والانكليزية وتتميز بأخلاق رفيعة وإرادة صلبة ومقدرة نادرة على العمل والتنظيم والإدارة.
[3] -ذكرى الأمير جلادت بدرخان، منصور شليطا و يوسف ملك، ذكرى الأولى 1951.