مأساة الفكر المحنط

فرحان مرعي

بينما كان احد الفراعنة ينظر إلى نهر الفرات وهو يجري من الشمال إلى الجنوب وقف مندهشاً وصرخ قائلاً: إن هذا النهر يجري بشكل خاطئ لأنه يجري من الشمال إلى الجنوب وهو الذي لا يعرف سوى نهر النيل الذي يجري من الجنوب إلى الشمال ولم يدرك إن لكل من النهرين قوانينه الخاصة وان كليهما يجري بشكل صائب. هكذا هي الحياة لا تعرف الثوابت والجمود فهي معاينة واختبار دائمين ولا يمكن تسخيرها من اجل الفكرة أو العقيدة حتى وان كانت عظيمة، فالإله فكرة مثلاً ومن حق كل إنسان إن يتصور هذه الفكرة بطريقته الخاصة فهو يتجلى لأشخاص مختلفين تحت إشكال متباينة يقول غاندي: ليست لدي أية رغبة في دفع أي كان إلى اعتناق ديانتي لأني أرى في شتى المفاهيم الدينية طرقاً مختلفة تؤدي إلى حقيقة واحدة فإذا كان هذه السبل انسب له شخصياً فانه يتمنى لكل فرد إن يجد الطريق الخاص الذي يستطيع عليه التقدم نحو الحقيقة سواء كان في الهندوسية أو في أي دين آخر.
إن تحنيط الفكر وتقديس الأشخاص من أكثر المعوقات في سبيل التطور البشري ولقد ابتليت البشرية خلال التاريخ بهذا الداء فقدمت على مذبح الفكرة الصالحة لكل زمان ومكان والمقدس الملايين من الأرواح البشرية، نعم ، قد تكون بعض الأفكار جميلة وجذابة ولذلك يندفع الناس نحوها اندفاعاً اعمى دون دراسة الواقع والفكرة وطبيعة البشر- دون إن يدركوا إن وعي الذات البشرية  مقدمة ضرورية لوعي الواقع و الفكرة  – فتصير عند ذلك الأفكار يوتوبيا وخيالات تتراقص في مخيلة الحالمين فيعدك احدهم مثلاً بجنة أرضية (لكل حسب حاجته) لا تقل هذه الجنة جمالاً وعدلاً عن الجنة السماوية وكأن البشر ملائكة يخلو من الغرائز والعواطف وكما لو كانوا محض عقل والآخرين يتوهمون بأنهم خير امة أخرجت للناس كما سعى نيتشة إلى الإنسان المتفوق وهتلر إلى العرق الجرماني النقي وميشيل عفلق إلى امة عربية واحدة ذات رسالة خالدة واليهود هم شعب الله المختار….. وهكذا قدمت البشرية على مذبح هذه العنصريات والمقدسات الملايين من البشر وما زال.
لا تكمن القباحات في الأفكار وإنما في طبيعة البشر ومستوى وعيهم وعصبياتهم وينسى الإنسان نفسه كثيراً ككائن عاطفي وغرائزي وعقلاني يحمل في تكوينه وماهيته النفسية والبيولوجية والفيزيولوجية جملة من التناقضات والمتضادات اللامتناهية ويرفض النمطية مهما كان النمط المراد ممارسته جميلاً وجذاباً لأنه مع مرور الزمن تفقد الأشياء جاذبيتها ورونقها وتبدأ بالتآكل الداخلي بفعل عبثية الحياة حتى الطبيعة ترفض المطلق والسكون والاستقرار الدائم فهي تغضب وتتحول وتتغير إلى حالات مادية جديدة .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

سيماڤ خالد محمد

مررتُ ذات مرةٍ بسؤالٍ على إحدى صفحات التواصل الإجتماعي، بدا بسيطاً في صياغته لكنه كان عميقاً في معناه، سؤالاً لا يُطرح ليُجاب عنه سريعاً بل ليبقى معلّقاً في الداخل: لماذا نولد بوجوهٍ، ولماذا نولد بقلوب؟

لم أبحث عن إجابة جاهزة تركت السؤال يقودني بهدوء إلى الذاكرة، إلى الإحساس الأول…

خالد بهلوي

بحضور جمهور غفير من الأخوات والإخوة الكتّاب والشعراء والسياسيين والمثقفين المهتمين بالأدب والشعر، أقام الاتحاد العام للكتّاب والصحفيين الكُرد في سوريا واتحاد كردستان سوريا، بتاريخ 20 كانون الأول 2025، في مدينة إيسين الألمانية، ندوةً بمناسبة الذكرى الخمسين لرحيل الأديب الشاعر سيدايي ملا أحمد نامي.

أدار الجلسة الأخ علوان شفان، ثم ألقى كلمة الاتحاد الأخ/ …

فراس حج محمد| فلسطين

لست أدري كم سيلزمني لأعبر شطّها الممتدّ إيغالاً إلى الصحراءْ
من سيمسك بي لأرى طريقي؟
من سيسقيني قطرة ماء في حرّ ذاك الصيف؟
من سيوصلني إلى شجرة الحور والطلع والنخلة السامقةْ؟
من سيطعمني رطباً على سغب طويلْ؟
من سيقرأ في ذاك الخراب ملامحي؟
من سيمحو آخر حرف من حروفي الأربعةْ؟
أو سيمحو أوّل حرفها لتصير مثل الزوبعة؟
من سيفتح آخر…

حاوره: طه خلو

 

يدخل آلان كيكاني الرواية من منطقة التماس الحاد بين المعرفة والألم، حيث تتحوّل التجربة الإنسانية، كما عاينها طبيباً وكاتباً، إلى سؤال مفتوح على النفس والمجتمع. من هذا الحدّ الفاصل بين ما يُختبر في الممارسة الطبية وما يترسّب في الذاكرة، تتشكّل كتابته بوصفها مسار تأمل طويل في هشاشة الإنسان، وفي التصدّعات التي تتركها الصدمة،…