وأكذبَ السيفَ إنْ لم يصدقِ الغضبُ
أيـدٍ إذا غلبـَتْ يعـلو بهـا الغَـلـَـبُ
فهمٍ سوى فهمِ كمْ باعوا وكم كسبوا
أنصافِ ناسٍ طغوا بالعلمِ واغتصبوا
شيئاً كما أكلوا الانسانَ أو شربوا
وحين وصل بقصيدته الى البيتين التاليين قامت القاعة وضجّت بمنْ فيها من التصفيق الحارّ المتواصل:
نسرٌ، وخلفَ ضلوعي يلهثُ العَرَبُ
مليحةٌ عاشقاها السُلُّ والجَرَبُ
كان للحرب العراقية الايرانية في ثمانينات القرن العشرين والتي امتدت ثماني سنوات أثر واضح في توجه الشعراء العراقيين داخل العراق الى الشعر العمودي في الكتابة والتعبير من أجل التعبئة النفسية في الحرب، مثلما كان النظام القائم حينها يرى في استراتيجيته الاعلامية ، ولذا فتح أبواب النشر والتشجيع في وسائل اعلامه لهذا اللون من القصائد لما لها من أثر كبير في النفوس اعتقاداً منه أنه بذلك يثير الحماسة في نفوس الجماهير ويحدث التأثير النفسي فيها لتعبئتها في الحرب مثلما كان يؤمن به ويعمل في أجندته السياسية والثقافية في قيادة الناس.
أتـَـخـافُ أمــواجـا ً وعــاصِــفــة ً يـا مَـنْ بـحـزنِـكَ يَـغـرَقُ الـغـَرَقُ؟
إركـبْ . . فلـيس بـِرادِع ٍ قَدَرا ً حِـرْصٌ . . ولـيس بـنـافِع ٍ حَـذق
هَـبْـكَ انـتهـيتَ صـريـعَ لـُجَّـتِـه أو جَـفَّ بـيـن عــروقِـك َ الـعَـلقُ
مــا خـُسْرُهُ من بـعد عـاصِـفة ٍ نـَـثـرَتْ طـفيءَ رمـادِهِ الـوَجَـقُ؟
الأهلُ ؟ بـاتـوا بــين مُـلتـَحِـف رمـلا ً .. ومـاش ٍ دربُـه ُ طـَـبـِق
الدارُ ؟ بـاتت رهْـنَ مُـغـتـَصِـب نــاطــورُهـا : لــصٌّ ومُـرتـَـزِقُ
(من قصيدة: إصرخ بوجه الخوف : ذا قدري)
فالأبيات مليئة بصور هي لوحات بريشة الحرف وازميل الكلمات وناي العزف وصوت المغني المغرد وانامل فنان بارع في توفير الأجواء الساحرة والصادمة والمدهشة المضمخة بعطر الأنفاس الحرّى، وأداء العالِم اللغوي المتمرس في مهنته، والبلاغي الباحث في مناجم النصوص ، والتشكيلي الحاذق في استخدام الألوان، والنحات الحافر في الصخر. تسوقه في كل هذا عواطف جياشة، وخيال بفضاء المحيط ، واسلوب بغزارة تاريخ اللغة، وفهم في كيفية ايصال ما يضطرب في نفسه الى الجمهور الواسع ، وليس المتخصص المحصور في اطار ما يراه ويريده من النص فحسب. وكل ذلك باسلوب يقترب من نفس وذائقة وادراك المتلقي عامةً.
(هتفت لك الشطآن والأفقُ): مجاز للدلالة على نداء الابحار الى الفضاء الفسيح. وفي البيت الثاني استفهام يذهب الى التعجب، وربما الاستنكار، بحسب المعنى الذي يذهب اليه الشاعر والاشارة التي يلتقطها المتلقي ويحس بها.
(يغرق الغرق): براعة فائقة وخيال خصب وشعرية عالية التوصيل ومهارة في الآلة الفنية باستخدام جمالية الجناس بمفهومه البلاغي وتوظيفه في التعبير بأجمل إشارة وأقواها بحيث يمكن بها رفع الحالة المُعبَّر عنها ونقلها الينا بنجاح، فالغرق هو غرق اي موت بحالة خنق بالماء، فكيف يغرق الغرق نفسه؟
يرمي الشاعر بذلك الى ايصال الصورة المأساوية في الاحتلال وما تبعها من كوارث بأقوى تعبير واشد وأقسى معنى يمكن أن يوحي بالصورة في اعلى بشاعتها وأسوأ تداعياتها. وهذه مهمة لايقدر عليها غير الشاعر المقتدر الموهوب المتمكن من كل الأدوات الشعرية المطلوبة. وهذا ينطبق على باقي الأبيات والقصيدة بمجملها، وكذلك في قصائد الشاعر عموماً.
وتـُنبئُ الحقيبةُ المُـحْكمَةُ الرِّتاجِ عن سَفـرْ
ويـُنبئُ الحفيفُ عن جَدائِلِ الشجَـرْ
والعِطرُ عن فصيلةِ الوردةِ..
والوردةُ عن شكلِ الفِراشات ِ ..
وتـنبئُ الفراشاتُ عن الموسمِ..
والموسمُ عن أجـِنّةِ الطيورِ والـزَّهَـرْ ..
ويُنبئُ الجَفافُ عن مَـسْغـَبَةٍ ..
وينبئُ الأثـَرْ
عـن خيْل ِ هولاكو ..
أو النبع ِ الذي جَفَّ فـشدَّتْ رحْـلَها الظِباءُ ..
قـد يُنبئُ شكلُ الموج ِ
عن ممالكِ الياقوتِ واللؤلؤ ِ في القاع ِ
وعنْ مَتاهَةٍ
في حُـضـْنِ مُـسْـتـَقـَرْ ..
وقصيدته (إنهم يقتلون النخل) مثال حيّ:
إنَّ النخلَ مُتـَّهَمٌ برفض الإنحناء ِ
وبالتشبُّثِ بالجذور ِ ..وباخضرارِ الـسَّعْف ِ ..
مُـتـَّهَمٌ بإيـواءِ العصافير ِ التي
لا تُحْسِنُ استقبالَ:أعداءِ الطفولة ِ ..
والطواغيتِ الكبارْ ..
والنخلُ مُـتـَّهمٌ بتأليبِ المياهِ على الطحالب ِ
في بحيراتِ الدهاقنةِ الصغارْ
للكافرينَ بعشقِ نخلتنا القرارْ
ولنا عنادُ المستحيلِ بوجهِ جلجلةِ التخاذلْ
ماذا يريدُ المُتخَمونَ من الجياع؟
فلم يـعُـدْ في الحقل ِما يـُغري المناجلَ بالحصاد ِ
النخلُ معنيٌّ برَدِّ الإعتبارِ إلى السَّنابلْ
أمْ أنَّ حَرْثاً بالقنابلْ ..
سيُقيمُ بُستانا ً جديدا ًللثكالى والأراملْ ؟ٌ
لابدَّ للنخل المُحاصَرِ بالفجيعةِ أنْ يقاتلْ
ذوداً عن العشبِ المُخـَضَّبِ بالدماء ِ
وعن أراجيح الطفولةِ والبلابلْ
يقول في قصيدته(صوفية النيران):
تـُؤسِـرُهُ بـ” غـمـزة ٍ ” مُـقـلـتـانْ ؟
تـرمي بـهِ على رصيـف الهـوى
مُـضـرَّجـا ً بـعِـشـقـه ِ شـامَـتان !
فـأيـن َ زعْـمـي أنـني صـخـرة ٌ
عَـصِـيَّـة ٌ على فتون ِ الحِـسانْ ؟
صوفـيّة الـنيران ِ لا تُطفِـئي
نـارا ًبـهــا يَـطـَّهِـرُ الأصغــرانْ
قـارَبْـتُ ” ستيـنـا ً ” ولـمّـا أزلْ
طـفلا ً له ُ بـنـاهـديك ِ افـتِـتانْ
جِـئـتِ فـغـنـّى وتَــرٌ مُـهْـــمَــل
وغـازَلـتْ نـافِـذتي نـجـمَـتـانْ
واتـَّخـذَ الحَـمـامُ مـن نـخـلـتي
بيـتـاً ظليلا ًسـقـفهُ الـفـرقدانْ
ربيعا ً ضاحِكَ العـشبِ ندِيّا ً ..
باردَ الكوثرِ ..
يمشي خلفهُ نهرانِ : ريحانٌ وشـهْدُ !
وأنا في كهفِ حزني أتسلّى بكؤوسٍ
خمرُها جمرٌ وسُهْدُ !
زائري في غفلةٍ من مقلةِ الأحزانِ
مَنْ أسرى بكَ الليلةَ ؟
كيفَ اجْتَزتَ نهرين وأرضينِ
وبحرا ً جَزْرُهُ يُخشى، فكيفَ أجتزتَ مَدَّهْ ؟
ودجىً يُبْرِقُ من يومين رَعْدَهْ ؟
أنا لا أعرفني أينَ أقيمُ الانَ
لا عنوانَ ليْ كيف اهتديتْ ؟
فتَعَرَّفتَ إلى جفني وسفحٍ
يختفي في حضنِه الأخضر بيتْ ؟
أيها الناسِجُ من عشبِ الفراتينِ وشاحا ً
جيدُ هُ يُسْكِرُ عِقدَهْ :
مَنْ تُرى أسرى بكَ اللـيلةَ ؟
مَنْ أعطاكَ عنوانَ غريبٍ
هتَك الـعشقُ أحاجيهِ ورُشْدَهْ ؟
آه ِ لو أملكُ أنْ أجمَعَ عطرَ الحلم ِ
والجَنَّةِ والشعر بوردة ْ
لـلتي أحلمُ أنْ أجعلَ من حضني لها بيتاً
ومن صدري لنهديها سريراً
ومن الثغر ِ لخدَّيها مخَدّة ْ
آهِ لو أنَّ التي دقّتْ غروبَ العمر بابَ القلبِ
قد دقّتْ ضُـحى العشقِ
فأغفو هانئاً بالتـين والتوت على نهر المودَّة ْ
آهِ لو أنَّ الذي في دَورَقي من خمرةِ العمر ِ
مثيلٌ للذي في دورَقِ اللذّةِ عندَهْ
لتنازلتُ عن التاجِ وعرشِ الحزن ِ
كي أصبحَ في مملكةِ العشاقِ عَبدَهْ
ونديماً للياليهِ ..
سميراً لأغانيه ِ ..
وناطوراً يقومُ الليلَ كي يحرسَ نهدَهْ
وينشَّ النحلَ عن وردِ الفم العذب ِ
وأسرابَ الفراشاتِ التي
قد تُوجِعُ الجيدَ إذا حطَتْ
على زنبـقهِ الغضّ ..
وقد تجرحُ جفنيهِ وخدّهْ !
آهِ لو أنَّ الذي أوعدَني في الحُلم بالقبلة ِ
لا يُخلِفُ عندَ الصَّحوِ وعدَهْ !!
زائري في غفلةٍ مني أغِثني
يا ربيبَ الفُلِّ والآسِ :أنا طيشي عَفيفٌ ..
ومجوني ناسِكُ الإثمِ ..
أغِثني لِتُـصلِّي شفتي قَصْراً
فإني لستُ مَنْ ينكث بعد النذر عَهدَهْ :
نَذَرَتْ روحي لوجهِ العشقِ
لو زرتَ جفوني
أنْ يُؤدّي خمسَ سجداتٍ على ثغرِكَ ثغري ..
وعلى كلٍّ من الخدَّيْن سَجْدَة ْ …
فأغِـثـني ..
أفلا تؤمِـنُ يا مولايَ أنَّ النذرَ قد يُصبحُ سيفا ً
صدرُ مَنْ ليس يفي بالنذر قد يُصبـحُ غِمدَهْ ؟
فأغِـثْني يا ربيبَ الفلِّ والآس ِ
عساني لو وفيْتُ النذرَ
أنْ أنذرَ للحلمِ إذا زرتَ جفوني
باقة ً من قُبَلٍ ناسِكةِ الآثام ِ بعدَهْ !!
جُـرْحــا ً يُــزيــدُ حَـلاوَة َ الــوَجَع ِ
لا تـُطـْفـِئي نـــاري إذا اتـَّـقـَـدَتْ
واستحْطبَتْ صحوي ومُضطجَعي
لـيْ فــيـك ِ أطـْمــاع ٌ.. وأوَّلـُـهـــا
أنْ تـُنـقِذي عَـيْـني مـن الـطـَّـمَـع ِ
أنْ تـوقِـظي الـقـيثارَ في شـَفـَتي
أنْ تـَغـْسـلي روحي مِـنَ الـجَــزَع
أنْ تغرسي في الروحِ لا جَسَدي
حَـقـلـيـن ِ صوفِـيَـيـن ِ مـــن مُـتـَع
مُــتـَعٌ بـِـلا إثـم ٍ … أنـشُّ بـِـهـــا
ذئـبَ الـهـمـوم وحَـيَّـة َ الـفـَـزَع ِ
قد عـشـْتُ عمري بين فـاجـِعـة ٍ
حـينا ً .. وبـيـنَ مَـخـالب ِ الهَـلـَع ِ
أنْ تقتلي الشيطانَ في جَسَدي
بعـضُ الهــوى بابٌ إلـى الـوَرَع ِ
أنْ تـَشفعي ليْ لو جُـنِـنـْتُ غَـدا ً
وزَعـمْتُ أنَّ العِـشـْقَ من بـِدَعي
أدريـك ِ ذا طـُهْـــر ٍ يَـحـفُّ بـــه ِ
نـُسْـكٌ، وأنَّ تـُـقـاك ِ غيرُ دعي
بـُـورِكـْـت ِ قِــنـديـلا ُ ونـــافِــذةً
ضــوئـيَّة ً. .. أأُلامُ فــي وَلـَـعـي ؟
غرسَتْ خطاكِ على رصيفِ غدي
حقـلـين ِ مـن ورد ٍ ومـن سَــجَعِ
السويد
الأربعاء 27 مايس 2009