خالص مسور
عبد الوهاب البياتي الشاعر الذي غنى للفقراء والكادحين طوال حياة مديدة مؤمناً بفكرة المساواة بين الناس والبشر، وتقديس الحرية وحياة الإنسان والتطلع إلى انتشاله من نير العبودية والفقر والحرمان، وهو ما يشكل أهم موضوعات شعره من شبابه حتى مماته..! وبهذا يمكنني أن أسمي البياتي بشاعر المعذبين في الأرض بدون منازع.
عبد الوهاب البياتي الشاعر الذي غنى للفقراء والكادحين طوال حياة مديدة مؤمناً بفكرة المساواة بين الناس والبشر، وتقديس الحرية وحياة الإنسان والتطلع إلى انتشاله من نير العبودية والفقر والحرمان، وهو ما يشكل أهم موضوعات شعره من شبابه حتى مماته..! وبهذا يمكنني أن أسمي البياتي بشاعر المعذبين في الأرض بدون منازع.
ففي قصيدته (صورة للسهروردي في شبابه) يقول:
لو كان البحر مداداً للكلمات لصاح الشاعر: يا ربي نفد
البحر وما زلت على شاطئه أحبو، الشيب علا رأسي وأنا
ما زلت صبياً لم أبدأ بعد طوافي ورحيلي، فإذا احترق الخيام
بنار الحب وأصبح في خان الأقدار حجاباً، فأنا حول النار
فراش ما زلت أحوم وأفني ليلي سكراً، أتأمل وجه القمر
الفضي الأزرق في صحراء الحب يغيب….
عنوان القصيدة المكتنز بإشراقاته الدلالية يتوفرعلى سيكولوجية طافحة بالأمل والتفاؤل والطموح والإعتداد بالنفس، وتمردات فارطة على انكسارات الحياة وصروفها، وألق دائم وشباب متجدد تستنطقه المحطات الدلالية للوحات الشعرية المقارنة التي يرسمها الشاعر لمسيرة حياة بطله الثرية المتجددة، والتي هي تجسيد في نفس الوقت لحياة الذات الشاعرة المتجددة العصية على الإنكسار والتردد رغم سيول من النوائب والمصائب. وقد أفلح الشاعر في احتشاد المزيد من ألفاظ التوهج وكسر أفق توقع القاريء في نسيج لوحاته الشعرية المحتشدة بكثرة في سطوره الشعرية، مما أدى إلى الثراء الدلالي للنص وإشراك المتلقي معه في الإستمتاع والتلذذ مع عباراته الشاعرية الموظفة بكثير من الرشاقة والجمال.
وقد نلمح هنا الإقتباس من القرآن الكريم في موضعين واضحي الدلالة، الأول تأثره بالآية القرآنية (قل لوكان كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا) والآخر هو قوله: الشيب علا رأسي وأنا مازلت صبياً من الآية (قال ربي إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيباً) وهذا هو دأب البياتي مع التراث في معظم قصائده وسطوره الشعرية. بالإضافة إلى أن هذه القصيدة والقصائد التي ندرسها الآن تدخل جميعها ضمن ما يعرف بالشعر الدلالي، أو التركيز على الجوانب الدلالية للسطور الشعرية التي تطغى نوعاً ما على الجانب الآخر أي الصوتي والموسيقي للسطور، وإن كنا نلمس صوتاً إيقاعياً خافضاً ينساب من بين السطور ويتمثل في تقنية التقطيع الإيقاعي الضعيف الرنين، أي ما يمكن قوله بأن الشاعر قلل من موسيقاه الشعرية لحساب المعانى الدلالية. رغم ما نراه من أن من مستلزمات الشعرية مراعاة جانبيه الدلالي والصوتي الإيقاعي معاً، وأن النقاد الحداثيون يؤكدون بأن الناقد لا يجب أن يرى ماذا يقول الشعر بل أن يرى كيف يقوله.
فالنقودات الجديدة كالشكلانية وما بعد الشكلانية من بنيوية وتفكيكية وغيرهما، تعتمد النص المفتوح وتعدد المعاني بل لانهائية المعنى ذاتها. ومن هنا يمكن القول بأن الفرق بين لغة النثر والشعر هو أن لغة النثر تعبر عن المطلوب منها في الحياة اليومية وتسير بمسارخطي لاينحرف عن سيره، وهي في العادة اللغة التي تستعمل في العلوم والأبحاث العلمية الرصينة يستوجب التوضيح والفهم. بينما اللغة الشعرية الفعلية هي التي تستخدم الإستعارة والمجاز والمجاز المرسل والإيحاء والإنزياح. فاللغة الشعرية خاصة وهي لغة دائرية تعتمد على المشابهة والتكرار، بينما لغة النثر تعتمد المخالفة أي الإختلاف الصوتي. ولهذا يمكننا القول معهم عن اللفظة بأن لها معنيان، المعنى الأول هو المعنى المكسور وفيه عدم تناسب دلالي وصوري مثل قولنا(امتطى الأسد صهوة جواده)، فهنا نوع من عدم الإنسجام والتناسب في الجملة، لأن الأسد لايمتطي صهوات الجياد بينما إذا حللنا العبارة إلى انه يقصد بالأسد الرجل الشجاع ففي هذه الحالة يحدث تناسب وانسجام في المعنى الدلالي للعبارة.
وسنكتفي بهذا الشرح والتوضيح بين الشعر والنثر ونعود إلى موضوعنا وهو القصيدة الدلالية لدى البياتي وقد أشرنا آنفاً، رغم أن الشاعرأعطى لسطوره الشعرية شيئاً من الإيقاع والموسيقى عن طريق التقطيع واستخدام ما يسمى بإسلوب الإلتفات او التقديم والتأخير مثلاً- في صحراء الحب يغيب- الشيب علا رأسي – وبالنغمة القوية الصادرة عن التنوين في كلمتي- حجاباً- سكراً- وتكرار حرف الحاء الحلقية بتنغيميتها اللهيفة المحببة أعطت القصيدة نوعاً داخلياً من الإيقاع والمزيد من رهافة الحس والدفقة الشعورية الثرية الدلالة وتوصيل الماضي بالحاضر بالجمع بين الماضي الناقص والمضارع أو صفة الشباب في عبارة واحدة- مازلت على شاطئيه أحبو- ما زلت صبياً- مازلت أحوم-
وفي قصيدة (الموت في الحب) يقول البياتي:
أيتها العذراء
هزي بجذع النخلة الفرعاء
تساقط الأشياء
تنفجر الشموس والأقمار
يكتسح الطوفان هذا العار
نولد في مدريد
تحت سماء عالم جديد
هذه القصيدة تختلف عن الأولى من حيث إيقاعهاتها السريعة أو المراوحة بين السرعة والهدوء والسير نحو تفجير اللحظة في فضاءات اللوحة الشاعرية، والحراك الزمني باستعمال الأفعال المضارعة- تنفجر- يكتسح- نولد- تساقط – ثم التنوع والإنتقال السريع ما بين النداء وصيغة الأمر والمضارع إلى ظرف المكان /تحت/ وتقنية الإسترجاع واستحضار الذاكرة من أعماق التاريخ /نولد في مدريد/ مع حرف النداء /أيتها العذراء/ كمدلولات رمزية أفلحت مع السطور الشعرية المرسلة، في تحويل مخيال الاستعارة إلى حركة انسيابية وبؤرة إيقاعية بالتضافر مع كلمة/فرعاء/ ذات الرنين الخاص والمؤثر في النفس، ثم روي حرف الراء المقوسة الدالة عادة على الصراع النفسي والكثير من اللواعج والشجن. فالشاعر هنا يبشر بميلاد ثورة جديدة تكسح العار والذل والمهانة من التاريخ العربي التليد ليولد فجر جديد تحت سماء عالم مليء بالحب والعدل والتسامح والإزدهار. كما أن القصيدة تحفل بالتناصات المرجعية وأخصها التناص الصريح مع القرآن الكريم وتناص معنوي مع قصيدة نجيب الريس.
يا ظلام السجن خيم إننا نهوى الظلاما فليس بعد السجن إلا فجر مجد يتساما
أي أن القصيدة حبلى بالتفاؤل بحياة رخية قادمة، ولكن ليس دون ثورة تهز الجذوع وتنفجر الشموس والأقمار، وطوفانات تكتسح الجهل والإستبداد والفقر وهو ما يعني من جديد ميلاد يوم مشرق آت، حيث أفلح الشاعرهنا في التركيز على العنصر الدلالي للسطور الشعرية لكن دون إهمال الإيقاع الداخلي المتناغم مع القافية المزدوجة للنص. أي أنه لون كل سطرين من سطوره الشعرية بقافية واحدة /عذراء- فرعاء/ – /الأقمار- العار/ -/ مدريد- جديد/ وبالألف اللينة فيها والتي تفتح الفم مما يساعد على تحرير مجرى التنفس وتحويل الفم وما يحويه إلى آلة موسيقية منسجمة مع الجملة ليعود إلى الإنغلاق في السطرين الأخيرين من النص الشعري مما يتوفر على صوت موسيقي رهيف بالتضافر مع تنغيمية حرف /الدال/ الذي يلعب هنا دورآلة الإيقاع في السيمفونية الموسيقية.
وقد نلمس هنا أيضاً صور فنية ولكنها عنيفة غنية بالكناية والإيحائية والمجاز– هزي بجذع النخلة- يكتسح الطوفان- تنفجر الشموس- نولد في مدريد- والصورة الأخيرة تشير إلى التاريخ العربي المجيد في الأندلس واستمراره تحت حكم الخلفاء الأمويين مدة ثمانية قرون كاملة.
وفي قصيدته(روميات أبي فراس) يقول البياتي:
يونس لن يشق بطن الحوت
فالبحر جف، منذ أن أبحرت بي
وقلت لي: لاتكتبي
على رمال الشط ما أقول
توحي القصيدة بالمرارة والخيبة والغربة واليأس وانقطاع الأمل والرجاء من النهوض والإصلاح وما أفسده الدهر وعبث. فأبو فراس مأسور لدى آسريه من الروم يناجي نفسه ويتملكه اليأس والإحباط، ويونس لن يشق بطن الحوت بل سيبقى فيه ما شاء له البقاء وهنا نجد مرة أخرى حالة من التناص مع القرآن الكريم حيث كما هو عادة البياتي يكثر من التناصات والرموز التاريخية في قصائده الملتزمة على الدوام، كما أن البحر قد غيض ماءه وجف منذ أن هاجر الشاعر وأبحر عن طريقها، وحالة أبي فراس الشاعر الأسيرهي هنا تشكل المعادل الموضوعي لحالة البياتي الذي ذاق مرارة المنافي والهجر والحرمان، وقد بدا فاقد الرجاء والأمل في العودة إلى أرضه ووطنه العراق وفي ثورة شعبية عارمة تطيح بالحكم الديكتاتوري وتعيد العراق إلى شعبه وناسه.
وبهذا نرى أن النص جاء بسياقات درامية مثيرة تغلب عليه طابع الحزن الشفيف ولهفة الأسير الملهوف إلى الحرية والإنطلاق نحو الحياة الحرة الكريمة. كما استطاع الشاعر باستخدام ظرف الزمان/منذ/ الفصل بين صورتين متباينتين لحالة الذات الشاعرة قبل الهجرة وبعدها، ثم هشاشة الكتابة على الرمل هي الأخرى تنبيء عن حالة من اليأس والإحباط ينتاب الشاعر الذي فقد الأمل والرجاء بالعودة إلى وطنه.
وفي قصيدته (ديك الجن) يقول:
علامة الساعة أن يظهر هذا الأعور الدجال
مذنب، يجر خلف ضوئه الرجال
للموت بالمجان
في مدن الدخان
يحس القاريء هنا وهو يقرأ هذه السطور التهويلية بأنه في وسط معركة حامية الوطيس أو أن يوم الحشر والميزان قد دنا وأن وراء الأكمة ماوراءها من استخدامه لكلمات مثل- الأعور الدجال- علامة الساعة- مذنب- الموت المجاني- الدخان- وبذلك استطاع الشاعر أن يضع قارءه في أجواء مثيرة توحي بالرهبة والخوف ومستعيناً في ذلك مرة أخرى برفوف أرشيفات التراث الإسلامي.
البحر وما زلت على شاطئه أحبو، الشيب علا رأسي وأنا
ما زلت صبياً لم أبدأ بعد طوافي ورحيلي، فإذا احترق الخيام
بنار الحب وأصبح في خان الأقدار حجاباً، فأنا حول النار
فراش ما زلت أحوم وأفني ليلي سكراً، أتأمل وجه القمر
الفضي الأزرق في صحراء الحب يغيب….
عنوان القصيدة المكتنز بإشراقاته الدلالية يتوفرعلى سيكولوجية طافحة بالأمل والتفاؤل والطموح والإعتداد بالنفس، وتمردات فارطة على انكسارات الحياة وصروفها، وألق دائم وشباب متجدد تستنطقه المحطات الدلالية للوحات الشعرية المقارنة التي يرسمها الشاعر لمسيرة حياة بطله الثرية المتجددة، والتي هي تجسيد في نفس الوقت لحياة الذات الشاعرة المتجددة العصية على الإنكسار والتردد رغم سيول من النوائب والمصائب. وقد أفلح الشاعر في احتشاد المزيد من ألفاظ التوهج وكسر أفق توقع القاريء في نسيج لوحاته الشعرية المحتشدة بكثرة في سطوره الشعرية، مما أدى إلى الثراء الدلالي للنص وإشراك المتلقي معه في الإستمتاع والتلذذ مع عباراته الشاعرية الموظفة بكثير من الرشاقة والجمال.
وقد نلمح هنا الإقتباس من القرآن الكريم في موضعين واضحي الدلالة، الأول تأثره بالآية القرآنية (قل لوكان كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا) والآخر هو قوله: الشيب علا رأسي وأنا مازلت صبياً من الآية (قال ربي إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيباً) وهذا هو دأب البياتي مع التراث في معظم قصائده وسطوره الشعرية. بالإضافة إلى أن هذه القصيدة والقصائد التي ندرسها الآن تدخل جميعها ضمن ما يعرف بالشعر الدلالي، أو التركيز على الجوانب الدلالية للسطور الشعرية التي تطغى نوعاً ما على الجانب الآخر أي الصوتي والموسيقي للسطور، وإن كنا نلمس صوتاً إيقاعياً خافضاً ينساب من بين السطور ويتمثل في تقنية التقطيع الإيقاعي الضعيف الرنين، أي ما يمكن قوله بأن الشاعر قلل من موسيقاه الشعرية لحساب المعانى الدلالية. رغم ما نراه من أن من مستلزمات الشعرية مراعاة جانبيه الدلالي والصوتي الإيقاعي معاً، وأن النقاد الحداثيون يؤكدون بأن الناقد لا يجب أن يرى ماذا يقول الشعر بل أن يرى كيف يقوله.
فالنقودات الجديدة كالشكلانية وما بعد الشكلانية من بنيوية وتفكيكية وغيرهما، تعتمد النص المفتوح وتعدد المعاني بل لانهائية المعنى ذاتها. ومن هنا يمكن القول بأن الفرق بين لغة النثر والشعر هو أن لغة النثر تعبر عن المطلوب منها في الحياة اليومية وتسير بمسارخطي لاينحرف عن سيره، وهي في العادة اللغة التي تستعمل في العلوم والأبحاث العلمية الرصينة يستوجب التوضيح والفهم. بينما اللغة الشعرية الفعلية هي التي تستخدم الإستعارة والمجاز والمجاز المرسل والإيحاء والإنزياح. فاللغة الشعرية خاصة وهي لغة دائرية تعتمد على المشابهة والتكرار، بينما لغة النثر تعتمد المخالفة أي الإختلاف الصوتي. ولهذا يمكننا القول معهم عن اللفظة بأن لها معنيان، المعنى الأول هو المعنى المكسور وفيه عدم تناسب دلالي وصوري مثل قولنا(امتطى الأسد صهوة جواده)، فهنا نوع من عدم الإنسجام والتناسب في الجملة، لأن الأسد لايمتطي صهوات الجياد بينما إذا حللنا العبارة إلى انه يقصد بالأسد الرجل الشجاع ففي هذه الحالة يحدث تناسب وانسجام في المعنى الدلالي للعبارة.
وسنكتفي بهذا الشرح والتوضيح بين الشعر والنثر ونعود إلى موضوعنا وهو القصيدة الدلالية لدى البياتي وقد أشرنا آنفاً، رغم أن الشاعرأعطى لسطوره الشعرية شيئاً من الإيقاع والموسيقى عن طريق التقطيع واستخدام ما يسمى بإسلوب الإلتفات او التقديم والتأخير مثلاً- في صحراء الحب يغيب- الشيب علا رأسي – وبالنغمة القوية الصادرة عن التنوين في كلمتي- حجاباً- سكراً- وتكرار حرف الحاء الحلقية بتنغيميتها اللهيفة المحببة أعطت القصيدة نوعاً داخلياً من الإيقاع والمزيد من رهافة الحس والدفقة الشعورية الثرية الدلالة وتوصيل الماضي بالحاضر بالجمع بين الماضي الناقص والمضارع أو صفة الشباب في عبارة واحدة- مازلت على شاطئيه أحبو- ما زلت صبياً- مازلت أحوم-
وفي قصيدة (الموت في الحب) يقول البياتي:
أيتها العذراء
هزي بجذع النخلة الفرعاء
تساقط الأشياء
تنفجر الشموس والأقمار
يكتسح الطوفان هذا العار
نولد في مدريد
تحت سماء عالم جديد
هذه القصيدة تختلف عن الأولى من حيث إيقاعهاتها السريعة أو المراوحة بين السرعة والهدوء والسير نحو تفجير اللحظة في فضاءات اللوحة الشاعرية، والحراك الزمني باستعمال الأفعال المضارعة- تنفجر- يكتسح- نولد- تساقط – ثم التنوع والإنتقال السريع ما بين النداء وصيغة الأمر والمضارع إلى ظرف المكان /تحت/ وتقنية الإسترجاع واستحضار الذاكرة من أعماق التاريخ /نولد في مدريد/ مع حرف النداء /أيتها العذراء/ كمدلولات رمزية أفلحت مع السطور الشعرية المرسلة، في تحويل مخيال الاستعارة إلى حركة انسيابية وبؤرة إيقاعية بالتضافر مع كلمة/فرعاء/ ذات الرنين الخاص والمؤثر في النفس، ثم روي حرف الراء المقوسة الدالة عادة على الصراع النفسي والكثير من اللواعج والشجن. فالشاعر هنا يبشر بميلاد ثورة جديدة تكسح العار والذل والمهانة من التاريخ العربي التليد ليولد فجر جديد تحت سماء عالم مليء بالحب والعدل والتسامح والإزدهار. كما أن القصيدة تحفل بالتناصات المرجعية وأخصها التناص الصريح مع القرآن الكريم وتناص معنوي مع قصيدة نجيب الريس.
يا ظلام السجن خيم إننا نهوى الظلاما فليس بعد السجن إلا فجر مجد يتساما
أي أن القصيدة حبلى بالتفاؤل بحياة رخية قادمة، ولكن ليس دون ثورة تهز الجذوع وتنفجر الشموس والأقمار، وطوفانات تكتسح الجهل والإستبداد والفقر وهو ما يعني من جديد ميلاد يوم مشرق آت، حيث أفلح الشاعرهنا في التركيز على العنصر الدلالي للسطور الشعرية لكن دون إهمال الإيقاع الداخلي المتناغم مع القافية المزدوجة للنص. أي أنه لون كل سطرين من سطوره الشعرية بقافية واحدة /عذراء- فرعاء/ – /الأقمار- العار/ -/ مدريد- جديد/ وبالألف اللينة فيها والتي تفتح الفم مما يساعد على تحرير مجرى التنفس وتحويل الفم وما يحويه إلى آلة موسيقية منسجمة مع الجملة ليعود إلى الإنغلاق في السطرين الأخيرين من النص الشعري مما يتوفر على صوت موسيقي رهيف بالتضافر مع تنغيمية حرف /الدال/ الذي يلعب هنا دورآلة الإيقاع في السيمفونية الموسيقية.
وقد نلمس هنا أيضاً صور فنية ولكنها عنيفة غنية بالكناية والإيحائية والمجاز– هزي بجذع النخلة- يكتسح الطوفان- تنفجر الشموس- نولد في مدريد- والصورة الأخيرة تشير إلى التاريخ العربي المجيد في الأندلس واستمراره تحت حكم الخلفاء الأمويين مدة ثمانية قرون كاملة.
وفي قصيدته(روميات أبي فراس) يقول البياتي:
يونس لن يشق بطن الحوت
فالبحر جف، منذ أن أبحرت بي
وقلت لي: لاتكتبي
على رمال الشط ما أقول
توحي القصيدة بالمرارة والخيبة والغربة واليأس وانقطاع الأمل والرجاء من النهوض والإصلاح وما أفسده الدهر وعبث. فأبو فراس مأسور لدى آسريه من الروم يناجي نفسه ويتملكه اليأس والإحباط، ويونس لن يشق بطن الحوت بل سيبقى فيه ما شاء له البقاء وهنا نجد مرة أخرى حالة من التناص مع القرآن الكريم حيث كما هو عادة البياتي يكثر من التناصات والرموز التاريخية في قصائده الملتزمة على الدوام، كما أن البحر قد غيض ماءه وجف منذ أن هاجر الشاعر وأبحر عن طريقها، وحالة أبي فراس الشاعر الأسيرهي هنا تشكل المعادل الموضوعي لحالة البياتي الذي ذاق مرارة المنافي والهجر والحرمان، وقد بدا فاقد الرجاء والأمل في العودة إلى أرضه ووطنه العراق وفي ثورة شعبية عارمة تطيح بالحكم الديكتاتوري وتعيد العراق إلى شعبه وناسه.
وبهذا نرى أن النص جاء بسياقات درامية مثيرة تغلب عليه طابع الحزن الشفيف ولهفة الأسير الملهوف إلى الحرية والإنطلاق نحو الحياة الحرة الكريمة. كما استطاع الشاعر باستخدام ظرف الزمان/منذ/ الفصل بين صورتين متباينتين لحالة الذات الشاعرة قبل الهجرة وبعدها، ثم هشاشة الكتابة على الرمل هي الأخرى تنبيء عن حالة من اليأس والإحباط ينتاب الشاعر الذي فقد الأمل والرجاء بالعودة إلى وطنه.
وفي قصيدته (ديك الجن) يقول:
علامة الساعة أن يظهر هذا الأعور الدجال
مذنب، يجر خلف ضوئه الرجال
للموت بالمجان
في مدن الدخان
يحس القاريء هنا وهو يقرأ هذه السطور التهويلية بأنه في وسط معركة حامية الوطيس أو أن يوم الحشر والميزان قد دنا وأن وراء الأكمة ماوراءها من استخدامه لكلمات مثل- الأعور الدجال- علامة الساعة- مذنب- الموت المجاني- الدخان- وبذلك استطاع الشاعر أن يضع قارءه في أجواء مثيرة توحي بالرهبة والخوف ومستعيناً في ذلك مرة أخرى برفوف أرشيفات التراث الإسلامي.
أما ديك الجن هذا الشاعر الحمصي الذي أودى بحياة جاريته الحسناء بالمجان نتيجة لوشاية كاذبة ظل يتملكه الشعور بالندم والذنب حتى آخر رمق من حياته، مذنب مثله هذا الأعور الدجال الطاغية الذي حول شعبه إلى جواري وأقنان يقتلهم كل يوم بالمجان. وفي هذا يستنجد البياتي مرة أخرى بالتراث الإسلامي ذاكراً الأعور الدجال كرمز يشير إلى حالة الإستبداد والمستبدين في بلاده الذين تلطخت أياديهم بدماء أفراد شعبوبهم الأبرياء وقد أضافت كلمة الأعور المزيد من الإرهاب والإحتقار على صورة المستبد والإستبداد في بلاده. فالدجال يجر وراءه رجال حيث الموت ينتظرهم بدون ذنب في مدن الظلام والأقبية والسجون والمنافي. بينما اسم الإشارة/هذا/ يخلق صورة بصرية للمستبد تظهر بكل تفاصيلها أمام أعين الشاعر والمتلقي.. وفنياً نشير إلى أن الشاعر يبني سطوره الشعرية هنا مرة أخرى بإيقاع مزدوج جميل للقافية / الدجال- الرجال/ – المجان- الدخان/. نعم، هكذا رأينا البياتي شاعراً مجيداً يحلق في فضاءات سطوره الشعرية بسوية فنية وجمالية عالية، يجيد ويكثرتوظيف التراث والقناع والرمز في معظم قصائده الملتزمة بالدفاع عن الكادحين والمحرومين في العالم بأسره، لأن البياتي شاعر ذو فكر يساري شمولي فأينما وجد الظلم فهو وطنه، غنى أبداً للحرية ومآسي الكادحين والبائسين، بين بؤسهم وحرمانهم، واستنكر اضطهاد الأحرار والشرفاء على أيدي الحيتان والجلادين والسفاحين في هذا العالم والدجالين. والصور التراثية رغم ضرورتها كتقنية حداثية يلجأ إليها معظم شعراء العالم الحداثيين وغير الحداثيين منهم، ألا أننا لا نراها مقبولة بهذه الصورة الفارطة وهذه الدرجة الزائدة عن الحد كما يوردها البياتي، وكما في كل شيء فالإكثار منه مضر فلا إفراط ولا تفريط إذاً، لأن كل صورة تراثية تكون مملة نوعاً ما لأنها معلومة للمتلقي وغير جديدة عليه رغم محاسنها وسويتها الفنية العالية أيضاً، ألا أنها تأتي غالباً لتغيب صورة إبداعية جديدة ومبتكرة و من نوع آخر كان يمكن أن يبدعها الشاعر بشيء من الرهافة والجمال.