آرام ديكران فنَّانُ الرّوحِ والجَمالِ

  صبري رسول

( هكذا تفاجِئنا المنيَّة بأخْذِ أحد أساطين الأغنية الكردية)
Libaximin bu zivistan
Ey dilbere tem gulistan

كان يَقْمعُنَا بشدة – نحن الصغار – كي يستمع إلى أغنيةٍ لآرام، منتهزاً فرصةَ بثّها من الإذاعة الـ(يريفانية) عاصمة أرمينا السوفيتية آنذاك. كان عمي يعرف أوقات بثّ القسم الكردي في الإذاعة المذكورة، في منتصف السبعينيات حتى آواخرها، كنتُ في المرحلة الابتدائية حينها، أستمع إلى الأغاني الكردية مع الكبار في العائلة، من الإذاعة الحبيبة، إلى جانب الإذاعة الكردية من العراق، فأحببْتُ أساطينها المعروفين (تحسين طه، محمد عارف الجزراوي، عيسى برواري، عيششان، مجيدي هركي، مريم خان، وآرام ديكران) كان لصوته الشَّجي ولحنه المثير وأدائه الرَّائع الوقْعَ الكبير في نفوس محبّي الموسيقى والأغنية الكردية. وبعد هذه المرحلة، ومع بداية الثمانينات صرتُ أنتشي مع أغاني فنانين كبار تركوا أثراً عميقاً في روحي(كلستان، شفان برور، محمد شيخو، سعيد يوسف، محمود عزيز شاكر، عفدو علانا) وآخرين أعتذر منهم لعدم ذكرهم.
آرام ديكران يُعدُّ أحدَ أساطين الغناءِ الكردي والآرمني بحقّ، استطاع أن يدخل قلوب الملايين من عشاق الفنّ الكردي والأرمني، وتركتْ أغانيه بصماتِها الرُّوحية لدى النّاس، فتراهم يدندنون بألحانه وكلمات غنائه. حتى في المرحلة الجامعية كنّا نجتمع في مجالسنا الطلابية، نطالبُ زميلنا عبدالرحمن قاسم الذي كان يعزف على آلة(جمبش) على أن يعزف على غربتِه الأخيرة، آرام، آرام، آرام، بمعنى ابدأ العزف بأغاني آرام، ورغم تواضع عزفه كنّا ننتشي روحياً مع الموسيقى الآرامية. لحظاتٌ ممتعةٌ كنّا نسترقها من الحياة عند استماعنا إلى أغانيه من خلال أشرطة الكاسيت.

غنّى آرام لشعراء كثيرين من الكرد والأرمن، فنراه يغّني للرُّوح والغربةِ والجَمال، كما يغنّي للجبال والمقاومة والحقّ والحياة والحبّ. كانت موسيقاه تعبيراً عمّا لاقاه من أشكال العذاب والهجرة والاغتراب والظلم، حيث تنقَّل كثيراً، هرباً من جحيم الحياة، ومن ويلات الظّلم، حيثُ تعرّض شعبه الأرمني لإبادة جماعية على أيدي الطورانيين الترك(1915م) الذي استغلّوا الإسلام ومشاعرهم الدينية، وجهل الناس به ليضربوا الإسلام بالمسيحية، والكردي بالأرمني، بهدف إضعاف نفوذهم والاستحواذ على مصيرهم وبلادهم، فتَشَتَّتَ الأرمنُ، وأُزِيلَتْ خريطتهم من الحياة، ومعهم طارَ مصيرُ آرام ديكران كمصير أبيه في مهبّ الأحداث والبلدان.

المرة الوحيدة التي شاهدتُ ملامح هذا العملاق الفني كان أثناء إحيائه لأمسية غنائية رائعة في مدينة المالكية( ديرك) في آواخر التسعينات من القرن الماضي، حيث تقاسيمُ وجهه المريحة توحي بأنَّه يختزن في قلبه حبَّاً كبيراً يمنحه للنَّاس عبر موسيقاه، وآلاماً قاسية، يُخبِّئه عن النَّاس ولا يبوح بها. فكانتْ ليلةً فنيَّةً من أروع ما شهدتْه المدينة، حيث حضرها آلاف النَّاس، مستمتعين بما قدَّمه فنانهم الكبير.

آرام ديكران كان القاسم المشترك بين الكرد والأرمن، روحيَّاً وموسيقيَّاً، وربما مصيرياً، وجعل من الموسيقى أداة تواصلٍ بينهما قبل الحوار والتفاهم والكلمة، فتوحَّدتْ قلوبُهم عاطفياً، قبل أنْ يفكّروا عقلياً، مالذي يجمعهم أو يفرّقهم؟ فأحبَّه ملايين الكرد كما أحبّه قومه كذلك.

إلى فسيح الجنان عند ربك أيُّها الكبير.

اخلدْ بهدوء وسلام إلى الأبد.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم محمود

أول القول ومضة

بدءاً من هذا اليوم، من هذه اللحظة، بتاريخ ” 23 تشرين الثاني 2024 ” سيكون هناك تاريخ آخر بحدثه، والحدث هو ما يضفي على زمانه ومكانه طابعاً، اعتباراً، ولوناً من التحويل في المبنى والمعنى القيَميين والجماليين، العلميين والمعرفيين، حدث هو عبارة عن حركة تغيير في اتجاه التفكير، في رؤية المعيش اليوم والمنظور…

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…