دهام حسن
لا أعلم كيف أبدأ الكتابة عن الرفيق الراحل (ديبو إلياس) ولماذا أكتب عنه، ومعرفتي به صغيرة، هكذا راودتني الأفكار قبل الشروع في الكتابة عنه، والجدير ذكره، أننا قبل أيام كنا نتحادث أنا والصديق المهندس عبد الحليم حسين، وراح يطرح علي الكتابة في بعض المواضيع، وما أن لفظت في سياق الحديث باسم ديبو إلياس حتى بادرني بالقول لماذا لا تكتب عنه، ومن خلاله تتطرق للشؤون التنظيمية وتنوّه على بعض المواقف والممارسات، وهنا لا أخفيكم أنني توقفت لسبب بسيط هو حقا معرفتي بديبو إلياس قليلة، بحكم السن أولا، فقد كنت طالبا في السابع وهو كان كادرا حزبيا معروفا، ومن ثم مقاطعة الحزب له، وانضمامه لاحقا لـ (زمرة) رياض الترك، هكذا كان التصنيف عندنا، هذا التصنيف الذي بال عليه الزمن ومضى، وسنأتي على الأسباب في سياق حديثنا هذا..
كنت سأصرف النظر عن الكتابة عنه لعلمي أن حديثي هذا لا يشكل مادة إعلامية دسمة، لولا أن أكثر من حدث حميمي عنه حملته ذاكرتي، وحفظته كل هذه الأعوام، الحدث هو ذكريات رصينة لا تمّحى..
في عام 1960 كنت طالبا في الأول الإعدادي بإعدادية أبي العلاء المعري، الإعدادية الوحيدة للذكور في عامودا، عندما قال لنا الرفيق المسؤول، وأرجح أنه كان ضرار محمد ضرار وهو شاب معروف من قرية خالد من قرى ريف عامودا هاجر لاحقا إلى تركيا وأقام فيها بشكل دائم، قال لنا سيحضر اجتماعنا الليلة الرفيق ديبو إلياس، كنا جميعا قد سمعنا باسمه لكننا لم نره بعد، لأنه كان ملاحقا متواريا، فقد كانت التنظيمات سرية في حقبة الوحدة المصرية السورية..
وهنا أريد أن ألفت النظر إلى نقطة مهمة حتى لا تفوتني وهي أن الأمن في تلك المرحلة كانوا يركزون على الكوادر النشطة، وليس على الناس العاديين، فكنا طلابا ولم يدر بخلدنا أننا سنعتقل، وكنا معروفين كشيوعيين، أعود إلى سياق حديثي..في قعر حجرة منخفضة، وعلى ضوء قنديل باهت، مدت حصيرة متهرئة، كنا الثلاثة، المرحوم ممدوح حاج عجاج بيجو (أبو حبيب) ومحمد لطيف (بافي نازي) وهو غني عن التعريف، وأنا دهام حسن، هذا ما أرجح إن أسعفتني الذاكرة..وإذا بنا نفاجئ بشاب جميل أبيض ناصع البياض، كأنه ابن الثلج، لم نر في صورته وهيئته المدنية المتحضرة أحدا في عامودا، أنيق الهندام، يهبط على الدرج باتجاهنا دون طرق الباب، كيف اهتدى إلى مكاننا هذا الجني الذي ينجم عن الأرض، لا شك أنه عنصر من الأمن السوري، مثل هذه الهواجس راودت تفكيرنا نحن الثلاثة، وكل واحد منا فكر بطريقته كيف يتصرف مع هذا الضيف الطارئ، هذا ما أسرّ واحدنا للآخر لا حقا .. والسبب كان يتحمله الرفيق المسؤول ضرار الذي تأخر عنه ثواني، ثمّ عرّفنا عليه وكان لقاء حميميا..
ديبو إلياس يعد من أهلي عامودا، تميز بجرأة وتحد يشهد له بذلك أهالي عامودا ورفاق الأمس الذين أحبوه كثيرا، في عام 1962 فقت متأخرا من النوم فلم أذهب إلى المدرسة، ذهبت إلى بيت عمتي، فإذا هي تستقبلني وقد استبد بها الخوف، وعندما استفسرت، قالت في بكرة هذا الصباح جاء الأمن يبحثون عنك، قلت السبب، قالت لي يقولون جرى في الإعدادية كما جرى لها في العام الماضي، أي دونت كتابات على جدران الإعدادية، الفعلة التي تكررت غير مرة، فعدت أدراجي باتجاه السوق، وما كدت أصل قريبا من المخفر حتى أبصرت الرفيق ديبو إلياس قابعا في كرسي أمام المخفر، نظرت إليه ربما يؤشر هو إلي بإيماءة ما فلم يفعل، حملت نفسي ومضيت باتجاه الإعدادية، فالتقيت بطريقي على ما أرجح بسليمان حمدي فتحادثنا في الأمر سريعا، وراح ينظر هو إلى ديبو إلياس، أما أنا فسلمته علبة سجائر، قلت له غير مناسب بالنسبة التدخين في هذه السن وفي حضرة الأمن، لن أقف هنا بالشرح، المهم بعد تحقيق مطوّل وتعذيب لي وللمرحوم ممدوح ولمعصوم ملا أحمد وعلي حسين سيد علو قادونا الأربعة مكبلين إلى فرع الأمن في مدينة القامشلي، طبعا كان خامسنا هو ديبو إلياس، أقلتنا سيارة جيب، وصلنا إلى فرع أمن السجن بالقامشلي على ما أذكر، تقدم منا ضابط الأمن يسأل الرفيق ديبو هل أنت شيوعي، قال له بالحرف (أنا شيوعي وشيوعي معروف) أما نحن فقد أنكرنا من أننا شيوعيون..أذكر أن ديبو لحظتها قال للضابط.. أن الشرطي فلان وكان بجوارنا يسمع كان يشتم ويسبّ رئيس أكبر دولة صديقة، وكان يعني بكلامه خروشوف، فقال الضابط لهذا العسكري عندما ناداه باسمه، فلان، فوقف العسكري باستعداد قائلا: نعم سيدي، فقال له الضابط عندك عقوبة، كنا نتعجب من هذه الجرأة التي يملكها ديبو أذكر أني دنوت منه وسألته هل يعاقب الضابط هذا العسكري الذي أهاننا كثيرا في الطريق، فقال لي لا تصدق.! في اليوم الثاني كنا في النظارة، وإذا نحن بثلاثة شباب ناصريين موقوفين في النظارة، وفي ساعة متأخرة في ليل من ليالي رمضان، نام ديبو إلياس فراح الشباب الناصري، يذمون قادة كنا نعزّهم، وكان بجواري الرفيق علي حسين طفح بنا التذمر ولا أعرف كيف قمت منكرا لما يقولونه، وتكامشنا، وكدنا نتضارب، وعلي يهدئ الموقف، ويحملهم تجاوزاتهم، بيد أن الذي أنقذ الموقف، هو ديبو إلياس الذي فاق على صيحاتنا، ثم أسكتهم بمنطقه السياسي والثقافي، ثم تصالحنا على كأس من الشاي كعزيمة لي لتطييب خاطري.. كانوا طلابا في الثانوية.. كان ديبو إلياس عندما يذهب إلى المحكمة يعود محملا بصحف فيها شيء من طابع الليبرالية يخبئها في عبه ويعود بها إلى السجن، ربما كانت الصحف الفجر، الطليعة، وربما سواهما، وكان كثيرا ما يحادث ويناقش مع رجال من الشرطة عن الشيوعية، فقلت له ضاحكا يا رفيق ديبو هل في بالك أن تجعلهم شيوعيين فيضحك هو الآخر، ولا ينقطع عن التحدث إليهم، وأحيانا كانوا يفرون منه تحسبا، التقى ديبو إلياس في السجن الرفيق صبحي أنطون، الذي سألني فيما بعد عن سبب اعتقالنا، ثم نصحني بألا أقترب منه حرصا عليّ، ديبو انتقل إلى السجن الكبير أما نحن بقينا في النظارة لحداثة سننا…
كنت أقدم امتحانات الكفاءة في مدينة الحسكة مع الطلاب الأحرار، والرفيق ديبو كان هو الآخر يقدم الامتحانات، رأيته مرة مقبلا نحوي ضاحكا ليقول لي انظر إلى هؤلاء الشبان، وكانوا من الأمن، قبل أيام قليلة كنت في ضيافتهم معتقلا، وها هم اليوم جاؤوا يتابعونني، ويبدون استغرابهم كيف أني أقدم الامتحانات..
في عام 1962 فصلت نهائيا من المدرسة أنا والمرحوم ممدوح، فعدت إلى قريتي القاحلة، وانقطعت عن ديبو إلياس، ولم ألتق به، في عام 1968 ذهبت إلى خدمة الجيش، ثم كانت إقامتي في القامشلي في عام 1974، كل هذه الفترة لم ألتق بديبو إلياس، وإذا به قد أقام بشكل دائم في مدينة القامشلي، واتخذ محلا له حمل اسم أخيه ألبير لبيع الطوابع.. كنت اسلم عليه، دون أن أتوقف عنده..
في عام 1960 كنت طالبا في الأول الإعدادي بإعدادية أبي العلاء المعري، الإعدادية الوحيدة للذكور في عامودا، عندما قال لنا الرفيق المسؤول، وأرجح أنه كان ضرار محمد ضرار وهو شاب معروف من قرية خالد من قرى ريف عامودا هاجر لاحقا إلى تركيا وأقام فيها بشكل دائم، قال لنا سيحضر اجتماعنا الليلة الرفيق ديبو إلياس، كنا جميعا قد سمعنا باسمه لكننا لم نره بعد، لأنه كان ملاحقا متواريا، فقد كانت التنظيمات سرية في حقبة الوحدة المصرية السورية..
وهنا أريد أن ألفت النظر إلى نقطة مهمة حتى لا تفوتني وهي أن الأمن في تلك المرحلة كانوا يركزون على الكوادر النشطة، وليس على الناس العاديين، فكنا طلابا ولم يدر بخلدنا أننا سنعتقل، وكنا معروفين كشيوعيين، أعود إلى سياق حديثي..في قعر حجرة منخفضة، وعلى ضوء قنديل باهت، مدت حصيرة متهرئة، كنا الثلاثة، المرحوم ممدوح حاج عجاج بيجو (أبو حبيب) ومحمد لطيف (بافي نازي) وهو غني عن التعريف، وأنا دهام حسن، هذا ما أرجح إن أسعفتني الذاكرة..وإذا بنا نفاجئ بشاب جميل أبيض ناصع البياض، كأنه ابن الثلج، لم نر في صورته وهيئته المدنية المتحضرة أحدا في عامودا، أنيق الهندام، يهبط على الدرج باتجاهنا دون طرق الباب، كيف اهتدى إلى مكاننا هذا الجني الذي ينجم عن الأرض، لا شك أنه عنصر من الأمن السوري، مثل هذه الهواجس راودت تفكيرنا نحن الثلاثة، وكل واحد منا فكر بطريقته كيف يتصرف مع هذا الضيف الطارئ، هذا ما أسرّ واحدنا للآخر لا حقا .. والسبب كان يتحمله الرفيق المسؤول ضرار الذي تأخر عنه ثواني، ثمّ عرّفنا عليه وكان لقاء حميميا..
ديبو إلياس يعد من أهلي عامودا، تميز بجرأة وتحد يشهد له بذلك أهالي عامودا ورفاق الأمس الذين أحبوه كثيرا، في عام 1962 فقت متأخرا من النوم فلم أذهب إلى المدرسة، ذهبت إلى بيت عمتي، فإذا هي تستقبلني وقد استبد بها الخوف، وعندما استفسرت، قالت في بكرة هذا الصباح جاء الأمن يبحثون عنك، قلت السبب، قالت لي يقولون جرى في الإعدادية كما جرى لها في العام الماضي، أي دونت كتابات على جدران الإعدادية، الفعلة التي تكررت غير مرة، فعدت أدراجي باتجاه السوق، وما كدت أصل قريبا من المخفر حتى أبصرت الرفيق ديبو إلياس قابعا في كرسي أمام المخفر، نظرت إليه ربما يؤشر هو إلي بإيماءة ما فلم يفعل، حملت نفسي ومضيت باتجاه الإعدادية، فالتقيت بطريقي على ما أرجح بسليمان حمدي فتحادثنا في الأمر سريعا، وراح ينظر هو إلى ديبو إلياس، أما أنا فسلمته علبة سجائر، قلت له غير مناسب بالنسبة التدخين في هذه السن وفي حضرة الأمن، لن أقف هنا بالشرح، المهم بعد تحقيق مطوّل وتعذيب لي وللمرحوم ممدوح ولمعصوم ملا أحمد وعلي حسين سيد علو قادونا الأربعة مكبلين إلى فرع الأمن في مدينة القامشلي، طبعا كان خامسنا هو ديبو إلياس، أقلتنا سيارة جيب، وصلنا إلى فرع أمن السجن بالقامشلي على ما أذكر، تقدم منا ضابط الأمن يسأل الرفيق ديبو هل أنت شيوعي، قال له بالحرف (أنا شيوعي وشيوعي معروف) أما نحن فقد أنكرنا من أننا شيوعيون..أذكر أن ديبو لحظتها قال للضابط.. أن الشرطي فلان وكان بجوارنا يسمع كان يشتم ويسبّ رئيس أكبر دولة صديقة، وكان يعني بكلامه خروشوف، فقال الضابط لهذا العسكري عندما ناداه باسمه، فلان، فوقف العسكري باستعداد قائلا: نعم سيدي، فقال له الضابط عندك عقوبة، كنا نتعجب من هذه الجرأة التي يملكها ديبو أذكر أني دنوت منه وسألته هل يعاقب الضابط هذا العسكري الذي أهاننا كثيرا في الطريق، فقال لي لا تصدق.! في اليوم الثاني كنا في النظارة، وإذا نحن بثلاثة شباب ناصريين موقوفين في النظارة، وفي ساعة متأخرة في ليل من ليالي رمضان، نام ديبو إلياس فراح الشباب الناصري، يذمون قادة كنا نعزّهم، وكان بجواري الرفيق علي حسين طفح بنا التذمر ولا أعرف كيف قمت منكرا لما يقولونه، وتكامشنا، وكدنا نتضارب، وعلي يهدئ الموقف، ويحملهم تجاوزاتهم، بيد أن الذي أنقذ الموقف، هو ديبو إلياس الذي فاق على صيحاتنا، ثم أسكتهم بمنطقه السياسي والثقافي، ثم تصالحنا على كأس من الشاي كعزيمة لي لتطييب خاطري.. كانوا طلابا في الثانوية.. كان ديبو إلياس عندما يذهب إلى المحكمة يعود محملا بصحف فيها شيء من طابع الليبرالية يخبئها في عبه ويعود بها إلى السجن، ربما كانت الصحف الفجر، الطليعة، وربما سواهما، وكان كثيرا ما يحادث ويناقش مع رجال من الشرطة عن الشيوعية، فقلت له ضاحكا يا رفيق ديبو هل في بالك أن تجعلهم شيوعيين فيضحك هو الآخر، ولا ينقطع عن التحدث إليهم، وأحيانا كانوا يفرون منه تحسبا، التقى ديبو إلياس في السجن الرفيق صبحي أنطون، الذي سألني فيما بعد عن سبب اعتقالنا، ثم نصحني بألا أقترب منه حرصا عليّ، ديبو انتقل إلى السجن الكبير أما نحن بقينا في النظارة لحداثة سننا…
كنت أقدم امتحانات الكفاءة في مدينة الحسكة مع الطلاب الأحرار، والرفيق ديبو كان هو الآخر يقدم الامتحانات، رأيته مرة مقبلا نحوي ضاحكا ليقول لي انظر إلى هؤلاء الشبان، وكانوا من الأمن، قبل أيام قليلة كنت في ضيافتهم معتقلا، وها هم اليوم جاؤوا يتابعونني، ويبدون استغرابهم كيف أني أقدم الامتحانات..
في عام 1962 فصلت نهائيا من المدرسة أنا والمرحوم ممدوح، فعدت إلى قريتي القاحلة، وانقطعت عن ديبو إلياس، ولم ألتق به، في عام 1968 ذهبت إلى خدمة الجيش، ثم كانت إقامتي في القامشلي في عام 1974، كل هذه الفترة لم ألتق بديبو إلياس، وإذا به قد أقام بشكل دائم في مدينة القامشلي، واتخذ محلا له حمل اسم أخيه ألبير لبيع الطوابع.. كنت اسلم عليه، دون أن أتوقف عنده..
كان ديبو إلياس جريئا دخل السجن غير مرة، وفي كل مرة كان يخرج أكثر صلابة وعنادا، حورب ديبو لأنه كادر ينتظره مستقبل واعد، حورب من قبل قيادة المنظمة الأمية في حزبنا، استطاعت تلك القيادة أن تجر الجموع الكورد الحزبيين وراءهم، وحشدهم وتعبئتهم ضد ديبو وسواه، وأظن أن الذين يعرفون ديبو عن كثب ويجلونه أكثر هم أهالي عامودا قال لي أحد الرفاق كلفت كمسؤول عنه، وكان ذلك بمثابة إهانة له، فأمضي إليه، لكني لا استطيع الكلام في الأمور السياسية أو التنظيمية معه خجلا من قدراتي المتواضعة، فيهشّ لي ديبو مبتسما يقول لي لا بأس يا رفيق، باعتقادي أن ديبو هرب إلى رياض الترك لا بقناعة، أو فلنقل أن الانقسام الحزبي الكبير كان لدواع تنظيمية، وليس لدواع فكرية، وإن ارتدت الطابع الفكري..فقد تجلت قضايا الخلاف، في المدونة الشهيرة(آراء وملاحظة الرفاق السوفييت).. وقد قرأتها في حينها وبعدها مرات ومرات.. كان مثل ديبو ينبغي أن يبعد، فاختار هو أن يصطف مع رياض الترك.. ألم يهمل الرفيق عبدي يوسف.؟ ألم يحارب سنوات وسنوات الرفيق (يوسي) أبو خلدون.؟ وحتى القيادة في دمشق أحيانا كانت تخضع أو تتواطأ أو تستجيب مضطرة لرغبات قيادة المنظمة في الجزيرة، هكذا كانت حال الرفيق المرحوم ديبو إلياس مع كبرائنا الأميين الذين أضلونا السبيل..فنم أيها الرفيق الراحل ديبو إلياس في مرقدك قرير العين.. فقد كنت في حياتك بطلا وأسوة تحتذى، وستظل في خلد من يحبوك ذكرى حسنة، لقد كان حديثي هذا نزرا يسيرا من الوفاء، فلا نامت أعين الجبناء والجاحدين..