كيف يصبحُ المرء كاتباً؟!

سعاد جكرخوين

لا تمطر السماء إلا بعد أن تكون الغيوم قبلها قد تكاثفت, لا ينبلج النهار إلا ويكون الليل قبله قد أسدل ستاره، لا تتفاقم  الآلام إلا أن تكون هناك جراح متراكمة, ولا تتعالى سحب الدخان في السماء دون أن  يكون قبله قد شب حريق ونار.   

فلعل كل واحد منا يعبر عن تراكماته وينقل أحاسيسه بطريقة ما, فإما أن ينقلها بشكل قصيدة شعرية أو منظومة  نثرية  أو يحاول الإيماء والإيحاء عما يجول في صدره من الآلام وعما تركه له الزمن من آثار وجدانية  فيكتب عنها بصدق وأمانة ويرويها كأحداث تاريخية أو قصص حقيقية أو من خلال ممارسته عملاً ما  كانتمائه إلى جمعيات أو منظمات ثقافية وسياسية يرى فيها متنفساً لمآسيه  ويعارك من خلالها ظلم السنين ومرارة الحياة.
 فلقد مر كل واحد منا بمراحل زمنية مختلفة تتخللها آلام وأحزان وفواجع, ولكل منا نصيبه من المقدار و الكمية تكون  كافية أن تجعل من كل واحد منا كاتبًا أو شاعراً أو مغنياً. أما أنا وبقية أفراد عائلتي المنتمين إلى عائلة جكرخوين فقد كان نصيبنا كبيراً جداً وبدرجة لا تطاق آنذاك حيث كنا تقريباً الوحيدين في هذا المضمار أتباعاً للظروف التي كنا نعيشها و كان يعيشها أبي, لكننا مازلنا نعيش وحتى اليوم نصارع الزمن ونجابه المصاعب كل منا حسب طاقته وحسب التأثيرات والقدرة على الاحتمال, و مع كل الآلام مع كل الجروح التي مازالت آثارها تعشش فينا, فقد كون كل واحد منا عائلة  ذات أصول وجذور, ولكن ينقصها العلاج الشافي الذي كان من واجب الآباء  القيام بدور المعالجة والتطبيب  إلا أننا لم نحظ بشيء من هذا القبيل لأن عائلتنا كانت سياسية ولم يتح لها الفرصة لالقيام بأي عمل خارج نطاق السياسة, لكنني بدأت ألملم بعضاً من البقايا في ذاتي وما حولي علني أداوي بعض الجراح لتزيح عنا بعض الآلام. بدأت أكتب بعضاً من المآسي والويلات التي لحقت بنا لأجد مخرجاً لأزماتنا  ولعلمكم بدأت أكتبها منذ زمن بعيد وبعيد جداً…منذ أن تحركت في بطن أمي, عندما كنت أسترق السمع إلى صراخها واحتجاجاتها الغاضبة على الألم والحرمان…على الوحدة والهوان, فشربت روحي من آلامها, وتلاحمت أنسجة جسدي الصغير من احتجاجاتها فاختزنت في نفسي مرارة عيشها وأنا لم أبلغ بعد التسعة أشهر في بطنها الممتلئ بالآلام, أصبحت أكتب عندما ولدت بين الضجيج والعويل …بين الترحال والهجران بين العنف و القسوة, بين الخوف والألم ,أكتب كل ذلك على صفحات جسدي المملوء بالجراحات وبذكريات السنين المؤلمة. ففي كل  فتحة من مسامات جسدي تكمن قصة  لي فيها ذكرى مؤلمة مع التاريخ. لملمت آلام الماضي كله في ذهني المتشتت بقوة خيالية رهيبة تفوق قوة السنين فتشبعت روحي بها وتطبعت نفسي عليها, فجمعت طفولتي كلها في رزمة صغيرة, وألقيتها في إحدى الزوايا المنسية النائية من ذاتي وفوق كل ذلك تظاهرت بالرجولة والعنفوان عندما طلب مني ذلك أو بالأحرى فرض علي وأنا طفلة زهيه لم أبلغ بعد سن الرشد .

لم أعرف قط كيف يلعب الأطفال, ولم ألمس بطرف من  طفولتي ولا أحسست حتى بفرح الأطفال عندما تشترى لهم الألعاب, وتهدى إليهم الهدايا, بل عرفت حق المعرفة وحفظت نغمة  طرق البوليس على بابنا في منتصف الليل, واحتفظت بها في ذاكرتي  جيدًا وحتى الآن, كانت هي اللعبة الوحيدة التي كنت ألعبُ بها أكثر الأحيان. أما لعبتي التي كنت أمتلكها في صغري  أضمها إلى صدري  لتشاركني أحزاني  فكانت من عودين متصلبين في رأس أحد أطرافها خرزة كبيرة ملفوفة بقطعة قماش بال وغطاء قنينة الكازوزة  يصبح وجهاً لها رسمتُ عليه نقطتين وسيفين  وأنف بارز وفم صامت بلا  سمات, وكان كل هذا بالمجان . كما أنني درست أقوال أختي الكبيرة (سينم) رحمها الله وحفظتها كالقرآن. كانت تنبهني وتقول لي إذا فتحت الباب لأحد لا تخبريه عن مكان تواجد والدي, بل اصمتي أو قولي إسألوا أختي الكبيرة, لا تأخذي النقود والحلوى من  يديهم فهم بوليس يخدعون وليس لهم أمان, ونحن نعيش يا أختي في عصر رهيب وعائلتنا تعاني الكثير من الآلام التي هم ألحقوها بنا لأننا نعمل من أجل قضية أمتنا ونيل حقوقنا الإنسانية, انتبهي جيداً وكوني حذرة  ويقظة يا أختي .
ويل نفسي! كم كان درسًا رهيبًا تلقيته وأنا طفلة غضة صغيرة لا أعرف شيئاً, لكنني حفظته جيدًا مع أنه كان من أصعب الدروس.  لم أتجاوز تلك المحنة وحتى الآن مازال الصمت يلفني, والخوف يرافقني في أكثر الأحيان, وتساؤلاتي عن الأمل تزداد يوماً بعد يوم,. أقول لكم:
 أنا لا أدعي أنني كاتبة درستُ الآداب واللغات ولا النقد والبيان, بل درست في كل مراحل عمري عن جميع أنواع الآلام,  كتبت عن كل السنوات حتى تلك المرحلة والشهور التي سبقت ولادتي وأنا في بطن أمي, عن المآسي والويلات, كتبت كيف أخفي طفولتي وراء القضبان لأحتفظ بها ردحاً من الزمن, لذا حاولت بعدها هدم كل الجدران وخلع كل القضبان لأجد طفولتي وأنعم ردحاً من الزمن بالأمان, لكنني لم أفلح, فاقتنعت بمبدأ أن أزول ليعيش الآخرون في أمان, لأنير الطريق وأبني مع المبدعين جسراً وصرحاً للأجيال, بل أزرع وروداً من بقايا تلك الطفولة المخفية, فذكرياتي هي فيض من الأنهار وسيل من البحار خلف سدود وهمية, لم تكن يوماً مرئية, ولم تكن قط بكتاب مفتوح يقرؤوه الجميع لتصبح من البطولات والتضحيات, بل أصبحت في سالف الأزمان وعالم الذكريات في طي النسيان, لكنني أرى بعضاً منها تزاحم بعضها الآخر لتكون على صفحات أمامية, إنها تلك الجروح التي لم تلتحم بعد ومازالت آثارها على جسدي وروحي ونفسي وكبدي. تلك الجروح العميقة تناديني الآن وتلح علي أن تأخذ لها في عالمنا الحاضر أية نقطة أو مكان..
مرة أخرى أقول لكم:  لا تخافوا مني, فأنا لا أكتب لأنتقد أو أتبارى على المنصب والعنوان ولكنني أكتب لأكشف عن آلامي وآلام الآخرين وأظهرها كسند و وثيقة ليعرف الجميع أنها حقيقة وتاريخ وعنفوان, وليأخذوا منها العبر والبراهين, وليعرفوا حق المعرفة أن من جاء قبلهم قد مهدوا لهم الطريق وأناروا سراديب الظلام وأججوا هذا الحريق. فما تلك البلاغة والتحدي إلا من جذور أصولها من سالف الأزمان من نتاج آلام  الآخرين وتضحيات هؤلاء الميامين .أقول إنني لست بكاتبة اليوم ليكتبوا عني في بياناتهم بالسطر الكبير ويمدحونني وعائلتي بالألقاب الفخمة ويهبوننا الميداليات, بل أكتب لأعلمكم ما معنى الفقر والحرمان, ما معنى أن لا يكون الإنسان في أمان, ما معنى التشرد والهوان…ما معنى أن لا يكون لي وطن ولا بيت ولا مكان, وأن أكون بلا هوية وأنا في أرضي مهددة بالهجران وفوق ذلك كله أن أكون امرأة  وأين؟! في عالم الهذيان . فلقد علمتني السنون ودربتني الأيام ..فأصبحت كالسنديان أعرف لكل طرقة معناها ولكل شريحة مغزاها فأشتهي الحرية والاستقرار. بعد أن شردت ردحاً من الزمن مع أهلي من مكان إلى مكان من قامشلي إلى دمشق ومن ثم إلى بغداد, لم نشعر قط بالاطمئنان ..
 فتارة هنا وتارة هناك, نقطع الحدود جياعاً, حفاة, حاملين معنا على أكتافنا الخوف والممات  الرعب والصلوات ..إلهي هل هذه هي سنة الحياة ؟! نعود مرة أخرى من هناك بعد أن شردتنا السلطات, فعدنا إلى مكاننا ونحن لا نضمن النجاة فلا وطن يحوينا ولا أمان يلقينا فكانت النتيجة والدي إلى السجن وبيتنا بالسلطة محاط  …لماذا؟ هل تعرفون لماذا ؟ لأننا قلنا رباه النجاة, أعطنا خبزًا وأعطنا الحياة وأعطنا هوية وثبات ……….
 أقول إنني لست كاتبة اليوم وإنما منذ زمن بعيد جدًا عندما جردت من حقوقي الإنسانية, فرفضت من عملي طوال سنين ومنعت من الدراسة خارج البلاد بمنحة دراسية  كنت قد حصلت عليها من المركز الثقافي السوفيتي آنذاك عند دراستي للغة الروسية  وتفوقي  فيها وذلك لعدم حصولي على تأشيرة الخروج من البلاد, هل تعرفون لماذا؟ لأن الخط الأحمر كان يلازم دفتر القيد والهوية كافحت و اعترضت, لكنني لم أفلح فخسرت منحتي الدراسية. رباه لم هذا العنف, لم هذا الظلم كله! هل تعرفون لماذا؟ لأنني كردية وابنة شاعر كردي!! لذا أقول إنني لست بكاتبة اليوم, لست وليدة ساعات  وإنما حكايتي مع الزمن طويلة, ولي بحور من الذكريات وظلال لطفولتي المخفية ما زالت قائمة حتى اليوم وتاريخي كله الذي أصبح في سالف الأزمان وكل الآلام والجروح التي لحقت بنا مع مرور السنين إلى أن حالفنا الحظ  لنهاجر ولكن هذه المرة ليس حفاة ولا بخفية هاجرنا إلى بلاد بعيدة…قضينا فيها سنين عديدة  فسرقنا من الزمن أياماً عشناها في هناء وديمقراطية, ومع ذلك لم أترك الفرصة تفوتني فأسست مع النساء الكرديات جمعية..أكافح لأمتي ولنساء جلدتي ولجميع نساء الكرة الأرضية, وعملت أعواماً عديدة دون كلل أو ملل لأنني كنت أسير على خطا والدي وعائلتي المناضلة. كما أنني درست كيف أربي الأطفال في الرياض تربية سوية فعملت سنيناً طوال مع أطفال الكرد والعوائل الكردية, فتشربت منهم الآلام على مضض آلامي فزادني هذا عناداً وتحدياً,وواصلت عملي مع  الأطفال ومع النساء الكرد فكنت شاهدة على الآلام والمآسي الاجتماعية بل على مأساة كل من يحمل تلك الهوية فزدت تجربة عبر السنين وجمعت لدي قاموساً وأبجدية …فها أنا ذا أقتطع من الزمن أوقاتاً لأموري وهواياتي الشخصية لأنقل إليكم  صورأ وبراهين شفافة من طفولتي ..ومن تجارب عائلتي…لعلني أنجح في نقل الصورة الحقيقية    فالقلم الحر والمنبر ملك للجميع,  فلا أحد يستطيع أن يحتكره, ولا أحد يستطيع أن يمنعه ويردعه فلندع  النقد  للتاريخ وللنقاد الحقيقيين الذين سيأتوننا فيما بعد, فليس لدينا اليوم في كل مكان جامعات كردية لتدريس مناهج البحث والنّقدِ بشكل أكاديمي, نحن لا حول لنا ولا قوة إلا الاعتماد على قدراتنا وإمكانياتنا الذاتية المحدودة, لذلك علينا أن نترك الأمور للمستقبل, فلابد لليل أن ينجلي ولابد للقيد أن ينكسر, عندها علماؤنا وعباقرتنا سيقررون وينتقدون الجيد منه سيمجد والسيء منه سيذهب إلى سلة المهملات مهما لونته بعض الشخصيات وروجت له بأقلامها

فلكل مكانته ووزنه في هذا المجتمع, فالذين تعبوا وتعمقوا في البحث سيكون لهم حتماً مكاتنتهم الخاصة. هؤلاء الذين عملوا وأحسوا كيف تموت الضحكة في أفواه الأطفال فتتجهم وجوههم على حين غرة عندما يمعنون النظر في كرباج جلاد أو يفاجئون بقبعة أحد رجال الشرطة العسكرية أصحاب القبعات الحمر الذين لم يغيبوا ولم تغب قبعاتهم ولا لحظة واحدة عن بالي ولامن أمام ناظري, فهم يعيشون في ذاكرتي ومخيلتي وفي كل حياتي الشخصية. لقد استحوذوا على جزء كبير من حياتي . أردت اليوم أن أكتب عنها وعن آلام السنين التي جعلتني شاهداً على المآسي والاستبداد والطغيان  لنبني للأجيال صرحاً ومستقبلاً وهوية .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم محمود

أول القول ومضة

بدءاً من هذا اليوم، من هذه اللحظة، بتاريخ ” 23 تشرين الثاني 2024 ” سيكون هناك تاريخ آخر بحدثه، والحدث هو ما يضفي على زمانه ومكانه طابعاً، اعتباراً، ولوناً من التحويل في المبنى والمعنى القيَميين والجماليين، العلميين والمعرفيين، حدث هو عبارة عن حركة تغيير في اتجاه التفكير، في رؤية المعيش اليوم والمنظور…

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…