فرات اسبر في (زهرة الجبال العارية)..السرّ ليس في الشعر بل في حياتنا المشّعة

  إبراهيم حسو

لا تستعرض الشاعرة السورية فرات اسبر المقيمة في النيوزلندة عبر مجموعتها الثالثة (زهرة الجبال العالية) تجربتها الحياتية في الغربة مثلما تفعل الكثيرات من الشاعرات السوريات اللواتي تعشن في البلاد الأجنبية، هي تكتب كأنها في وطنها تعيش حياتها الراكضة و المتقّدة التي على ما يبدو هي طزاجة شعريتها وعنوان تجربتها المعيشية في الغربة التي لم تستسلم لتآكل الزمن من عمرها هناك دون أن تلمس الحضارة المدنية الغربية طرف ذاكرتها و نقاوة مخيلتها الأصيلة، ودون أن تزحزحها ماكينات الاغتراب من كتابتها بالعربية، لتغرف من بلاغتها تلهفها و من جماليتها توقها إلى هواء وطنها و بساطة مواطنيها.
نصوص فرات ناطقة باسمها بصداها هي و بصوتها الخاص بأحاسيسها الصلدة الرخوة بحروفها المتقلّبة في سياقات لا حدود لكمالها، نصوص من كلمات مخضّبة ملجومة أو محبوسة من معانيها و خيالها المستعرض، كتابة فرات سائرة في إطلاق صوتها غير عابئة بالفكر والفلسفة والأساطير، تخترق سطح الأشياء وتلمسها من أطرافها من قشورها وإن بدت القشور استنفاراً لعاطفة مختبئة و نافرة ممتزجة بذلك القلق الأنثوي المحيّر الغضوب: ‏
(غفوت في مهب الذاكرة، ‏
مبللة كخشبة..

 


أيها السمك المجفف، قلبي.. ‏
يا درباً تمشي به الآلام ‏
لا عصا موسى أهشّك بها ‏
ولا جب يوسف أرمي إليه بالأسرار. ‏
لا تنقب فرات كثيراً في جيوب اللغة، ضالتها ليست في البلاغة التي قد تأخذها إلى شواطئ أخرى أبعد من جزر النيوزلنده نفسها، تبحث وبتوحش عن العناصر التي قد تأثث هذه اللغة وتأكد جدارتها البنائية في محاولة لاستنطاق معانٍ صامتة وإقامة صلات جديدة بين المعاني نفسها، بمحاولة حزم المخيلة الشعرية بالتجربة الحياتية المجردة ومصالحة خفية مع ذاتها الشاعرة. مفردات فرات تتوالد و تتكاثر دون جهد أو قسرٍ، تأتي هكذا مطواعة مغسولة من لزوجتها و هلامها وقد تكون فرات من الشاعرات السوريات القليلات اللواتي يتعبن على تجهيز المفردة والعمل عليها كصنعة النقش على أواني الزجاج .لهذا فاللغة عند فرات استخلاص المدلولات والرموز البسيطة التي لا تكاد ترى أو تشعر ببأسها، دلالات متقاذفة و مستنفرة تحضر هنا وتغيب هناك و في عملية الحضور والغياب تبرز أهمية هكذا النوع من الكتابة الشعرية: ‏
المواعيد ‏
لم يكن لها نوافذ ‏
تمرُّ القطارات عبر العيون ‏
التواريخ مدن منسية ‏
والأحلام بيتنا المهجور. ‏
غزارة نص (زهرة الجبال العارية) بالدلالات جعلت من لغة فرات مرّكبة و متلّبدة و أحياناً مخترقة بمفردات معجمية لا تقترح إلى بعد جمالي أو بلاغي إلا في مكامن ضيقة و منزوية لاسيما في النصوص التي تقلدت عناوين ملتبسة (مكان يصرخ بالمكان، جربتُ أن أكون عمياء، لينابيع في الغامض المطمئن، أسماكُ تصرخُ في جسدي . مطرٌ تحت جلدي) عناوين تبحث على متن النص عن أفكار لا عن فكر عن وقائع يومية لا عن حلم أو رؤى ميتافيزيقية: (لا باب لي ولا محراب من أحسن الطين جُبلتُ). ‏
مع ذلك تبدو فرات منغرسة بخلاصة سيرتها الخاصة بخبرتها في الحياة و تجربتها في الغربة، سيرتها ليست موضوعاً شعرياً بقدر ما هي الشعر نفسه وإن اختلفت الكلمة هنا و صابت هناك، سيرتها تبدأ في سرد ذاتيتها و استخلاص الشعري منها، أو تسوية حياتها الخاصة بالشعر و التأمل البعيد في استدرار الأجوبة عن أسئلة غامضة في أغلب الأحيان
—————————-

صحيفة تشرين
ثقافة وفنون
الاحد 22 آب 2009

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

غالب حداد

1. مقدمة: استكشاف “العالم الجميل الموجود”

تُقدّم مجموعة القاص والشاعر الكردي السوري عبد الرحمن عفيف، “جمال العالم الموجود”، نفسها كعمل أدبي ذي كثافة شعرية فريدة، يرسم ملامح مجتمع مهمش، ويحول تفاصيل حياته اليومية إلى مادة للتأمل الفني والوجودي. ويأتي تحليل هذه المجموعة، التي تمثل تطورا لافتا في مشروع عفيف الأدبي الذي تجلت ملامحه…

مصطفى عبدالملك الصميدي| اليمن

باحث أكاديمي

هي صنعاء القديمة، مدينة التاريخ والإنسان والمكان. من يعبر أزِقَّتها ويلمس بنايتها، يجد التاريخ هواءً يُتَنفَّس في أرجائها، يجد “سام بن نوح” منقوشاً على كل حجر، يجد العمارة رسماً مُبهِراً لأول ما شُيِّد على كوكب الأرض منذ الطوفان.

وأنتَ تمُرُّ في أزقتها، يهمس لك الزمان أنّ الله بدأ برفع السماء من هنا،…

أُجريت صباح اليوم عمليةٌ جراحيةٌ دقيقة للفنان الشاعر خوشناف سليمان، في أحد مشافي هيرنه في ألمانيا، وذلك استكمالًا لمتابعاتٍ طبيةٍ أعقبت عمليةَ قلبٍ مفتوح أُجريت له قبل أشهر.

وقد تكللت العمليةُ بالنجاح، ولله الحمد.

حمدا لله على سلامتك أبا راوند العزيز

متمنّين لك تمام العافية وعودةً قريبةً إلى الحياة والإبداع.

المكتب الاجتماعي في الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الكرد في…

د. فاضل محمود

رنّ هاتفي، وعلى الطرف الآخر كانت فتاة. من نبرة صوتها أدركتُ أنها في مقتبل العمر. كانت تتحدث، وأنفاسها تتقطّع بين كلمةٍ وأخرى، وكان ارتباكها واضحًا.

من خلال حديثها الخجول، كان الخوف والتردّد يخترقان كلماتها، وكأن كل كلمة تختنق في حنجرتها، وكلُّ حرفٍ يكاد أن يتحطّم قبل أن يكتمل، لدرجةٍ خُيِّلَ إليَّ أنها…