احتضار الفلسفة

خالص مسور

تعني كلمة الفلسفة أوphilosophie) ) حب الحكمة أو حب المعرفة، بهذا المعنى دأبت الفلسفة كنشاط فكري امتاز به الإنسان في إدراك العالم والبحث الدائم عن الله والحقيقة والمعرفة الكلية، كما ميز به الإنسان نفسه عن الحيوان وانتقل من جنس الحيوان إلى نوع البشر حسب نظرية التفكيك للفيلسوف الفرنسي الحداثي (جاك دريدا).

وبذلك كانت علاقة المعرفة بالوجود تعبر عن تطورالانسان في سلم الرقي الحضاري بقفزات هائلة. ولم تكن الفلسفة الشكل الأول للنشاط الفكري للإنسان، بل ربما كانت الأسطورة هي الشكل الأول الذي انبثقت عنها الفلسفة، ولهذا نقول أن الفكر الفلسفي نشأ منذ أن ميز الإنسان نفسه عن الحيوان بالثقافة والنطق والفكر ولهذا قيل (الإنسان حيوام مفكر)، مدركاً بذلك علاقته بالوجود وما حوله وما يحيط به.
والفكر الفلسفي كممارسة ونشاط أسلوب جديد للفكر البشري خرج بدون منازع من رحم الفكر اليوناني، ولكن لايعني هذا أنه لم يكن هناك نوع من الانجاز الفلسفي لدى الشعوب الأخرى كالصينيين والهنود والفرس مثلاً، أو الشعوب البدائية التي كانت تتوفر لديها نوع من الإيديولوجيا الدينية والدنيوية منذ عصر ما سمي بـ(الدولمين) الموغل في القدم، حيث ظهرت من بينها آنذاك وربما قبل آنذاك أساطير وحكايات تمجد الآلهة، حين كانت الإسطورة هي الشكل السائد للوعي الاجتماعي تؤطرها مصالح جسدية ونفسية في آن أي نشأت الأساطيرخشية ورهبة من القوى الغيية من جانب، و طمعاً ببركاتها من جانب آخر، وفي اليونان كان (هوميروس) يعد أهم أقطاب الإسطورة اليونانية في ملحمتيه الخالدتين الإلياذة والأوديسة، وبعدها كانت الفلسفة اليونانية المادية التي اعتبرت المادة أصل العالم وركيزته.
ومع هذا يعتقد بأن الفلسفة اليونانية ليست يونانية خالصة، بل – كما قلنا- هي مزيج وتفاعل وتناص وتلاقح مع الفلسفة الشرقية التي أنجزها السومريون، أو البابليون، أو الهنود، أوالفرس. ويؤكد ذلك (جورج ساتورن) بقوله: إن الفلسفة اليونانية هي وليدة أو مزيج من الثقافة المصرية والبابلية واليونانية، بل وربما كانت البابلية هي الأب الشرعي للفلسفة اليونانية.
وبناء على هذا يمكننا القول: بأن الفلسفة ظهرت متميزة عن الإسطورة ومستقلة عنها لأول مرة على السواحل الغربية لتركية الحالية او آسيا الصغرى والتي كانت أرضاً يونانية آنذاك وكانت (ملطية) المركز الرئيسي لظهور التعاليم الفلسفية اليونانية، وكانت المنطقة موطناً لظهورت النظريات القائمة على المنطق والتحليل والبرهان، وتقسيم العمل حيث أشار اليونانيون هناك ولأول مرة إلى الفصل بين العمل العضلي والعمل الفكري. وقد ساعد على ظهور الفكر الفلسفي اليوناني بالإضافة إلى احتكاك اليونان مع الحضارات الأخرى هي ظاهرة العبودية، والتجارة، والنقد، وبدوره ساهم الفكر الفلسفي في نقل المجتمع اليوناني نحوتاريخ جديد وانتصر التفكير العقلاني على التفكيرالإسطوري بتوجه الفكر هذه المرة نحو الطبيعة والمجتمع واستنباط النظريات والحقائق منهما مباشرة، في الوقت الذي كانت الميثولوجيا في حالة تراجع بتراجع الطبقة الإقطاعية الحاضنة لها. التظهربعد المرحلة الاقطاعية بوادر ما سمي بالفلسفة السفسطائية وتعني الدوران حول الحقيقة ودعي فلاسفتها بالحكماء، ومن أقطاب هذه الفلسفة نذكر كلاً من بروديكوس، وبروتاغوراس، وهيبوس، وجورجياس وغيرهم. جاء بعدها العصر الديموقراطي حتى ظهر المعلم الأول أرسطو ليكون شاهداً على انحطاط الديموقراطية الأثينية وتوابعها في هذا العصر وتركيزه على فلسفته الجوهر لا المظهر.   
ولكن ما هو مصيرالفلسفة في الوقت الراهن يا ترى؟ وخاصة ونحن نتلمس اليوم الفلسفة وبعدما كانت تنعت بأم العلوم، تتخلى عن كثير من تلك العلوم التي كانت منضوية تحت ظلالها وبدأت تتخلى عن تاريخها التليد لتسير في طورالإحتضار والإنحدار السريع بشكل دراماتيكي مثير، ونادراً ما نجد اليوم في الجامعات الأوربية العريقة من يتخصص بالفلسفة، وقد سمعت من إحدى الفضائيات قبل عام مضت تقريباً أحد الفلاسفة الحاليين وقد عرف نفسه بأنه من خريجي جامعة السوربون في فرنسا ولن يحضرني الآن اسمه، قال في مقابلته مع فضائية الجزيرة: كنا (48) طالباً فقط في جامعة السوربون في قسم الفلسفة وكلنا أفريقيون ومن العالم الثالث تحديداً بينما لم يكن بيننا من الأوربيين سوى فرنسي واحد.
نعم هذه الجامعة العريقة ليس فيها سوى فرنسي واحد يريد التخصص بعلوم الفلسفة أو بالأحرى بعلم الفلسفة. ولهذا أقول بدأ نجم الفلسفة بالأفول والإحتضار بشكل مأساوي مخيف، احتضار أم عجوز لم تجد من يواسيها من أبنائها سوى بعض المخلصين لها من العالم الثالث وهم لا زالوا متمسكون بفلسفاتهم آملين أن يطوروا عن طريقها وعي مجتمعاتهم النامية في عصرالتكنولوجيا وغزوالفضاء. نعم تحتضر الفلسفة اليوم وإن لم تمت، وأعتقد أنها ستبقى في طورالإحتضار ولن تموت، بل ستبقى علماً مهمشاً في الحياة العملية للإنسان العملي القادم، وسيبقى هناك من يتخصص فيها ولكن على استحياء وخجل، وسبب تهميشها مع استمراريتها يعود لضرورات علمية لابد منها وهي: أن الفلسفة تتوفر على المنطق، والحجاج، والفكر، بالإضافة إلى أنها رياضة عقلية على الأقل قد لايستغنى عنها، ومع هذا فستبقى علماً هامشياً يحتضر وليس له رواج في أسواق العلوم الحديثة، وهذا برأيي يعود إلى عدة أمور منها:
1- لقد فشلت الفلسفة في آداء مهتها الرئيسية التي نظر لها نفسها، أي فشلت في كشف الحقيقة، والله، والوجود، بالمنطق والعقل.
2- كانت الفلسفة تسمى قديماً أم العلوم، أي أنها كانت تضم تقريباً معظم العلوم المعروفة في العالم في وقت من الأوقات، ولكن اليوم بدأت هذه العلوم تستقل منها تباعاً وبقيت الفلسفة مقتصرة على دراسة بعض المواضيع الفكرية واجترار ماض تليد، لا بل لجأ الفلاسفة إلى الإستعانة باللغة يعبرون بها عن فلسفاتهم كالبنيوية، والتفكيكية، والظاهراتية، والمستقبلية….الخ بعدما جفت العديد من منابعها الأخرى.
3- بالإضافة إلى أن الفلسفة بطبيعتها علم معياري، أي ليست لها نظريات ثابتة ورصينة كبقية العلوم الطبيعية، وكل فيلسوف يأتي ليخطأ الذي قبله ويناقضه في علمه، كما هو الحال بين المادية والمثالية، وبين جدلية هيغل وماركس مثلاً الذي وصف جدلية هيغل بأنها مقلوبة رأساً على عقب، ويعني بها أنها جدلية مثالية تبدأ من الله وتنتهي عنده، بينما جدلية ماركس مادية تسيرعلى رجليها وفي الوضع العادي، وبين من يقول أنا أفكر إذاً أنا موجود(ديكارت)، وقائل (بما معناه) أنا موجود إذاُ أنا أفكر(ماركس). وفيما يعلن الفلاسفة الميثاليون أمثال هيوم، وبيركلي، وهيغل وغيرهم بأن في البدء كانت الكلمة وهوالله ليأتي آخرون أمثال سارتر الذي قال مقولته الشهيرة: (مع الأسف لقد مات الله). أي ما أود التوصل إليه من خلال هذه الأمثلة هو أن الفلسفة علم معياري يقوم بها أفراد أي تقتصر على الآراء الفردية وحدها.
3- ظاهرة الإجتراروالمراوحة في المكان، والدليل هو ظاهرة الفلاسفة الحاليين الذين جفت منابع علمهم إلا من قول هنا وقول هناك قد لا يسمن ولايغني من جوع.  فالفيسلسوف القديرالسيد احمد برقاوي من سورية مثلاً، سخر لا بل حشر كل فلسفته في زاوية ضيقة من جريدة الثورة على ما أعتقد، وهذه الزاوية رغم فائدتها التنويرية ألا أن مواضيعها مطروحة على قارعة الطريق يستطيع كتابتها البدوي والقروي والمدني…الخ، وإن لم يكن مثلها فبأحسن منها. كما أن الإستاذ القديرالآخرالسيد الدكترورطيب تيزيني دخل في مرحلة سبات فكري طويل لم يستفق منه إلى الآن، فأتذكره ومنذ أكثر من أربعين عاماً وهو يردد ويدعو إلى مشروع أثير لم يخطو به حتى الآن الخطوة الأولى منه، ألا وهو ما يدعوه ليل نهار بـ(المشروع النهضوي العربي) الذي ما فتيء يردده بمناسبة وبدونها، تشبهاً برواد عصر النهضة الأوربية كمونتسيكيو، وجان جاك روسو، وكانط وغيرهم – وكما قلنا- لم يفلح الرجل في أن ينجز منه شيئاً على الصعيد العملي، كما أن المفكرين والفلاسفة المغاربة لا زالوا يجترون ما كتبوه منذذ تخرجهم من الجامعات الفرنسية وإلى اليوم، أمثال السادة عبد الله العروي ولهفته على الحرية، ومحمد أركون والفكر الإسلامي، ومحمد عابد الجابري وقضية التراث أوالأصالة والمعاصرة …الخ.
لن نستهين في الحقيقة بما يطرحه هؤلاء الفلاسفة القديرون حقاً ولكنهم المراوحون والمقلدون لاغير، وما أريد قوله هنا هو أنهم لم يؤسسوا لمشروع فلسفي عربي بسمات وخصائص عربية، فلم يصددر منهم نظريات تناجز كالبنيوية، والوجودية، أو المستقبلية، والتفكيكية…الخ. وحتى زملاؤهم في الغرب ممن ورثوا هذه النظريات الفلسفية الحديثة بدأوا بالإجترارمنذ ستينيات القرن الماضي، وقد لجأوا إلى اللغة في تفسير الكثير مما يحتاجونه في فلسفاتهم ومناهجهم الفلسفية، ولم تظهر بعد الفلسفة التفكيكية – التي اتصفت بالفوضوية في المعالجة والطرح- لم تظهر نظريات تفرض احترامها وقناعاتها على المجتمعات الغربية أو الإنسانية عموماً، وبقيت الفلسفة في حقيقتها لا تخرج عن نطاق الجدل القديم بين المادية والمثالية رغم القول أن هذا التقسيم أصبح بالياً وقديماً ألا أنه حاضر على أرض الواقع بالقوة والفعل معاً.

 وفي الختام لا أقول يجب أن تنتهي الفلسفة أبدا لا…وليس هذا مقصدي وإنما أتحسر على أيام الفلسفة والتي هي – كما قلنا- رياضة عقلية وجدل ومنطق وفكر على الأقل، ولكني أدعوها إلى تطوير نفسها أسوة بالعلوم الطبيعية والعمل نحو فلسفة عملية تخدم الإنسانية بشكل أو بآخر، لتفيد وتسفيد، وأن يظهر لدينا أمثال ممن ظهروا في الغرب من أسماء كانت لامعة في سماء الفلسفة الآيلة إلى اليأس والقنوط، ككانط، وروسو، ورولان بارت، وجاك دريدا، وباشلار، وماركس …الخ. ودراساتهم الجادة في العقلانية، والعقد الإجتماعي، والبنيوية، والجدل، وفي اللسانيات، والسيميائية، والنص المفتوح…الخ.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم محمود

أول القول ومضة

بدءاً من هذا اليوم، من هذه اللحظة، بتاريخ ” 23 تشرين الثاني 2024 ” سيكون هناك تاريخ آخر بحدثه، والحدث هو ما يضفي على زمانه ومكانه طابعاً، اعتباراً، ولوناً من التحويل في المبنى والمعنى القيَميين والجماليين، العلميين والمعرفيين، حدث هو عبارة عن حركة تغيير في اتجاه التفكير، في رؤية المعيش اليوم والمنظور…

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…