«لمقام النوى»

محمد باقي محمد

·  صلاة لمقام التشوّف :

   من شمال لاهث ومُغبر جاء , ومن سورة النساء في مشرق الجهات انبثقت , وفي مُنتصف المسافة التقيا ذات مُصادفة  محض , كان المقعد الخشبيّ – في تلك الزاوية النائية من الحديقة – يشكو التوحّد في ذلك الضحى المُرهق بحرارة صيف قائظ , وكانت بتلات النبات قد أحنت أعناقها من فرط التعرّق , غير عابئة بسقسقة الماء الوانية الضجرة في بحرة المركز , فرح بها , ولم تكن أقلّ منه نعمى !
   سأضمّها إلى صدري ! – قال – وأبوح لها باشواقي !

  سأضع رأسي على كتفه ! قالت ..
  وسأمسّد على شلال شعرها الحريريّ ! قال ..
  وسأغفو على إيقاع أنفاسه العابقة برائحة تبغه الرخيص ! قالت ..
  على قلق انتظرَ ..
   ولكنّه هو الرجل , وهو المُطالب بالبوح ! تفكّرت , فيما أنشأ أسى مُبرّح يفرد قلوعه على  وجهها المغسول بالشجو والفتنة والغوايات المُلغزة ..
  عاتبة كانت ومُوزّعة , فيما كان التردّد والحيرة يشمان حركاته !
  همّ بالبوح , ثمّ أحجم تحت ضغط من التربية الزمّيتة , وحالت صورة المرأة في عالم مُخلّف بينها – هي أيضاً – وبين بوح شفيق كان يتخلّق على نحو ما , وعلى نحو ما بدا بعيداً ومهزوماً كراية مُنكسرة ، فيما  بدت هي غاضبة  ومهيضة ومُهانة !
    انتظر وانتظرت ، ولمّا أعياها تفصيل المسألة , وأثقل الانتظار على أعصاب يفثها الحنين واللايُسمّى من الأحاسيس , ولمّا أرهقه الصمت إذْ تسيّد المشهد , نهضت بتثاقل غصن مُثقل ينوء بثمار ناضجة تتشوّف يداً مقتطفة , وتلجلج في جلوسه , من غير أن يسعفه وقوفه المرتبك بمخرج !
   كليمة غادرت المكان على انفطار , يعتسفها شجن مُتأبّ على الرحيل , فراحت تداري دمعة حرّى ، أخذت تلوب باحثة لنفسها عن مجرى ! وبدا رهين غضب مُبهظ , لا يعرف له تصريفاً , فمضى وهو يكتم غيظه المُبهم الذي سيظلّ يبحث لنفسه عن مسرى !
·  فصل الرحيل :
من جنوب منذور للهاجرة والنسيان كان قد جاء ، هناك حيث يعتصر حسّ الإثم الدينيّ – ناهيك عن حسّ العيب الاجتماعيّ – الحياة من المعنى والقيمة والجدوى , فيما حملتها رياح الفقر والحاجة من مشرق الجهات , غبّ أن غادرت أرمينيا خانة الاتحاد السوفييتي السابق , والتفتت إلى همومها وشجونها ، وكانت باريس مرفأهما الجديد والصارية والمنارة والسفين!
كانت هي قد أقسمت ألاّ تقارب عالم الرجال ، غبّ تجربة زواج مريرة , انتهت إلى طلاق بائن , وخلفتها للوحشة والتوزّع وارتطام الجهات , وكانت الطفلة التي تركتها وراءها في حضانة أمّها هناك ، ريثما تتدّبر أمورها في باريس ، جرحاً راعفاً  ينزف صديداً وألماً لمّا يتوقف !
 وهو كان مسكوناً بشوق قديم إلى امرأة مُضوّأة بالمسك والعنبر , امرأة تختصر في سناها سحر النساء وفتنتهنّ التي لا تبارى , امرأة حلم ربّما لأنّ المسألة بمُجملها كانت مُحتكمة إلى كبت موروث ومُتوارَث ، وهي كانت – كما لبوة جريحة – تتحسّس بغريزتها أنّ دواءها من فصيلة دائها !
كيف غادرها حذرها !؟ هي لم تعد تدري ! وكيف غادره خجله الذي رافقه عمراً كظلّ بسبب من تربيته المُتزمّتة ، هو الآخر لم يعد  يدري !؟
هناك على ضفاف السين غيبتهما الأشجار الظليلة في عبّها ، كانت كنيسة القلب المُقدّس  الناهضة على ربض من حيّ ” مونمارتر ” شاهداً على حبّهما ، وحول المُربّع الذي يضمّ رسّامي الرصيف ، وثقَ فنان يابانيّ علاقتهما في لوحة حيّة خالدة , ولأنّه لم يعتد التعبير عمّا يجيش في الحنايا من أحاسيس ، انتظر إلى أن غيّبتهما غابة بولونيا في كثيف ظلالها ، ليطبع على شفتيها قبلته الأولى , ولأنّها ابنة ثقافة أخرى علّمته  – ذات ليلة صيف لا تتكرّر – كيف يُعبّر الجسد عن جذاذاته وبراكينه الكامنة ، وكانت الرحلة التي ضمّتهما على سفينة مكشوفة تهادت على صفحة السين تجربة لا تنسى بالنسبة لهما ، أمّا منظر باريس الساحرة من أعلى برج إيفل فسيظلّ مطبوعاً في مدخل قلبيهما كما وشم ، وكان من الطبيعيّ أن يباهى بـ ” التبولة ” اللبنانية التي قدّمها لها في الـ ” سان ميشيل ” !
   لكنّ الدمعة الحرّى كانت جاهزة ، لأن تتلمّس طريقها عبر وجنتها نحو الذقن ، فلقد انتهت إجازته ، وحان موعد عودته إلى الوطن ، صامتيْن وعاجزََيْن عن النظر في عيني بعضهما وقفا في أرض المطار ، كانت نظراتهما تمرّان بالأشياء من غير أن ترياها !
هل سيُقيّض لها أن تراه ثانية !؟ هجست ..
ولأنّ الجواب أعياه هو الآخر صمت ..
وعندما أزفت لحظة الوداع مُمتقعة وحيرى – كما دجاجة تفاجأت بظلّ طير فوق مُتناثر فراخها -بدت ، فهل أخذت الطائرة  – إذاك – قلبها معها إلى الأبد !؟
أمّا اليوم فإنّ الباريسيّون – ومعهم الغرباء أيضاً – ما يزالون يتساءلون عن سرّ دمعة مُقيمة استوطنت عيني امرأة ، كانت قد قدمت من مشرق الجهات ذات هبّة ريح ربّما ، وما يزالون يهزّون رؤوسهم بأسى ، آنَ تقع أعينهم عليها وهي  ما تنفكّ تتردّد على الأمكنة والمعالم والزوايا التي لمّتهما في أمس القريب راح ينأى !
· لذاكرة الوجع :
     عندما وقعت عيناه عليها ، أحمر وجهه حتى الأذنين ، وارتفع وجيب صاخب في الوتين ، فيما عرى وهن مُفاجىء الركبتين ، كانت صفرة شاحبة قد علت ملامحه البليدة ، تماماً كما حدث له حينما رآها في المرّة الأولى ، كان ذاك قبل أربعين عاماً ونيّف وستة أيام وسبع ساعات واثنين وعشرين دقيقة وثلاثين ثانية !
     كان هو قد قصد سوق الخضار بهدف التسوّق ، وهي مهمّة أسندها لنفسه ، لا لشيء إلاّ ليشعر بأنّه حيّ ما يزال ، وهناك عند القفص الصدريّ نحو اليسار شعر بالوخزة ذاتها ، تلك التي ترافقت برؤيته لها للمرّة الأولى ، إذاك هتف هاتف مُبهم بأنّها هي .. ! هي من يبحث عنها ، لتندغم بفقرات العمر كصنو للروح أو كوشم!
    وداخله حرج من نوع ما كما في أيام الشباب تلك ، ذلك أنّ عكازاً مقيتاً كان قد انضاف إلى ” كاركتره ” بعد آخر لقاء لهما ، لقاء وقع في مكان ما .. في زمان ما ، لكنّه لم يعد يتذكّره ، ناهيك عن ألم ألمّ بالمفاصل ، واشماً مشيته ببطء لافت!
    وهشّت هي الأخرى لمرآه ، فتدوّر الوجه الذاهل ، ليُفصح عن ابتسامة ناحلة ، وشت بجمال راح يُغرّب تحت فأس السنين الظالمة المُتصرّمة لا تلوي على شيء !
   عن الأحوال سألها وعن الأولاد والأحفاد ، فأنّت كقطة ركلتها قدم ، وهزّت كتفيها بارتباك أخفق في التعبير عن اللامُبالاة ، وكم بدت – إذاك – فاتنة وغرّيرة ، لتذكّره بماضيات الأيام الجميلة ، وما كان أقلّ منها ارتباكاً وخيبة في أجوبته اللاهثة المُتقطعة، التي راحت تشكو قطعاً في السياق المُبهظ بالذكرى والإخفاق والتعثر ، ناهيك عن أثر الأعوام العاصفة الضنّينة باللقاء أو – حتى – بالأمل – على إبهامه – في ذواكر أضناها الفراق والإحساس بالكبر!
    وتمنّى وتمنّت ، أن تطول لحظة اللقاء كانت مُنتهى الأمنيات ، بيد أنّ التسويف والتباطؤ والإرجاء والمُماطلة لم تنجح جميعها في تأخير الفراق إلاّ بحدود !
      يا قلب دع عنك المُكابرة ، والحق بها ، فأنت تعرف بأنّها ليست مُجرّد امرأة فحسب ، بل إنّها امرأة وحقبة وعمر ! قال ، لكنّ قدميه – ولسبب عجز عن تأويله – لم تستجيبا له في يبس ..
      إلى أين أيتها الحمقاء !؟ عودي إليه .. إلى قلبك ، فالعمر انسرب كثيره على نحو مُخاتل ، ولم يبق لك إلاّ التشوّف الجارح ومظلة من الحنين والوجع والحزن والخيبة ، ناهيك عن الإخفاق في الإمساك بالزمان الهارب المتأبّي على الاصطياد !؟ قالت ..
     ضمّد أحاسيسك في حضنها الدافىء يا رجل ، فالقادم لم يعد يُوازي الذي ولّى وانقضى ، ضمّد أحاسيسك ، إذْ ماذا يساوي عمر من الانتظار المُدوّي والحسرة  ، الحسرة التي محضتك حزناً رهيفاً وكاشفاً !؟ قال بهمس ..
     اندسّي في عبّه كقطة مُبتلة ، فإذا لم يُقيّض لكما أن تتعانقا كجدولين زماناً ، فلا تكوني كرماد بارد غادره ناره والسمّار ، وخلّفوه للتوزّع ، وهلمّي لمُعانفته عناق ذئبة جائعة ! قالت ..
    املأ الفجوة بين الانتظار وكهف التدرّن بها ، ولا تتحرّج من الاعتذار ، وإلاّ فكيف لك أن تشبع ما بك من جوع إليها !؟ جوع صار يُقاس بما خلّفه في الروح من هتك وتلف ! قال..
    انزعي عنك قناع الكهانة، وتطاولي نحوه كسحابة أو كمزنة  أو – حتى – كنقطة ماء تدلف نحو جرن حجريّ ، فالماء علّمَ – زماناً – في أصمّ الصخر ، ولا تستسلمي لخلوّك المُؤلم منه ! قالت ..
    ولأنّه لم يعد ثمّة ما يُقال في لجّة المقام تناءت على مهل وانكسار، ولأنّه لم يعد ثمّة ما يُقال وقف في مُنتصف المسافة كحصان أشهب أجرب وعجوز ، وعلى نحو ما بدت أكثر انحناءً وهرماً وحزناً ، وعلى نحو ما بدا عارياً كشجرة مُستوحشة فاجأها الخريف في مُنتصف المسافة !

    الآن ستلتفت .. قال .. ستلتفت قبل أن تبلغ المُنعطف ! الآن سيلحق بي .. قالت .. ولن يتركني للوحدة والألم المُبرّح في غيابه ! الآن .. قال ! الآن .. قالت ! وعندما غيّبها المُنعطف ذابلة مقهورة لا تلوي على شيء ، تماماً عندما غيبّها المُنعطف خلف زواريبه، استشعر على نحو مُبهم وأكيد بأنّ يومه لن يلاقي غدها ، فأثقل عليه الشجن ، وعلى نحو مفاجىء ترنّح مُتهاوياً ، فيما كانت شمس وانية تميل جهات الغروب مُؤسّسة لوداع مُؤس!

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبد الستار نورعلي

أصدر الأديب والباحث د. مؤيد عبد الستار المقيم في السويد قصة (تسفير) تحت مسمى ((قصة))، وقد نشرت أول مرة ضمن مجموعة قصصية تحمل هذا العنوان عن دار فيشون ميديا/السويد/ضمن منشورات المركز الثقافي العراقي في السويد التابع لوزارة الثقافة العراقية عام 2014 بـحوالي 50 صفحة، وأعاد طبعها منفردة في كتاب خاص من منشورات دار…

فدوى كيلاني

ليس صحيحًا أن مدينتنا هي الأجمل على وجه الأرض، ولا أن شوارعها هي الأوسع وأهلها هم الألطف والأنبل. الحقيقة أن كل منا يشعر بوطنه وكأنه الأعظم والأجمل لأنه يحمل بداخله ذكريات لا يمكن محوها. كل واحد منا يرى وطنه من خلال عدسة مشاعره، كما يرى ابن السهول الخضراء قريته كأنها قطعة من الجنة، وكما…

إبراهيم سمو

فتحت عيوني على وجه شفوق، على عواطف دافئة مدرارة، ومدارك مستوعبة رحيبة مدارية.

كل شيء في هذي ال “جميلة”؛ طيبةُ قلبها، بهاء حديثها، حبها لمن حولها، ترفعها عن الدخول في مهاترات باهتة، وسائر قيامها وقعودها في العمل والقول والسلوك، كان جميلا لا يقود سوى الى مآثر إنسانية حميدة.

جميلتنا جميلة؛ اعني جموكي، غابت قبيل أسابيع بهدوء،…

عن دار النخبة العربية للطباعة والتوزيع والنشر في القاهرة بمصر صدرت حديثا “وردة لخصلة الحُب” المجموعة الشعرية الحادية عشرة للشاعر السوري كمال جمال بك، متوجة بلوحة غلاف من الفنان خليل عبد القادر المقيم في ألمانيا.

وعلى 111 توزعت 46 قصيدة متنوعة التشكيلات الفنية والجمالية، ومتعددة المعاني والدلالات، بخيط الحب الذي انسحب من عنوان المجموعة مرورا بعتبة…