رستم محمود
جيهان، لا أعرف بالضبط أتكون مياه الفرات باردة أما دافئة في هذه الأوقات من العام، بداية الخريف . لكن حبذا، لو أن بها حتى الآن، بعض من ذاكرة دفء الصيف . فأنا من الشخوص الذين يفضلون الدفء بشكل لا يوصف، حتى أن أحدى أمنياتي أن أموت في فصل الصيف، لا غيره، حتى ينشأ نوع من الود الأولي بيني وبين موضع سكاني الأبدي . وهو شعور يغالبني دوما، حتى أني أفترض أن الآخرين كلهم مثلي، يفضلون الموت في مكان دافئ، أو أفضل مكانا كذلك الذي لي، لمن أحب . والتفاؤل في هذا الشأن يغالبني، فقبل أيام من رحيلك، كنت قد مررت بالمكان ذاته، ورأيت البط البري بالقرب من ذلك الجسر، مسترخي الجناحين صادح الصوت، وهي من علامات دفء المكان، كما تسعفني ذاكرة قروية مغبشة . لكن بالله عليك، لما لم تنتظري حتى قدوم الصيف القادم . هل حقا كنت تشعرين بثقل استضافتنا إلى هذا الحد !؟ .
جيهان، هل تعرفين أن صقر قريش أيضا، قد خبأ وجهه الحزين للحظات، في مياه الفرات نفسه، هربا من أعدائه المطاردين له . لكن رحلته كانت لدقائق فحسب، لا هربا أبديا من الأعداء – منا – كما فعلت أنت . هل حقا قرأت قصة صقر قريش تلك، وهل قرأت قصيدة أودنيس عن رحلته تلك، تلك التي عنونها بـ ” صقر قريش”، حيث يعتقد بأن كل الفارين – وما أكثرهم – من بلادنا، والمستلاذين والمفضلين لخبز الغريب، يشبهون صقر قريش ذاك . لكن لا أظنك قد قرأت تلك القصيدة، فالفتيات في إقليمكم كما أعلم، يتركن المدرسة في سن مبكرة، تجنبا لعار مفترض، قد تجلبه مخالطة الذكور . حسب حكمة بعض الرجال المفتولي الشوارب، هؤلاء الذين تعرفهم ملاهي حلب جيدا، بعد موسم الحصاد ! . وهؤلاء المفتولي الشوارب، من أخوة وآباء وأعمام… الذين زوجوك في عمر ناهز العقد والنصف فحسب، ولقنوك أن طاعة الزوج من طاعة الله، وغير ذلك عار، ليس من مثله عار ….وهؤلاء المفتولي الشوارب أنفسهم، ترتعد جوانبهم حين يصادفون ولو شرطي المرور، صدفة في أزقة المدن …. . آه يا جيهان لو انتظرت للصيف المقبل، فربما كنت أصادفك في حافلة ما، فلي الكثير من الأهل في تلك المنطقة . صدقا، وقتها كنت سأقرأ تلك القصيدة لك، فما أجملها يا جيهان، حتى أني أحفظها عن ظهر قلب .
جيهان، أعلم أن آخر مشهد رأيته كانت لضريح السلطان سليمان القانوني، على تلة على يسار الجسر، لا يبعد سوى بضع عشرات من الأمتار . هل هي الصدفة، أم أنت إنسانة مريضة بالتاريخ مثلي، حتى اخترت ذلك المكان الرمزي، حيث بهمس خفيف سيسمع كلامك، وأنا متأكد أنك ستقولين له : ” يا سلطان الديار، أدام الله عزك، يا وافر العدل، حتى سموك بالقانوني . بعدما انهارت إمبراطوريتك العظيمة، أنشأنا مسخ دول، ونزلنا من القرى والمراعي إلى أمساخ المدن، في القرى كانت اللواتي مثلي، تعملن ليل نهار، ولهن من الدور والرفعة، قدر ما لعملهن، وكل واحدة منا، كان لها من الحمولة والنسب والعائلة، ما كان كافيا أن يحفظها عن ظلم ذوي القربة، عرفا وجبروتا . لكن في مدن البلاد الحديثة، لم يبقى لنا شرف نسبنا وعملنا الذي كان، ولم نستحصل من فرادة إنسان الحداثة أي شيء . بتنا أسيرات بيوت مغلقة النوافذ، وجواري رجال يفرغون كل مساء، شحنة ما يمارس ضدهم من سادية ضابط المخفر إلى ديون باع الخضار، لقد بتنا يا موالي ضحايا الضحايا . فلا مؤسسات عرفية اجتماعية تحمينا، ولا لنا نظيراتها المدينة، ولو فررنا بجلودنا إلى المدن الكبرى، سيلحقنا مفتولي الشوارب إلى هناك، ليذبحونا من الوريد إلى الوريد، غسلا للعار، ثم ترش عليهم الزغاريد وزهور البراري، بعدما أن يكونوا قد نالوا الأسباب المخففة في محكومتيهم، وبقوا في أفضل الأحوال ستين يوما فقط . آه يا سيدي السلطان، كم هي حكاية طويلة ومؤلمة، لكن أين عدلك الذي كان وحزننا الذي بات ” .
جيهان، قبل أن أنسى، هل لي أن أسألك: أنت قررت الرحيل عنا، وهذا شأنك وقرارك، لكن لم أخذت الأطفال الثلاث معك !؟ . هل حقا بتنا كلنا بكل تلك القسوة حتى لا تستأمني أحد منا عليهم، أي بؤس منا قد أصابك حقا، أوليس في هذا شيء بالغ من القسوة علينا، وهل يحق لك أن تجرحينا كلنا بهذا الشكل . فربما كانت الحياة ستكتب لبنيك، بغير ما كتبت لك من شقاء . فأحدهم، وربما أكبرهم، ذو السنوات الست، ربما كان سيصبح تاجر حفارات شهير مثل الكثيرين من شباب إقليمكم، وربما أوسطهم “فوزي” كان سيصبح سباحا ماهرا، لينقذ الغرقى، أما الصغيرة روسيل، ذات الأشهر الثلاث، فربما كان رحيلك عنها، سيدفعها لأنشأ منظمة مدنية للدفاع عن حقوق المرأة، وربما وقتها لن يبقى وراء القطبان حقوقيون في بلادنا . فالحياة هي كذلك يا جيهان، لا تكتب لجيل ما تكتبه لجيل آخر . لكنه أيضا ربما يأسك البالغ منا . حيث لم ألحق قبل فوات الأوان أيضا يا جيهان، أن أخبرك قصة الرسام السوري الشهير فاتح المدرس، وهو الذي أحب أباه العربي أمه الكردية، وكان لبني أبيه أن قتلوا أباه الذي لم يرضى بالزواج من بنات العمومة اللواتي ارتأينا حسن بتزويجه بها . ثم عاش الطفل فاتح في كنف أخواله . وكان لعمق حب أبيه ومأساته وعمق حزن والدته، أن خلقا منه رساما مشهودا له . فربما كان سيكون لأطفالك، ما كان للطفل “فاتح المدرس” .
في صباح هذا اليوم الطويل بحزنك، لن تنشر أحزبنا الشيوعية يا جيهان خبرا أو تحليلا أو دلالة على حادثتك، فهم مشغولون باستقبال منتظر الزيدي، رمز انتصارهم الرمزي – المتوهم – . وفي هذا الصباح لن تخرج الدهماء لوداعك، فأين أنت من عودة عبد الباسط المقراحي، وأحزابنا القومية، لن تقف دقيقة صمت على روحك التي في الأفق الأزرق، فالخرائط تشغلها، لا من يحيون على الخرائط . ولن نجد لك صورة على شاشة التلفزيون، فلست من النافخات شفاههن، ولست أنت من المتحجبات ورعا بعد نضال طويل في زواريب الملاهي . ولن يعرفك أطفالنا في المدارس، فالمدرس مرهق من الدروس الخصوصية التي لقنها بالأمس لأولاد المستفيدين من قانون تسهيل الاستثمار رقم 10 .
جيهان، في الطريق بين بلدتي وحلب ثمة خمسة ساعات من سير الحافلة المتواصل، وكل مرة بعد ثلاث ساعات من المسير، كنا نصل جسر قروقوزات ذاك، فهناك على الفرات، كنا نرفع العين عن الكتاب، لنفتح الشبك ونفتل الذراعين آخذين نفس نشاط طويل من منظر النهر . صدقيني يا جيهان، من الآن وصاعدا، ساغلق عيناي عند ذلك النهر، فهناك سيبقى ما سيألم روحي للأبد، ألم يذكرني دوما بـ ” لم يكن من أحد، ليفعل لك أي شيء ” .
…………………………………………………….
* : ليلة عيد الفطر، أقدمت السيدة الكردية السورية جيهان رشو برعواد البالغة من العمر 25 عاما والأم لثلاثة أطفال على الانتحار مع أطفالها الثلاثة, وذلك حين قامت بإلقاء نفسها مع أطفالها الثلاثة من فوق جسر قراقوزات الواقع على نهر الفرات، حيث قالت الأنباء أنها كانت تعاني من سوء معاملة شديدة من زوجها وعائلته .
جيهان، أعلم أن آخر مشهد رأيته كانت لضريح السلطان سليمان القانوني، على تلة على يسار الجسر، لا يبعد سوى بضع عشرات من الأمتار . هل هي الصدفة، أم أنت إنسانة مريضة بالتاريخ مثلي، حتى اخترت ذلك المكان الرمزي، حيث بهمس خفيف سيسمع كلامك، وأنا متأكد أنك ستقولين له : ” يا سلطان الديار، أدام الله عزك، يا وافر العدل، حتى سموك بالقانوني . بعدما انهارت إمبراطوريتك العظيمة، أنشأنا مسخ دول، ونزلنا من القرى والمراعي إلى أمساخ المدن، في القرى كانت اللواتي مثلي، تعملن ليل نهار، ولهن من الدور والرفعة، قدر ما لعملهن، وكل واحدة منا، كان لها من الحمولة والنسب والعائلة، ما كان كافيا أن يحفظها عن ظلم ذوي القربة، عرفا وجبروتا . لكن في مدن البلاد الحديثة، لم يبقى لنا شرف نسبنا وعملنا الذي كان، ولم نستحصل من فرادة إنسان الحداثة أي شيء . بتنا أسيرات بيوت مغلقة النوافذ، وجواري رجال يفرغون كل مساء، شحنة ما يمارس ضدهم من سادية ضابط المخفر إلى ديون باع الخضار، لقد بتنا يا موالي ضحايا الضحايا . فلا مؤسسات عرفية اجتماعية تحمينا، ولا لنا نظيراتها المدينة، ولو فررنا بجلودنا إلى المدن الكبرى، سيلحقنا مفتولي الشوارب إلى هناك، ليذبحونا من الوريد إلى الوريد، غسلا للعار، ثم ترش عليهم الزغاريد وزهور البراري، بعدما أن يكونوا قد نالوا الأسباب المخففة في محكومتيهم، وبقوا في أفضل الأحوال ستين يوما فقط . آه يا سيدي السلطان، كم هي حكاية طويلة ومؤلمة، لكن أين عدلك الذي كان وحزننا الذي بات ” .
جيهان، قبل أن أنسى، هل لي أن أسألك: أنت قررت الرحيل عنا، وهذا شأنك وقرارك، لكن لم أخذت الأطفال الثلاث معك !؟ . هل حقا بتنا كلنا بكل تلك القسوة حتى لا تستأمني أحد منا عليهم، أي بؤس منا قد أصابك حقا، أوليس في هذا شيء بالغ من القسوة علينا، وهل يحق لك أن تجرحينا كلنا بهذا الشكل . فربما كانت الحياة ستكتب لبنيك، بغير ما كتبت لك من شقاء . فأحدهم، وربما أكبرهم، ذو السنوات الست، ربما كان سيصبح تاجر حفارات شهير مثل الكثيرين من شباب إقليمكم، وربما أوسطهم “فوزي” كان سيصبح سباحا ماهرا، لينقذ الغرقى، أما الصغيرة روسيل، ذات الأشهر الثلاث، فربما كان رحيلك عنها، سيدفعها لأنشأ منظمة مدنية للدفاع عن حقوق المرأة، وربما وقتها لن يبقى وراء القطبان حقوقيون في بلادنا . فالحياة هي كذلك يا جيهان، لا تكتب لجيل ما تكتبه لجيل آخر . لكنه أيضا ربما يأسك البالغ منا . حيث لم ألحق قبل فوات الأوان أيضا يا جيهان، أن أخبرك قصة الرسام السوري الشهير فاتح المدرس، وهو الذي أحب أباه العربي أمه الكردية، وكان لبني أبيه أن قتلوا أباه الذي لم يرضى بالزواج من بنات العمومة اللواتي ارتأينا حسن بتزويجه بها . ثم عاش الطفل فاتح في كنف أخواله . وكان لعمق حب أبيه ومأساته وعمق حزن والدته، أن خلقا منه رساما مشهودا له . فربما كان سيكون لأطفالك، ما كان للطفل “فاتح المدرس” .
في صباح هذا اليوم الطويل بحزنك، لن تنشر أحزبنا الشيوعية يا جيهان خبرا أو تحليلا أو دلالة على حادثتك، فهم مشغولون باستقبال منتظر الزيدي، رمز انتصارهم الرمزي – المتوهم – . وفي هذا الصباح لن تخرج الدهماء لوداعك، فأين أنت من عودة عبد الباسط المقراحي، وأحزابنا القومية، لن تقف دقيقة صمت على روحك التي في الأفق الأزرق، فالخرائط تشغلها، لا من يحيون على الخرائط . ولن نجد لك صورة على شاشة التلفزيون، فلست من النافخات شفاههن، ولست أنت من المتحجبات ورعا بعد نضال طويل في زواريب الملاهي . ولن يعرفك أطفالنا في المدارس، فالمدرس مرهق من الدروس الخصوصية التي لقنها بالأمس لأولاد المستفيدين من قانون تسهيل الاستثمار رقم 10 .
جيهان، في الطريق بين بلدتي وحلب ثمة خمسة ساعات من سير الحافلة المتواصل، وكل مرة بعد ثلاث ساعات من المسير، كنا نصل جسر قروقوزات ذاك، فهناك على الفرات، كنا نرفع العين عن الكتاب، لنفتح الشبك ونفتل الذراعين آخذين نفس نشاط طويل من منظر النهر . صدقيني يا جيهان، من الآن وصاعدا، ساغلق عيناي عند ذلك النهر، فهناك سيبقى ما سيألم روحي للأبد، ألم يذكرني دوما بـ ” لم يكن من أحد، ليفعل لك أي شيء ” .
…………………………………………………….
* : ليلة عيد الفطر، أقدمت السيدة الكردية السورية جيهان رشو برعواد البالغة من العمر 25 عاما والأم لثلاثة أطفال على الانتحار مع أطفالها الثلاثة, وذلك حين قامت بإلقاء نفسها مع أطفالها الثلاثة من فوق جسر قراقوزات الواقع على نهر الفرات، حيث قالت الأنباء أنها كانت تعاني من سوء معاملة شديدة من زوجها وعائلته .