الروائيون, أو الروايات التي تستطيع أن تأخذ بلب قرائها منذ الصفحات الأولى و تسلم مشاعرهم إلى عوالم الدهشة, قليلة جداَ و تعد على أصابع اليد الواحدة في الكرمانجية المعاصرة.
ليس فقط بدءاَ من الصفحات الأولى, بل من الجمل الأولى في هذه الرواية حيث تقول الرواية: (هذا شيخ نوراني و لذلك فجثته خفيفة. إن ثقل الجثامين يتبع قذارة روح المرء, هذا الشيخ ذات طاهرة و روحه نقية لذلك سيكون خفيفاَ يا سيدا. إنه نور نور).
و حتى الجملة الأخيرة من متاهة رسالة أحمد خاني لا يفسح جان دوست المجال لقارئه, مثل صياد سمك محترف, بأن يفلت من شبكته. و لا بد للقارئ أن يتهيأ لرواية غير عادية, و على غير منوال الروايات الكرمانجية لأن قارئ ميرنامه لا يواجه رواية سهلة خفيفة مكتوبة على عجل و مرتجلة و بعيدة عن كل مقاييس كتابة الرواية. على العكس من ذلك ينقب جان دوست في كنوز اللغة حتى أعماقها, يقارب بين التعبير و خيال اللغة و يوصل الخيال إلى آفاق اللغة التي يصعب التعبير عنها.
إن جان دوست يسرد الوعي و الذاكرة و النفس في آفاق اللغة التي لم تكن قابلة للسرد و ينفض عن لغته غبار الصهر اللغوي القادم من أعماق القرون السالفة لكي يقدم في النهاية روايته, رواية نقية صافية تنهل من ينابيع كرمانجية ما قبل الخراب و تنساب منها و لا تتوقف عند الآثار المضيئة لحبر خاني و الجزري.
باختصار, عندما يصادف القارئ هذه الجملة من الرواية: إن ثقل الجثامين يتبع قذارة روح المرء, يدرك على الفور و يشعر بدون تردد أنه أمام رجل مثقف و أمام كاتب روائي حقيقي.
الأماكن المنسربة من الظلام, آثار الوعي و اللاوعي, سلاسل الجبال عدوة الحنين, المدن الغارقة في الموت الأسود, سهوب الانتظار, الناس الطيبون و الأشرار, الأحياء و الموتى, مخلوقات تلك الأرض المعلقة بصنارة القدر, ظلال أهل بايزيد الحجرية, الأمطار الحجرية في عيون سرحدان, و تحسر أحمد خاني, محاولات جان دوست للقبض على لحظات ضائعة هاربة منكسرة و مذنبة تلك اللحظات التابعة لتلك الجغرافيا المرسومة من أطلال قتل الآباء و الأبناء, تصوير و بعثرة آفاق مليئة بالأحداث, بالحركة, بالتفاصيل و كذلك أسلوب كتابة تاريخ الشخصيات و التاريخ العام, هذه المحاولات كلها تأتي بمساعدة الخيال السردي و الحكائي البليغ.
و في قلب هذه الإمكانية, تلعب المعايير الحقيقية لهوية الكتابة و الكاتب صاحب الذهن الحاد و المقتدر ذو الثراء الأدبي و كذلك الخلق و الإبداع, الدور الوحيد.
في ميرنامه, و مع أن جان دوست يشتغل على نصه كمهندس, و مع أنه درس خططه بعمق, لا يستطيع القارئ أن يقول عن فكرة ما إنها مسبقة الصنع أو تم التخطيط لها. كل حدث يستطيع أن يغيب فجأة ليفسح المجال لحدث آخر يأتي من بعده.
في رواية ميرنامه, ليس أحمد خاني مع أنه مركز الحركة الروائية, البطل الوحيد الذي تروى قصته, بل هناك العشرات من الأحداث التي تحصل في محيط خاني و تضيع القارئ في متاهاتها و هي أحداث تلفت انتباه القراء. و يعود هذا الأمر إلى مهارة الكاتب الذي يحترم قارئه و يريد تركه يقظاَ دون أن يمل من لغته السردية.
إن لغة جان دوست السلسة الانسيابية و الشاعرية, لهي لغة عهود ما قبل الجفاف و النهب و الخراب, و صاحبة مخيلة اللغة الكرمانجية التي تعود إلى ما قبل عصر غسيل الدماغ و المشاعر. و رسالة ميرنامه الأساسية هي أنه في الإمكان كتابة الروايات ذات المستوى الرفيع باللغة الكردية , و إذا لم تكتب هذه الروايات بتلك اللغة فإن العلة ليست في اللغة بل في ضعف كتاب الكرمانجية أنفسهم.
النص مترجم من اللغة الكردية