وطنٌ أحمله.. وأحلمه

عمر كوجري

   في هذه الساعة الهاربة نحو حتفها ، في هذا الهدوء الذي يذكرنا بقوافل الموتى وأشباههم الذين ودعناهم بدموعنا الهاربة من عيوننا التي ـ جفت كل الينابيع ـ وبقيت هي تجود ببقايا الماء الحلال والزلال.

   في هذا الساعة حيث يحاصرني المكان بصلافته وغباره ورماله وضيقه حتى أكاد أسمع تهشم ضلوعي . هذا المكان الذي من دموع وعويل سميناه بأسمائنا الكردية الأولى، حيث الآلهة التي اندثرت ذات ظل طافحة بأنوثتها على وجوهنا المسفوحة في أربع جهات الأرض نحو أزلنا الأزلي، وبقائنا وربما فنائنا المحتم.
   إنها مدينتنا … ضيعتنا التي ضيعناها  ويا ويلي في لحظة عربدة وطيش، وكنا نحن الكرد الغارقين في قرويتنا وجبليتنا وطين طيبتنا نقاتل ثم نقاتل على عدد كؤوس الشراب التي دلقناها أمعدتنا الخاوية إلا من ظلالنا .

   إنها مملكاتنا التي أمحت تحت وقع سيوفنا والغبار المتصاعد من تحت حوافر خيولنا التي تقاتلت بصلابة مع أخواتها الخيول، حتى كادت تفني بعضها بعضاً .
   نعم ، وصرنا نوزع الأنخاب .. أنخاب انتصاراتنا وهزائمنا على بعضنا البعض، والبعض منا أحس أن طعم الملوحة في الشراب أكثر من المعتاد ولم يدرٍ أنه يشرب، ويأكل لحم أخيه حياً أو ميتاً.. لا يهم.
     منذ أن لفظتنا الآلهة خارج رحمها كنا شركاء الماء ..الهواء التراب.. وفي لحظة هيستيريا أردنا أن نعجن مع ذؤابات الجبل والينبوع فانقسمنا إلى مليون مملكة تبيع ماءها و هواءها وترابها، ولا تشتري سوى الغيوم البيض لتكفن بها موتاها ،وتشتري من الإله ..الليل وشاحه الأسود لتتدثر به أيام الصقيع وغرز الخناجر في الحناجر والبطون.
    وهكذا توزعنا في صحاري وبراري الآلهات التي لا حدَّ لبياضها ولا حد لسوادها ، وكنا ونحن نغير على أولادنا وأحبابنا تلاحقنا. بل تنظر إلينا بعين العطف والرخى نسور الجو ،وتترصد حشرجاتنا وتململنا وتطاير الشرر من عيوننا لتظفر هي الأخرى بوجبات الطعام من على أجسادنا ، وتعقد لتأكل “على البال المستريح ”  لحومنا الجيف التي تهوي على قمم الصخور وفي عمق الوديان السحيقة .إنها مشيئة ما ..لطبيعة ما أن نظل نتناول من ذات الشجرة تلك الثمرة المحرمة آلاف وآلاف السنين.
 لهذا نحن كرد بكل جسارات الآلهة.. نخسر في اليوم مليون مرة، دون أن نحلم بالفوز ولو مرة!!

لكن يبقى لنا حلم واحد على هذه البسيطة وهو أن نظل نحلم بتين مشتهى، وينبوع لا ينضب، وبهواء نظيف .. نظيف.. وبوطن نحمله .. ونحلمه.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ماهين شيخاني

ولد الكاتب والصحفي والمناضل الكوردي موسى عنتر، المعروف بلقب “آبي موسى” (Apê Musa)، عام 1918 في قرية “ستليلي” الواقعة قرب الحدود السورية، والتابعة لمدينة نصيبين في شمال كوردستان. ترعرع يتيماً بعد أن فقد والده في صغره، فحمل في قلبه وجع الفقد مبكراً، تماماً كما حمل لاحقاً وجع أمّته.

بدأ دراسته في مدارس ماردين، ثم انتقل…

أسدل يوم أمس عن مسيرتي في مجلة “شرمولا” الأدبية الثقافية كمدير ورئيس للتحرير منذ تأسيسها في أيلول 2018، لتبدأ مسيرة جديدة وسط تغييرات وأحداث كبرى في كُردستان وسوريا وعموم منطقة الشرق الأوسط.

إن التغييرات الجارية تستدعي فتح آفاق جديدة في خوض غمار العمل الفكري والأدبي والإعلامي، وهي مهمة استثنائية وشاقة بكل الأحوال.

 

دلشاد مراد

قامشلو- سوريا

19 أيلول 2025م

الشيخ نابو

في زمن تتكاثر فيه المؤتمرات وترفع فيه الشعارات البراقة، بات لزاما علينا أن ندقق في النوايا قبل أن نصفق للنتائج.

ما جرى في مؤتمر هانوفر لا يمكن اعتباره حدثاً عابراً أو مجرد تجمع للنقاش، بل هو محاولة منظمة لإعادة صياغة الهوية الإيزيدية وفق أجندات حزبية وسياسية، تُخفي تحت عباءة “الحوار” مشاريع تحريف وتفكيك.

نحن لا نرفض…

نجاح هيفو

تاريخ المرأة الكوردية زاخر بالمآثر والمواقف المشرفة. فمنذ القدم، لم تكن المرأة الكوردية مجرّد تابع، بل كانت شريكة في بناء المجتمع، وحارسة للقيم، ومضرب مثل في الشجاعة والكرم. عُرفت بقدرتها على استقبال الضيوف بوجه مبتسم ويد كريمة، وبحضورها الفعّال في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية. لقد جسّدت المرأة الكوردية معنى الحرية، فلم تتوانَ يومًا عن…