على مبدأ خالف تُعْرَف و… تَعْرِف؟!

نارين عمر
narinomer76@gmail.com

الخلافُ في وجهاتِ النّظر وفي الاتجاهات والمبادئ لم يقف يوماً أمام استمرار البشر وتعاملهم  وتعايشهم المشترك, لأنّ الإنسان مكوَّنٌ في الأصل من مجموعةِ تناقضاتٍ وأضدادٍ ومخالفات وإن كان يعتقدُ أنّها لا تلتقي مطلقاً, إلا أنّها تلتقي وتتضامن وتتعاضد أحياناً لتشكّل معاً كائناً بشرياً عاقلاً وسويّاً. فمَنْ منّا لا يحملُ الكره رديفاً للحبّ, واليأس توءماً للأمل, والفشل مع النّجاح, والأنانيّة إلى جانبِ الغيرية والإيثار؟ ومَنْ منّا يستطيعُ التّهرّبَ, أو على الأقلّ يحاولُ التّهرّب من قبضتي العدالة والقصاص أو لنقل الانتقام. وكم عدد البشر الذين يتوافقون فكريّاً ونفسيّاً وأخلاقيّاً في كوننا الواسع؟ لأنّ كلّ هذه المتناقضات والأضداد تساهمُ في استمرار الإنسان, وتخلقُ بشراً ينطلقون من مبدأ الاتفاق والخلافِ معاً.
لا يهمّ إن اتفقَ جميعُ البشرِ على صيغةٍ متوحّدةٍ وتوافقيّةٍ لنظم معيشتهم واستمرارهم معاً, المهمّ أن يلقى هذان المبدآن (الاتفاق والخلاف) القبولَ والاحترامَ منهم, وبذلك سيخرجون في النّهاية من جوّ المعضلة وكأنّهم منتصرون.
أحببتُ أن أبدأ بهذه العباراتِ لتكون مدخلاً إلى رحابِ المشهدِ الأدبيّ والثّقافيّ الكرديّ, ولاسيّما أنّ النّقاش حولهما قد احتدّ واشتدّ خلال الآونةِ الأخيرة. عندما نتحدّثُ عن المشهدِ الثّقافيّ الكرديّ علينا أن نلمّ بأمورٍ عدة, وتُضاء أمامنا نقاطٌ من شأنها إيصالنا إلى نتائج لا تُحْمد عليها, وهذه الأمور والنّقاط بقدرِ سهولة تحقيقها, فهي تبدو عويصة على الحلّ بالنّسبةِ لنا, وهي تشبه القطار بمحطاته المتتالية التي تشكّلُ كلّ منها مرحلة جديدة لانطلاقةِ المسافر. وعلينا التوّقف على هذه المحطّاتِ ودراستها لنجدَ فيها مرآة لقناعاتنا التي كثيراً ما تكون خاطئة قبل الحديثِ عن أيّة محاولةٍ للتّقاربِ الفكريّ والأدبيّ بين الكتّابِ الكرد كافة, لا يمكنُ الاستغناء عنها, وعلى كلّ منّا التّوقّف عندها مليّاً قبل الإقدام على طرح أيّ موضوع, أو تقديم أيّ تظلّمٍ إلى محكمةِ الثقافة والأدبِ الكرديّين.

المحطّة الأولى: الانتقاد الذي نسمّيه نقداً:
سننطلقُ من هذه المرحلة تحديداً لأنّها تشكّلُ محور كلّ الخلافاتِ التي تنشأ بين روّاد المشهدين الثّقافيّ والأدبيّ الكرديين, وفي الوقتِ نفسه يُعتَبَرُ مركز الاتفاقِ والاتحاد بينهم.
أصرّ هنا على مفردة (الانتقاد) وليس النّقد, لأنّنا لا نمتلكُ حتى الآن الأدوات الفنيّة والأدبية والتّقنيّة التي تؤهّلنا لتقديم دراسةٍ نقديّةٍ صحيحةٍ وصريحةٍ بالمفهوم الصّحيح والصّريحِ للنّقد, مع وجودِ بعض الأقلام الجادّة التي يفوح من خطوطها عبقُ النّقدِ, أو  تقتربُ من معانقةِ روحِ النّقد, ولكنّها ومع الأسفِ قليلةٌ جدّاً. فالنّقدُ بمعناه العام والشّامل يعني تمييزُ جيّد الشيء من سيّئه, أو صالحه من فاسده, بمعنى أنّ على النّاقد أن يشيرَ إلى الجوانب السّلبيّة والإيجابيّة في النّصّ المنتقد, ليرشد المنقودَ إلى طريق الصّحّةِ والاستقامة.
والشّيء الهامّ يكمنُ في هذا التّساؤلِ:
ألا نشاركُ المنتقدَ فيما يصدرُ عنه, ونحن بكاملِ قوانا العقلية والفكرية, منطلقين من ذاتنا التي تتقمّصُ شخصيتين متناقضتين. حيثُ يظهرُ مقالٌ انتقاديّ من هذا أو ذاك على أيّ كان, يتعرّضُ فيه إلى نتاجه وسلوكه وأسرته وعائلته, فنسرعُ إلى نشرِ المقال بطرقٍ لا تخلو من الخبثِ والمواربة, فنتصلُ مع هذا , ونراسلُ ذاك مبدين أسفنا على ما حلّ به, وتأسّفنا على المنتقدِ في ذاتِ الوقت.. بينما إذا نُشِرتْ دراسة أخرى تتناول المنتقدَ بإيجابيّةٍ وحكمةٍ فإنّنا نختمُ على أنفاسنا وعينينا بالشّمع الأسود, ونحاول إخفاءِ المقال لئلا تتمّ قراءته من قبل شرائح واسعة.
وإذا ألقينا نظرةً على ما يصدرُ من المنتقِدِ والمنتَقَدِ إزاء موضوعٍ ما سنجدُ أنّ الاثنين يتساويان في درجةِ الإساءةِ أو سوءِ الفهم. فأيّ ناقدٍ (كما يسمّي هو نفسه) تناولَ نصّاً أدبيّاً أو ثقافيّاً بروحٍ عاليةٍ من المسؤولية, وبصدقٍ وإحساسٍ, جعل المنقودَ يتأمّل فيما كتبَ, وشكره على ملاحظاته القيّمة والجادّة؟ وأيّ ناقدٍ عرّف المنقودَ على مكامن عثراته, وأثنى على مواطن إيجابياته؟
والمنقودُ ذاته, كيف يردّ على منتقده؟ هل تكون ردوده عليه مهذبةً وهادئة؟ ومن منهم تحوّلَ إلى مسيح العصرِ, وناولَ المنتقدَ خدّه الأيسر حين صفعه على خدّه الأيمن؟ وردّ عليه بأسلوبٍ رزينٍ يجعله يكفّ عن أسلوبه الخاطئ في تناول النّصوص والمواضيع؟
فهل من الواجبِ علينا أن نصفّقَ لمَنْ يوافقنا الرّأي ونعانقه بباقاتِ شكرٍ وامتنان, ونقذفَ على مَنْ يخالفنا الرّأي أو مَنْ نظنّ أنّه خالفنا الرّأي أشواك الّلوم والعتابِ والرّياء وحبّ الظّهور؟ّ!

المحطّة الثّانية, مسألة الكاتب المبتدئ:
نستخدمُ هذه المقولة كثيراً في كتاباتنا وأحاديثنا, فندّعي أنّ هذا الكاتب مبتدئ, وذاك طارئ على الأدبِ والثقافةِ, وغيره مرائي, يحبّ إظهار نفسه التي يفضّلها على الثّقافةِ كلّها, ونظلّ نعمّم الأمر على طول وعرض المشهدِ الثّقافيّ, متجاوزين المراحل العمرية والفترات الزّمنية المتباينة. السّؤال هنا هو:
هل يُعقَلُ أنّ مَنْ تجاوز الثّلاثين أو الأربعين أو الخمسين عاماً, ثمّ ينشر نتاجه الفكريّ أو الأدبيّ كاتبٌ مبتدئ, أو دخيلٌ على الفكر والثّقافة؟ أليس حرّياً بنا التّعرّف إلى ظروفه, وتلمّس الأسباب والدّوافع التي حدت به إلى التّزهّد في النّشر والطّباعة فيما مضى, والكرم والسّخاءِ حاليّاً؟ كم من شاعرٍ وكاتبٍ محترفٍ رحل ورحلت معه آماله في النّشرِ والطّباعةِ إلى أن حلّتْ الألفية الثانية, وحلّت معها تباشيرُ الانفراج بظهور الكمبيوتر وابنه البارّ أو ابنته االجليلة (الانترنيت). إلى جانبِ انتشار دور النّشرِ والطّباعة.
مع التّقدّم التّكنولوجي, صار الانترنيت هو المتنفسُ الأكثر عمقاً وحيوية بالنّسبةِ لعموم البشر, ومنهم الكاتب والمفكّر والباحث.
هناك العديدُ ممّن يكتبُ منذ سنواتٍ طويلة, ولكنّه لم يحصل على الفرصة المواتية, أو على جهات نشرٍ ينشر فيها نتاجه, وهناك مَنْ يكتبُ منذ زمنٍ طويلٍ بأسماء مستعارة إلى أن واتته الفرصة فنشرَ باسمه الصّريح.

المحطّة الثّالثة, الصّراع مع المواقع الألكترونيّة:
كثرَ الحديثُ هذه الأيّام عن المواقع الألكترونيّة (الكردية) التي تنشرُ الخبر بالكرديّة والعربيّة معاً أو بالكرديّة ولغاتٍ أخرى, فيتهم البعضُ أصحابها بالمزاجية والازدواجية حيناً, وبالجهل وضآلة الثّقافةِ وقلّة الخبرة حيناً آخرَ.
أوّلاً علينا أن نوجّه الشّكر إلى كلّ هذه المواقع من دون استثناء, لأنّ أصحابها والمشرفين عليها يخصّصون ساعاتٍ من نهارهم وليلهم ليتواصلوا مع الخبر أو المادة المنشورة, ويكون ذلك على حسابِ أمورهم الشّخصية والاجتماعية؟ ونتساءلَ هل اقترحَ هذا البعضُ على أصحابِ هذه المواقع المساعدة والمشاركة الفعليّة في إدارةِ الموقع؟ وإن رفضوا, أو لم يرفضوا, لماذا لا يتفق هذا البعضُ مع الكلّ في افتتاحِ موقعٍ شاملٍ تخصّصيّ, نموذجيّ, يشرفون على المواد التي تصلهم بحرفيّةٍ وتقنيّةٍ عاليتين, وذلك بإحالةِ المادةِ على المختصين, الشّعرُ على متذوّقي الشّعر, والتّاريخ على أصحابه والفلسفة كذلك, والفنّ على المختصين به بغية إيجادِ نوعيةٍ من النّقدِ البنّاءِ والهادف الذي يخلقُ أدباً جادّاً وثقافة صحيحة, ويخلقُ كتّاباً ومفكّرين وباحثين يكونونَ مؤسّسين حقيقيّين للأجيال القادمة؟

المحطّة الرّابعة, الكاتب الوحيد:
عددٌ كبيرٌ ممّنْ يكتب, يرى نفسه هو الكاتب الوحيد القادر على الإبداع والعطاء, ويرى سواه من درجةٍ أدنى. كما يرى نفسه الصّادق, المخلص, المنقذ, وسواه الكاذب, المخادع المحتال. بل إنّ البعض يظلّ يسيء إلى هذا الكاتب بقلّة الخبرة والثّقافة, ويأتي بأسماء عشرات الكتّاب والفلاسفة والمفكّرين وعلماء الاجتماع ممّن قرأ لهم أو سمع بهم, ويرجع ضآلة ثقافته إلى عدم قراءته لهؤلاء, وكأنّ الأمرَ يتطلّب إلى كلّ كاتبٍ أن يلمّ بكلّ الفنون والثّقافاتِ والآداب, ويطلّع على ثقافاتِ كلّ الشّعوبِ والملل, كأن يتعمّقَ في الفلسفة, ويسبرَ أغوارَ التّاريخ, ويرافقَ الرّحالة في تجوالهم, ويحلم مع الشّعراء, ويطير على جناحي خيال الأديب. كما أنّ هناك البعض الذي يطلبُ إلى الكاتب أن يصبحَ مريداً لهذا الكاتبِ أو ذاك, وإلا فلا قيمة لما يكتب.
إذاً نحاولُ أن نفرضَ على بعضنا البعض نمطاً معيّناً من الكتابةِ.
سأكتفي بهذه المحطات التي أراها ضرورية وهامّة, وأرى التّوقفّ عليها ومراجعتها  الأمر الأكثر أهميّة وضرورة لنا.

كلمة أخيرة:
ليكتب مَنْ يريدُ الكتابة, ليعبّر عن مكنوناتِ ذاته وروحه, ولينطلق مع همساتِ قلبه وحسّه. لينتقد مَنْ يشاءُ الانتقاد, فإن كان نقده بنّاء وهادفاً, فلنشجعه, ولنصفّق له, وإن كان هدّاماً, وفتّاكاً, فلننبذه, ولنعلن عدم تعاطفنا معه حتى يعودَ إلى سبيل الاستقامة الأدبية.
لنترك العادة المتبعة لدينا في أن يكون كلّ منّا معلّمُ غيره, وجاهلُ ذاته.
لنبارك جهود كلّ كاتبٍ كرديّ يكتب, ويخصّص وقته وجهده وتفكيره في خدمةِ الأدبِ والثّقافةِ الكرديّين.
لنتعاون على تقويم نفسنا, وتصحيح ذاتنا, فإذا قوّمت كلّ نفسٍ على حده, وصوّبتْ كلّ ذاتٍ فإنّ التّقويمَ والصّوابَ سيشملان الكلّ المتكامل, وبذلك نخلقُ كلاً قويمَ الأدب والثّقافة, سليم النيّةِ والفكر, صادق القلم والهمس.

لنختلفَ كثيراً, حتى نتوصّلَ إلى اتفاقٍ سليم. لنجادلَ في كلّ ما يخصّ أدبنا وثقافتنا وتاريخنا حتى نسيّرَ مركبَ الكتابة الكرديّة إلى برّ الأمان وشاطئِ السّلامة, واللذين سيوصلانها إلى مصافي الثّقافةِ والآدابِ العالميّة.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…