حتى تاريخ كتابة هذه القراءة صدرت اثنتا عشرة طبعة من رواية «عزازيل» الفائزة بجائزة البوكر في 16 مارس/آذار 2009، وإذا كانت الجائزة سبباً لكلّ هذه الشهرة والطبعات، فالإشكالية الدينية والفلسفية لا تقلّ عنها أهميةً، وحوارات وتعليقات كاتبها يوسف زيدان هي الأخرى كانت عاملاً إضافياً لتأخذَ الرّواية هذه الأهمية.
أحداث الرّواية:
من الصّعب جداً أن يتمكّن القارئ من تلخيص هذا العمل الروائي بأسطر قليلة، بل ومن الخطأ القيام بذلك، فالرّواية تشبه ماءً ينبثق في وجه الاتجاهات، لا يمكن الإمساك بها، فيها تداخُلٌ بين الدين والفلسفة والحبّ والأساطير، والتّاريخ، والحرية. لكن كي نتمكّن من مقاربة فنياتها لا بدّ من إيجاز أحداثها.
تدور أحداث الرّواية عن راهبٍ مصري في العشرينات من عمره، يخرج من بلاده الأولى»نواحي أخميم» في صعيد مصر إلى الإسكندرية لدراسة الطّب واللاهوت، فيلتقي مع أوكتافيا الوثنية التي تنتظر قدومه من البحر منذ سنتين، وهي سيدة وثنية تكره الدين، فتضعه على كفّ الدّلال، ويمارسان متعة الحب في ثلاث ليالٍ قبل أن يفصح عن نفسه، لتقوم أوكتافيا بطرده، ثم يلجأ إلى كنيسة الإسكندرية مقيماً فيها حتى ساعة إعدام عالمة الرّياضيات هيباتيا على أيدي متشدّدين من أنصار الأسقف كيرُلُّس الذي يصارع أساقفة القسطنطينية وأنطاكية وأورشليم، ويحارب العلم والفلسفة واصفاً إياهم بالمهرطقين. وبعد مقتل هيباتيا، يرحل الراهب هيبا إلى أورشليم ليلتقي مع الأسقف تيودور والقسّ نسطور الذي يأخذ أسقفية القسطنطينية فيما بعد، وبناء على نصيحته ينتقل إلى ديرٍ في شمال غرب حلب، ليبدأ قصة جديدة مع مارتا الحسناء، في زمنٍ اشتدّ الصّراع بين الأسقف كيرُلُّس «كنيسة الإسكندرية» ونسطور «كنيسة القسطنطينية» عاصمة الإمبراطورية الرومانية، وتصيبه حمى شديدة يفقد على أثرها الوعي ويهذي في مرضه عشرين يوماً، كاشفاً القناع عن علاقته بمارتا التي تتركه راحلة إلى حلب.
البناء الفنّي للرواية:
تلك الأحداث يكتبها الراهب المصري معتكفاً في صومعته خلال أربعين يوماً، بعد رحلته الطويلة الشّاقة، بإلحاحٍ من عزازيل» كانَ اسمَ الشيطانِ قبل المعصية، أيام كانَ ملَكاً من الملائكة» الذي يطلب منه إكمال الكتابة وتدوين ما جرى من أحداث، والإفصاح عن تفاصيل الحدث مع أوكتافيا ومارتا. فيدّونها في واحدٍ وثلاثين رقّاً باللغّة السريانية، ثمّ يضعها في صندوقٍ خشبي يدفنها في الدير شمال حلب قبل أنْ يرحل حرّاً مع شروق الشّمس. فالرّقّ الأول يبدأ حيث تنتهي الأحداث.
ما يجعل القارئ في تيهٍ من الرّواية أنّ الكاتب يصف نفسه بالمترجم لهذه الرّقوق إلى العربية، كما يجعل الأحداث والتَّواريخ والشّخصيات في النّص الروائي تتزامن وترتكز على الأحداث الحقيقية والصراعات التاريخية في حقبة القرن الخامس الميلادي، والأمرُ الآخر أنّ النّص جاء على لسانِ راهبٍ مصريٍّ، يكشف القناع عن تاريخ الصراعات الدينية، والفلسفية وتياراتها، فمنها من يرفض إعطاء العقل دوره في تفسيرات جوهر الدّين «الأسقف كيرُلُّس» أسقف الإسكندرية، ومحاربته باستخدام العنف»مقتل عالمة الرّياضيات هيباتيا على يد متشدّدي المسيحية في الإسكندرية» ومنها من يحاول التوافق بين الاعتقاد الديني والتفسير العقلي «نسطور» الذي أصبح أسقفَ القسطنطينية».
أفكار الرَّاهب هيبا كانت تتقارب في بعض جوانبها من أفكار نسطور، ومَن سبقه»تيودور» فيما يتعلق بطبيعة وجوهر السّيد المسيح، وهذا ما جعل علاقة حميمة تتوطّد بينهما، وفي بعض الأحيان كانت تتشطّح أفكار هيبا إلى أبعد ما يكون من ذلك، نلاحظُ هذا في وصفه على تعليقات التاجر الصّقلي المدوّنة على حواشي الترجمة اليونانية للتوراة»كان الرّجل فيما بدا لي، لا يدرك أنّ الدّيانة لا شأنَ لها بالعقل، وأنّ الإيمان لا يكونُ إيماناً، إلا إذا كانَ يناقضُ العقل والمنطق، وإلا فهو فكرٌ وفلسفة»ص110. وفي سؤال هيبا عمّا إذا كان واجباً عليه أن يثق بأوكتافيا بأكثر مما فعل يؤكّد الرّاهب بجملة اسمية «على كلّ حال، هي مغامرةٌ خطيرةٌ أنْ نأمن، مثلما هي مغامرة كبرى أنْ نؤمن.» ص118 مقابل هذه الأفكار كان أنصار الأسقف كيرُلُّس الإسكندراني يمزّقون جسد عالمة الرّياضيات مردّدين عبارة بطرس الشهيرة «باسم الرّب سوف نطهّر.. العبارة التي صارت أنشودة للمجد الرّخيص»»ص157 فالصّراع الدّائر بين العقل والمنطق»العالمة هيباتيا» والتَّشدُّد الديني»كيرُلُّس وأنصاره» اتَّسَعتْ ساحاته ورقعته الجغرافية واتّخذ طابعاً عنفياً باسم الدين.
مّنْ ينتصر في الرّواية؟؟؟
تحاول الرّواية تصوير الإنسان الباحث عن الحرية، المكبّل بقيودٍ وسلاسلَ فكريةٍ وعقائديةٍ، فَيَتِيهُ مع الأحداث، عاجزاً عن صنعه أو إيقافه، هذا ما ورد على لسان الرّاهب هيبا يوم مقتل هيباتيا» وأنا لم أُغِثْ شقيقة يسوع، من أيدي إخوتي في الديانة، لكنهم ليسوا إخوتي. أنا لستُ منهم، ولستُ مني.ص161».
المشهدُ الحزين الذي تقشعرّ له الأبدان لمقتل هيباتيا أمام مرأى أتباع المسيح وبأيديهم يجعل الرّاهب يتخلّى عن صليبه»ارتاع الراهب والصّبي وأجهشت المرأة. أحسستُ براحةٍ مفاجئة حين انتزعتُ الصّليب عن عنقي، وتركتُه يسقط على الأرض وسطَ ذهول الثلاثة»ص161
في استخدام العنف لا أحد ينتصر سوى مَنْ يؤمن بالعنف، وحتى يتبيّن الأمر بينما يكون أنصار العقلانية والفكر والفلسفة قد أصبحوا أضحية على مذبح الحرية. أثبت التّاريخ أنّ ضحايا العنف الديني والعقائدي أكثر مما يمكن إحصاؤه، فإضافة إلى القتل والتَّعذيب يعاني ضحاياه التّشرُّد والقمع. التّاريخُ المخفي» كالذي في رقوق هيبا» مليءٌ بالعنف، فكلّما أصبحت المصالح الأنانية هدفاً للإنسان، سعى إلى تحقيقه بكلّ الوسائل، حتى لو استخدم العنف باسم الدّين أو الإيديولوجية أو أي شيءٍ آخر. والرّواية تهدف إلى أنْ يتمكَّن الإنسان الفكاك من أوهامه، والانطلاق في الحياة كنسمة هواء حرة. وهكذا كانَ شأنُ مَنْ يدعم أحد المذاهب على الآخر، فالإمبراطور قسطنطين، ورغم جهله باللاهوتيات، وعدم اهتمامه بالخلاف اللاهوتي بين القسّ آريوس و إسكندر أسقف الإسكندرية في زمانه، انتصر»« للأسقف إسكندر ليضمن قمحَ مصر ومحصول العنب السنويّ، وحرم الرّاهب آريوس، وحرّم تعاليمه.» ص 53
تتطرق الرّواية إلى جوهر المسألة الدينية في حواراتٍ قصيرة بين الرّاهب وعزازيل الذي يسأل:
«« -هل خلق اللهُ الإنسانَ أم العكس؟
– ماذا تقصد؟
– يا هيبا، الإنسانُ في كلّ عصرٍ يخلق إلهاً له على هواه دوماً رؤاه وأحلامه المستحيلة، ومناه.
– كفَّ عن هذا الكلام، فأنت تعرف مكانك من الله، فلا تذكره.
– أنا مذكورٌ يا هيبا، مادام هو مذكور!»»ص348
اختلاف النّاس على طبيعة وجوهر الدّين أدّى إلى صراعاتٍ طويلة، اتّخذت أشكالاً عنفية كثيرة، كما أنَّ الاتجاهات المذهبية اختلفت حول طبيعة الشّيطان ككائن غير مرئي كاختلافهم حول ذوات الآلهة وطبيعتها، وفي تلك الاختلافات لم يكن الشّيطان «عزازيل» غائباً، والرّواية تكشف جانباً من آرائه حيث يقول عزازيل في حديثه لهيبا: «إنَ الله محتجبٌ في ذواتنا، والإنسان عاجزٌ عن الغوص لإدراكه! ولمَّا ظنَّ البعض في الزمن القديم، أنهم رسموا صورة للإله الكامل، ثمّ أدركوا أن الشّر أصيل في العالم وموجود دوماً؛ أوجدوني لتبريره» ص348.
هكذا تأتي الرّواية مليئة بأحداث تاريخية ودينية مهَّدت الطّريق إلى البحث عن مساحة زمنية غامضة في تاريخ الشرق، تركت أثراً بالغاً في صياغة الثقافة الروحية قبل الإسلام وبعده. كما تدلُّ على وجود فتراتٍ تاريخية طويلة مازالت أحداثها مدفونة تحت غبار الزّمن.
والسؤال المحيّر يتعلق بقرار الرّاهب هيبا الاختفاء عن الأنظار والاكتفاء بالتدوين متزامناً بعام انعقاد المجمع الكنسي بمدينة أفسوس 431م، أيعني ذلك أنّ زمن العقل والتفكير قد توقّف واختفى كلّ أثرٍ لهيباتيا القتيلة واندثر زمن العقل، ليدشّن التاريخُ زمن العقيدة العمياء والقمع الفكري؟
الملحق الثقافي لجريدة الثورة السورية