دراسة نقدية:
خالص مسور
بدأت القاصة وجيهة عبد الرحمن بتقديمها البرولوجي لبطلتها بطريقة اللانص بعبارة مثيرة تتوفر على حركية اضطرابية عنيفة، وبكلمات انبنت عن جمالية إسلوبية ثرة من المفارقة والإدهاش، وبتقنية الراوي العليم بكل شيء، وعلى شكل مونودراما قصصية تلعب دور البطولة فيها شخصية وحيدة لها حضورها هي الفتاة المحبة العاشقة، بينما الشخصية الثانية في القصة هي حبيبها الفتى الغائب جسدياً والحاضر معنوياً، وكانت الانتقالات سريعة بين الضمير المتلكلم ثم الغائب ثم المتكلم من جديد، أيضاً قللت الكاتبة من التتابعات السردية مما أفصحت فضاءات القصة عن كثير من التركيز والتكثيف والإيجاز في اللغة وإظهار الحركات الباطنية العميقة في النفس الإنسانية، وبذلك أفلحت في إبعاد الملل عن ذهن المتلقي بإشغاله بأحداث متلاحقة تلاحقت معها أنفاسه في حالة اضطرابية عاصفة.
لكني أود الإشارة هنا إلى أن هذه القصة التراجيدية القصيرة للكاتبة وجيهة عبد الرحمن قد تدخلنا في جو عاطفي لاهب ومثير فوق مساحة من الحقول الدلالية وضمن الجو العام للقصة الغنية بدلالات تشير إلى الحميمية في السرد ومصداقية الحالة النفسية للشخصية الساردة، مما تجعلنا نتعاطف مع البطلة العاشقة ونراقبها بشغف حتى النهاية. لكن علينا أن ننظر إلى شخصيات القصة وأحداثها أيضاً بعيون نقدية فاحصة لنلمس حالة من التمييز بين الشكل والمضمون، حيث لم نلمس في ما يعرف في النقد الأدبي الحديث بتقنية انطباق الشكل على المضمون، حيث اتخذ الشكل الطابع الحداثوي من حيث التكثيف والفراغات، ثم الغموض الذي يلف تحديد ما هو مسار زماني ومكاني للقصة أو التفريط بزمان القصة ومكانها، وكذلك التقطيع، والتفريط بالحبكة، والتسلسل، واللانص، والقفز من فكرة إلى أخرى، واستخدامها للنقاط التي تترك المجال رحباً للقاريء أو المتلقي لملئها. بينما تبدو على سيماء المضمون طابع الكلاسيكية بامتياز، فهي تعالج موضوعاً تقليدياً وبشكل تقليدي كلاسيكي الطابع، يتمثل قي فتاة محبة والهة جار عليها الزمن فأبعدها عن فارس أحلامها فاشتاقت إليه وبدأت كما هو مألوف في مثل هذه الحالات بإخراج صوره ورسائله والإمعان فيهما لتستعيد ذكرياتها الأثيرة مع حبيبها لاغير.
وهذه خطاطة حب لم يترك السابقون للأولين ما يمكنهم الفلاحة والحرث فيها، فجاءت على طريقة المنفلوطي في قصته (العبرات) من حيث التقليدية في المضمون ولم تزد عليه شيئاً. ورغم ان المكان يلفه الغموض ربما بشكل متعمد من القاصة ولكن يمكن الإستدلال عليه من أشياء ذات الإستعمال الريفي عادة مثل – العلية- السلم الخشبي- فيحدقان في شمس الغروب- سارت على طريق واسع- بينما الزمان أيضاً غامض ولكنه يمكن العودة به إلى ما قبل التسعينيات من القرن الماضي حينما كانت الرسائل هي الوسيلة الرئيسية لتبادل الكلام بين المحبين فليس هناك ذكر للموبايل أو الإنترنيت أو ماشابه من وسائل الإتصال الحديثة. وعلى صعيد الجانب السيكولوجي المفرغ في السياقات اللغوية ولسانيات النص، نجد في هذه القصة كما في غيرها للقاصة وجيهة عبد الرحمن كقصة(جراح الصمت) مثلاً- عبارات تدل على إرهاصات ذات نزعة حضارية وتمرد على العادات والتقاليد، بالإضافة إلى سيماءات الحيرة والتوتر والقلق الوجودي، وهي من سمات الشخصية التي بدأت تشق طريقها في مضمار الحضارة والتغيير كما يقول الفلاسفة الوجوديون، حيث الشخصية الحضارية تحاول الإختيار والنبذ والإختيار يخلق القلق والحيرة معاً، ترافقها محاولات إخراج الإمكانيات الجسدية والمزيد من الإنفعال والحركية.
ولهذا نلمس في الصياغة الأدبية لدى وجيهة عبد الرحمن في قصتها(هجرة البنفسج) الكثير من الجمالية الفنية، وخيال قصصي خصب يضفي على الأحداث الكثير من عناصر التشويق والإثارة، مع نص حافل ينتابه – وكما قلنا- الكثير من القلق الوجودي وحالات من الحيرة والإضطراب والتوتر النفسي لدى بطلة قصتها، تدلنا على ذلك كلمات مثل- الدفء في أحضان الحبيب- الحرية- – الذاكرة- الحيرة- الرمادي- الأفول- الجنون- وهو ما يدل على الشعور بقتامة الحالة الإجتماعية وضغطها على الواقع المعيش للبطل مثل- الصمت – الأوجاع- غادرت- رحلت- وهو ما يدل مرة أخرى على نوع من التحدي الإجتماعي أوالهروب من الواقع المزري الذي يتردى فيه الفرد أو المرأة بشكل خاص. ومن جانب آخر فإن النص القصصي لا يخلو من سياقات لغوية اضطرابية وهو ما أدى أحياناً إلى توظيف الكلمة في أنساق تركيبية غير مناسبة وسنبين بعضها كما يلي.
1- سنشير في البداية إلى أن العنوان المؤلف من كلمتين هما( الهجرة والبنفسج) جاء منسجماً بشكل كبير مع نهاية القصة وخاتمتها الوجودية القلقة، فالحبيبة هاجرت بالفعل وهي حائرة سائرة إلى أحضان طريق واسعة طويلة لاتعرف إلى أين ستقودها، وبهذه النهاية الغامضة استطاعت القاصة أن تشغل قارئها بالفراغات وتترك له فسحة من التفكير لملء تلك الفراغات حسبما يراه مناسباً …. كما تبدو في النص القصصي ولع الكاتبة بكلمتي /الجنون التي وردت لديها أربع مرات – والأفول مرتان/ وهما كلمتان وجدانيتان تدلان على الحنين والعاطفية والإثارة، وتضفيان مسحة حداثية مثيرة على تضاريس وانثناءات اللغة القصصية الجميلة..
2- مرة أخرى تحاول القاصة إقحام عبارات حداثية في صميم قصصها لإضفاء سمات الحداثة عليها، من قبيل جنون الزنابق، وهذه العبارة الجنونية تضفي نوعاً من التناقض الدلالي على الحالة الإستعارية العدولية للجملة حتى مع الصورة الحداثية التي توفرت فيها والتي لا معنى لها تركيبياً أي هناك ما يعرف بطغيان الشكل على المضمون ، ومع هذا قد تضيف العبارة إلى الجانب الشكلي – وأؤكد على الجانب الشكلي فقط – مسحة من الجمال الفني اللغوي الحداثي بالفعل ولكن دون جمالية مماثلة في المضمون. ويظهر أن القاصة أوردتها بشكل متعمد لتظهر صياغاتها اللغوية بنسيج حداثي وما بعد حداثي أيضاً عن طريق الأنسنة، والتشخيص، و التجسيد…الخ. لكن الجنون هنا لايناسب الزنابق كثيراً، حيث يمكن إيراد عبارات حداثية في صياغات أخرى مثل: جنون الريح أي حينما تصفر، وجنون الموت حينما يبتلع الاحياء، وجنون النهر حينما يفيض….الخ.. بينما بماذا ستجن الزنابق إذ ليس لها ما يناسبها جنون مثلها، وكان من الممكن أن يسد مسدها عبارة (زهوالزنابق) وهنا أيضاً العبارة مع كلمة الزهو تدخل ضمن إطار أنسنة الزنابق بشكل استيطيقي حداثي جميل، ومع العبارة الأخيرة أي (زهو البنفسج) سيكون النسيج اللغوي قد جاء متوافقاً ومطرزاً بانطباق اللفظ والمعنى معاً، أو الشكل والمضمون معا.ً
3- استطاعت القاصة بتلاحق الأحداث المكثفة والمثيرة، إبعاد قارئها من أسر الملل الذي يصاحب التكرارات اللفظية المبتذلة فأوردت عبارة:- أنفاسها ترتجف- بدلاً من اللفظة المعتادة تضطرب أو مضطربة الأنفاس وبتقنية التقديم والتأخير أو إسلوب الإلتفات كما يقال في النقد الأدبي الحديث- بينما ورود الجملة البعدية في قولها- كطائر يريد المكوث في عشه- فهو تناقض منطقي واستاطيقي واضح. فالطائر عشه له أمن وأمان، فحينما يمكث في عشه معنى هذا إنه يرقد بسلام، لأن الطيور في حالة حدوث خطر واضطراب قرب أعشاشها لاتأوي إليها، بل تفر منها فرار الصحيح من السقيم الأجرب، فهنا خلل معرفي إبيستمولوجي أيضاً.
4- في موضع آحر قد نلمس اضطراباً في حفريات النسق التركيبي للجملة القصصية كما في قولها: (لا تدري لماذا كان يراودها شعور بالألم حين كانت تنظر إليها إحساس بالخوف لا مثيل له). فالجملة التي وقعت بين الشعور بالألم والإحساس بالخوف أربكت المقطع وأعطت للعبارة ركاكاة لغوية وأرباكات استاطيقية واضحة. ولهذا أعتقد أن الجملة كانت يجب أن تكون هكذا: لا تدري لماذا كان يراودها حين كانت تنظر إليها، شعور بالألم وإحساس بالخوف لا مثيل لهما.
5- في مكان آخر تورد القاصة العبارة التالية: (لكن هل أكثر إيلاماً من أن تجد ذاتك تنفصل عن جسدك). فأقول: أن العبارة هنا ليست منطقية لغوياً بل هي شابها شيء من الإرتباك الدلالي للعبارة، والصحيح هو القول: – لكن هل كان ما هو أكثر إيلاماً- أي بإضافة الحرف- ما – والضمير هو– قبل كلمة أكثر وإلا سوف لن يستقيم معنى العبارة بتاتاً.
6- أما في العبارات التي جاءت مبينة حيرة وتردد بطلة القصة وبالشكل التالي:
(….سأعزل..لا..سأصعد..الحيرة تنهش جسد الذاكرة). فحفاظاً على عنصر التشويق وإشغال القاريء يفراغات القصة أو ما هو سكوت عنه، كان يجب عدم إيراد الجملة الأخيرة – الحيرة تنهش جسد الذاكرة- التي جاءت تشرح للقاريء حيرة البطلة وترددها على طبق من ذهب ودون أن يشغل ذهنه بسبب حيرة البطلة وترددها، فورود العبارة بهذا الشكل أدى إلى إزالة ومحو عنصر التشويق لدى القاريء الذي كان من المفروض – وكما قلنا- إعطائه مساحة للتفكير عن سبب حيرتها وقلقها الكبيرين دون أن نشرح له الأسباب.
7- وفي عبارة: (تساله عن شوقه وثم تسحبه إلى الدخل…) فالواو هنا قبل الحرف ثم لا لزوم له، ويسد مسده الحرف ثم لوحده. بالإضافة إلى الخطأ النحوي استأصل/ والصحيح استؤصل لأنه مبني للمجهول، ولأن حركة الحرف الذي جاء قبل الهمزة هي الضمة والضمة يناسبها الواو. وهناك ملاحظات أخرى لكن سنكتفي بهذه الملاحظات النقدية التقويمية لاغير، وأقول التقويم وليس التجريح، ونتمى للقاصة وجيهة عبد الرحمن المزيد من القصص الإجتماعية الهادفة والشيقة، ومزيداً من الخيال الأدبي الخصب. وأتمنى أن تهتم القاصة المبدعة بالفعل وجيهة عبد الرحمن بالأنساق التركيبية الدلالية للغتها القصصية بشكل أكبر، والتفكير في جدلية انطباق الشكل والمعنى فالألفاظ لبوس للمعاني حسب النقد العربي القديم وانطباق الشكل والمعنى هو من صميم القاعدة الجمالية للعبارة الأدبية الراقية والتي – كما يقال- تجمع الحسب من جهتيها… وسأذكر هنا بأن الكاتبة وجيهة عبد الرحمن قد قالت في إحدى مقابلاتها بأنها لاتهتم بالنقد. وهذا تصريح لايخلو من شيء من التعالي على النقد والخوف منه معاً، وكنت أتمنى أن تقول الكاتبة أنني أستفيد من النقد الجاد والهادف لأن النقد له دوره في التقويم والتقييم معاً، وبدون النقد لايمكن للأدب والأديب أن يرتقيا إلى المستوى المطلوب أبداً. وسأورد هنا حادثة بليغة الدلالة بما تدل عليه دلالة قاطعة على دور النقد في التقويم والتقييم والتجميل.
وهذه خطاطة حب لم يترك السابقون للأولين ما يمكنهم الفلاحة والحرث فيها، فجاءت على طريقة المنفلوطي في قصته (العبرات) من حيث التقليدية في المضمون ولم تزد عليه شيئاً. ورغم ان المكان يلفه الغموض ربما بشكل متعمد من القاصة ولكن يمكن الإستدلال عليه من أشياء ذات الإستعمال الريفي عادة مثل – العلية- السلم الخشبي- فيحدقان في شمس الغروب- سارت على طريق واسع- بينما الزمان أيضاً غامض ولكنه يمكن العودة به إلى ما قبل التسعينيات من القرن الماضي حينما كانت الرسائل هي الوسيلة الرئيسية لتبادل الكلام بين المحبين فليس هناك ذكر للموبايل أو الإنترنيت أو ماشابه من وسائل الإتصال الحديثة. وعلى صعيد الجانب السيكولوجي المفرغ في السياقات اللغوية ولسانيات النص، نجد في هذه القصة كما في غيرها للقاصة وجيهة عبد الرحمن كقصة(جراح الصمت) مثلاً- عبارات تدل على إرهاصات ذات نزعة حضارية وتمرد على العادات والتقاليد، بالإضافة إلى سيماءات الحيرة والتوتر والقلق الوجودي، وهي من سمات الشخصية التي بدأت تشق طريقها في مضمار الحضارة والتغيير كما يقول الفلاسفة الوجوديون، حيث الشخصية الحضارية تحاول الإختيار والنبذ والإختيار يخلق القلق والحيرة معاً، ترافقها محاولات إخراج الإمكانيات الجسدية والمزيد من الإنفعال والحركية.
ولهذا نلمس في الصياغة الأدبية لدى وجيهة عبد الرحمن في قصتها(هجرة البنفسج) الكثير من الجمالية الفنية، وخيال قصصي خصب يضفي على الأحداث الكثير من عناصر التشويق والإثارة، مع نص حافل ينتابه – وكما قلنا- الكثير من القلق الوجودي وحالات من الحيرة والإضطراب والتوتر النفسي لدى بطلة قصتها، تدلنا على ذلك كلمات مثل- الدفء في أحضان الحبيب- الحرية- – الذاكرة- الحيرة- الرمادي- الأفول- الجنون- وهو ما يدل على الشعور بقتامة الحالة الإجتماعية وضغطها على الواقع المعيش للبطل مثل- الصمت – الأوجاع- غادرت- رحلت- وهو ما يدل مرة أخرى على نوع من التحدي الإجتماعي أوالهروب من الواقع المزري الذي يتردى فيه الفرد أو المرأة بشكل خاص. ومن جانب آخر فإن النص القصصي لا يخلو من سياقات لغوية اضطرابية وهو ما أدى أحياناً إلى توظيف الكلمة في أنساق تركيبية غير مناسبة وسنبين بعضها كما يلي.
1- سنشير في البداية إلى أن العنوان المؤلف من كلمتين هما( الهجرة والبنفسج) جاء منسجماً بشكل كبير مع نهاية القصة وخاتمتها الوجودية القلقة، فالحبيبة هاجرت بالفعل وهي حائرة سائرة إلى أحضان طريق واسعة طويلة لاتعرف إلى أين ستقودها، وبهذه النهاية الغامضة استطاعت القاصة أن تشغل قارئها بالفراغات وتترك له فسحة من التفكير لملء تلك الفراغات حسبما يراه مناسباً …. كما تبدو في النص القصصي ولع الكاتبة بكلمتي /الجنون التي وردت لديها أربع مرات – والأفول مرتان/ وهما كلمتان وجدانيتان تدلان على الحنين والعاطفية والإثارة، وتضفيان مسحة حداثية مثيرة على تضاريس وانثناءات اللغة القصصية الجميلة..
2- مرة أخرى تحاول القاصة إقحام عبارات حداثية في صميم قصصها لإضفاء سمات الحداثة عليها، من قبيل جنون الزنابق، وهذه العبارة الجنونية تضفي نوعاً من التناقض الدلالي على الحالة الإستعارية العدولية للجملة حتى مع الصورة الحداثية التي توفرت فيها والتي لا معنى لها تركيبياً أي هناك ما يعرف بطغيان الشكل على المضمون ، ومع هذا قد تضيف العبارة إلى الجانب الشكلي – وأؤكد على الجانب الشكلي فقط – مسحة من الجمال الفني اللغوي الحداثي بالفعل ولكن دون جمالية مماثلة في المضمون. ويظهر أن القاصة أوردتها بشكل متعمد لتظهر صياغاتها اللغوية بنسيج حداثي وما بعد حداثي أيضاً عن طريق الأنسنة، والتشخيص، و التجسيد…الخ. لكن الجنون هنا لايناسب الزنابق كثيراً، حيث يمكن إيراد عبارات حداثية في صياغات أخرى مثل: جنون الريح أي حينما تصفر، وجنون الموت حينما يبتلع الاحياء، وجنون النهر حينما يفيض….الخ.. بينما بماذا ستجن الزنابق إذ ليس لها ما يناسبها جنون مثلها، وكان من الممكن أن يسد مسدها عبارة (زهوالزنابق) وهنا أيضاً العبارة مع كلمة الزهو تدخل ضمن إطار أنسنة الزنابق بشكل استيطيقي حداثي جميل، ومع العبارة الأخيرة أي (زهو البنفسج) سيكون النسيج اللغوي قد جاء متوافقاً ومطرزاً بانطباق اللفظ والمعنى معاً، أو الشكل والمضمون معا.ً
3- استطاعت القاصة بتلاحق الأحداث المكثفة والمثيرة، إبعاد قارئها من أسر الملل الذي يصاحب التكرارات اللفظية المبتذلة فأوردت عبارة:- أنفاسها ترتجف- بدلاً من اللفظة المعتادة تضطرب أو مضطربة الأنفاس وبتقنية التقديم والتأخير أو إسلوب الإلتفات كما يقال في النقد الأدبي الحديث- بينما ورود الجملة البعدية في قولها- كطائر يريد المكوث في عشه- فهو تناقض منطقي واستاطيقي واضح. فالطائر عشه له أمن وأمان، فحينما يمكث في عشه معنى هذا إنه يرقد بسلام، لأن الطيور في حالة حدوث خطر واضطراب قرب أعشاشها لاتأوي إليها، بل تفر منها فرار الصحيح من السقيم الأجرب، فهنا خلل معرفي إبيستمولوجي أيضاً.
4- في موضع آحر قد نلمس اضطراباً في حفريات النسق التركيبي للجملة القصصية كما في قولها: (لا تدري لماذا كان يراودها شعور بالألم حين كانت تنظر إليها إحساس بالخوف لا مثيل له). فالجملة التي وقعت بين الشعور بالألم والإحساس بالخوف أربكت المقطع وأعطت للعبارة ركاكاة لغوية وأرباكات استاطيقية واضحة. ولهذا أعتقد أن الجملة كانت يجب أن تكون هكذا: لا تدري لماذا كان يراودها حين كانت تنظر إليها، شعور بالألم وإحساس بالخوف لا مثيل لهما.
5- في مكان آخر تورد القاصة العبارة التالية: (لكن هل أكثر إيلاماً من أن تجد ذاتك تنفصل عن جسدك). فأقول: أن العبارة هنا ليست منطقية لغوياً بل هي شابها شيء من الإرتباك الدلالي للعبارة، والصحيح هو القول: – لكن هل كان ما هو أكثر إيلاماً- أي بإضافة الحرف- ما – والضمير هو– قبل كلمة أكثر وإلا سوف لن يستقيم معنى العبارة بتاتاً.
6- أما في العبارات التي جاءت مبينة حيرة وتردد بطلة القصة وبالشكل التالي:
(….سأعزل..لا..سأصعد..الحيرة تنهش جسد الذاكرة). فحفاظاً على عنصر التشويق وإشغال القاريء يفراغات القصة أو ما هو سكوت عنه، كان يجب عدم إيراد الجملة الأخيرة – الحيرة تنهش جسد الذاكرة- التي جاءت تشرح للقاريء حيرة البطلة وترددها على طبق من ذهب ودون أن يشغل ذهنه بسبب حيرة البطلة وترددها، فورود العبارة بهذا الشكل أدى إلى إزالة ومحو عنصر التشويق لدى القاريء الذي كان من المفروض – وكما قلنا- إعطائه مساحة للتفكير عن سبب حيرتها وقلقها الكبيرين دون أن نشرح له الأسباب.
7- وفي عبارة: (تساله عن شوقه وثم تسحبه إلى الدخل…) فالواو هنا قبل الحرف ثم لا لزوم له، ويسد مسده الحرف ثم لوحده. بالإضافة إلى الخطأ النحوي استأصل/ والصحيح استؤصل لأنه مبني للمجهول، ولأن حركة الحرف الذي جاء قبل الهمزة هي الضمة والضمة يناسبها الواو. وهناك ملاحظات أخرى لكن سنكتفي بهذه الملاحظات النقدية التقويمية لاغير، وأقول التقويم وليس التجريح، ونتمى للقاصة وجيهة عبد الرحمن المزيد من القصص الإجتماعية الهادفة والشيقة، ومزيداً من الخيال الأدبي الخصب. وأتمنى أن تهتم القاصة المبدعة بالفعل وجيهة عبد الرحمن بالأنساق التركيبية الدلالية للغتها القصصية بشكل أكبر، والتفكير في جدلية انطباق الشكل والمعنى فالألفاظ لبوس للمعاني حسب النقد العربي القديم وانطباق الشكل والمعنى هو من صميم القاعدة الجمالية للعبارة الأدبية الراقية والتي – كما يقال- تجمع الحسب من جهتيها… وسأذكر هنا بأن الكاتبة وجيهة عبد الرحمن قد قالت في إحدى مقابلاتها بأنها لاتهتم بالنقد. وهذا تصريح لايخلو من شيء من التعالي على النقد والخوف منه معاً، وكنت أتمنى أن تقول الكاتبة أنني أستفيد من النقد الجاد والهادف لأن النقد له دوره في التقويم والتقييم معاً، وبدون النقد لايمكن للأدب والأديب أن يرتقيا إلى المستوى المطلوب أبداً. وسأورد هنا حادثة بليغة الدلالة بما تدل عليه دلالة قاطعة على دور النقد في التقويم والتقييم والتجميل.
نعم، لقد كنت أعرف رجلاً أمياً متكلماً بالإضافة إلى أنه كان حسن السيرة والسلوك، وكان حينما يدخل في سجال ونقاش وحتى يجعل الطرف الآخر ينصت إليه كان يقول له: تمهل قليلاً يا رجل وليحدث بيننا سوء تفاهم بدلاً من أن يقول حسن تفاهم، أي لم يكن الرجل ليرى العيب في كلامه لأنه لايعرف العربية بعمق، فكان يؤذي نفسه بكلامه نفسه، كما لم يصحح له أحد مقولته تلك إما خجلاً منه أو عدم معرفة لمعناها أيضاً، حتى توفي الرجل مؤخراً ودون أن يميز بين حسن التفاهم وسوئه، ومن هنا فلو كان هناك من انتقد عبارته المشوهة تلك وصححها له لما تعرض إلى الغمز واللمز من جانب المحيطين به والحضور. والأدب والأديب ينطبق عليهما ما ينطبق على ذاك الرجل تماماً، إذ لو ترك الأدب بدون نقد ولم يهتم الكتاب بما يقوله النقد والنقاد عندها سوف لن نقرأ سوى أدب رديء ودون المستوى المطلوب على الدوام.