خالص مسور
إبراهيم اليوسف، إباء وتمرد، وموهبة شعرية يجيد توظيفها، وإحساس عال بالمسؤلية، وهو إلى جانب هذا وذاك، شاعر حداثي مرهف الإحساس، يمتلك مقدرة لغوية نادرة وسمو شاعري خلاق، وهو يستحق أن يسمى بشاعر الإبداعات والملاحم الرمزية والصور الإيحائية المعبرة، يغني قصائده بموضوعات متباينة وأغراض شعرية متعددة، ليس أهمها استدعاء الرموز التاريخية للتراث الكردي بشكل خاص والتراثين الإسلامي والعالمي بشكل عام، أي بتقنية التعالقات النصية التراثية في درامياته الشعرية والقصصية المحبوكة بإحكام، وبإيقاعات وموسيقى وزن التفعيلة غالباً، وهوما يعطي الترابط العضوي في سطوره الشعرية مزيداً من التلاحم والإنسجام بين الرمز والمرموزله، ويضفي المزيد من الشاعرية والجمال على نصه الموشح بالتمرد، والأمل، والتفاؤل، وبالدفقة الإنسانية للذات الشاعرة وروحها الوثابة لفعل الخير، والتعامل مع قضايا المظلومين والمحرومين في هذا العالم الذي يمور كبحرعات متلاطم الأمواج.
ولذلك – ونحن نقرأ سطورالشاعرابراهيم اليوسف – نجد أنفسنا – على الدوام- وسط ملاحم رمزية بالغة الثراء والدلالة، وفي محراب إبداعات شاعر طموح، واسع الخيال، متفتح الذهن، متمرد جريء يتحمل عواقب جرأته..! يفجر اللحظة بطاقات ألفاظه المؤثرة والقوية الرنين، ويثير بومضاته اللغوية أحاسيس وانفعالات النفس البشرية، باعثاً لديها الأمل والتفاؤل بحياة آت، حر،كريم.
لقد اعتاد الشاعر أن يصوغ ملاحمه الرمزية بكثيرمن السلاسة والعذوبة أحياناً، وبالدهشة والغرائبية في أحايين أخرى، يوشيها قلق وتوتر مستمرين، وإسلوب شاعري مفعم بالحيوية والحركية والتكثيف، في بحثه عن الحق والحرية والجمال، مع أناقة في اللغة الرامزة والصورة المعبرة، ورشاقة العبارة الموحية، عبر فضاءات عوالمه الشعرية الموارة بالحركية وجمالية التعبير،عن الحياة المدركة بالعقل والحواس معاً.
للشاعر عدة دواوين مطبوعة نذكر منها:
(للعشق للقبرات والمسافة) إصدار عام 1986م.
(هكذا تصل القصيدة) إصدارغام 1988م.
(عويل رسول الممالك) إصدار عام 1992م.
(ادكارات) إصدار عام 1995م.
(الرسيس) إصدار عام 2000 م .
وآخرها (مجموعة قصص- شجرة الكينا بخير) إصدار عام 2004م.
ومن هذه الدواوين الشعرية إخترنا عينة عشوائية من القصائد في دراستنا النقدية هذه للشاعرإبراهيم اليوسف، علماً بأنها قد لا تكون الأجمل من بين قصائده، ورغم هذا فقد اختصرنا الدراسة النقدية لها، وأعتقد لو آن لنا أن نشبع القصائد موضوع الدراسة بالنقد والدرس والتمحيص، لتطلب منا ذلك صفحات وصفحات، ولكننا اكتفينا بما أنجزناه في دراستها، وأرجو أن نكون قد وفقنا في ذلك قدر الإمكان.
ففي قصيدته ( هذا نشيدك) يقول الشاعر:
لا إبانة
لا (غموض)..
بوح يثرثرقرب
بابهما
ولكن
أي نقر
سوف تدلقه الجسارة
لو تريد..!!؟
هنا يوحي العنوان الخطابي /نشيدك/ بالتحديد والإستمرارية، أوالحركية والسكون في آن واحد، ضمن عوالم وفضاءات نص شعري نستشف منه منهج الشاعر في الوسطية والإعتدال / لا إبانة – لا غموض/ راسماً استراتيجيته الشعرية المتميزة في تعامله مع اللغة وقارئه النخبوي المتميز أيضاً. وهذه الوسطية في الإنزياح عن الدرجة صفر كما يقول (رولان بارت)، هي تقنية الشاعر في التعامل مع ضفائره الشعرية المجدولة بإسلوبه الرمزي والجمالي المتفرد.
وقد جاءت صياغته لهذا النص بمثابة تجسيد لحركة درامية يتناوب فيها مشهدي الإنقباض والإنبساط، السكون والحركة، ليتمكن الشاعرمن إيصال ما يريد قوله لقرائه بالكلمة الموحية والجملة المعبرة. فالإنقباض والسكون في الجمل الإسمية /إبانة- غموض/ ثم الإنبساط والحركية مع الافعال المضارعة – يثرثر- سوف- تدلق- تريد- مع أنسنة وتجسيد ما هو معنوي/ بوح يثرثر/ بالتضافر مع الإنتقال المنطقي من المقدمات إلى النتائج، أدى إلى أضفاء الطابع الحداثي على النص الشعري، وترسيم معالم تواصل سلس وعذب مع القاريء والمتلقي معاً، ضمن مجال استدخدام الشاعر لأدواته الرمزية، بشكل متقن وجميل عبر فضاءات متخيله الشعري، مجسداً الصورة الذهنية إلى لوحة درامية تشخيصية ناطقة بالحيوية والجمال.
وفي قصيدة (مدائح الكلام) يقول:
الكلام الجميل
تدثّر في حكمة
وشغف
كلّ هذا الدهاءِ الموارب أفياءه
يحتسيها الهواء…!
كلّ هذا التوجس من ربقة الصمت
يأتي على ثرثرات التلظى
على قوسه القدسيّ
سادن الوقت
أرجاؤه علّقت في فراغ ودود.
تعلن السلم والحرب
اصبعُه
ثمّ يرشف ماء النشيد..
……
المستظلة غاراً
وناراً
مدائح الكلام، هكذا يبدو التشاكل هنا في العنوان بين الشاعر ابراهيم اليوسف، والشاعر الفلسطيني الأشهر محمود درويش في قصيدته الشهيرة (مدائح لحصار البحر). وتشاكل آخربين الشاعرين من حيث الموقف من الكلام والإتكاء عليه في غنائه الشعري، حيث يكرر ابراهيم اليوسف ملفوظة الكلام في قصيدته هذه/الكلام الجميل- مدائح الكلام- للكلام اللذيذ/ ويفعل نفس الشيء محمود درويش في عبارات مثل/في دمشق يعود الكلام إلى أصله- يا هدهد الكلمات- فصبحت والطير لم تكلم/
ونزار قباني يقول: أن كلماته قاصرة عن التعبير عن محاسن حبيبته
لكنك ياقمري الأخضر
أحلى من كل الكلمات
أكبر من كل الكلمات
ولكن استطاع الشاعر ابراهيم اليوسف، في تعامله الصوفي مع الكلمة واللغة، أن يمتح من منجمه الشعري العميق درر الكلام ولآلئه، وأن يحدد – من خلاله- معالم شخصيته الإبداعية المتميزة، ويضفي حركية دافقة على سطوره الشعرية، وصوره اللغوية الثرة الرامزة، عبر فضاءات تراكيبه الثنائية وتناقضاتها الدلالاية المعبرة/الصمت- الثرثرة/- /السلم- والحرب/ غاراً – وناراً/ ثم التشخيص وأنسنة المادة لاستنطاقها وتوشيتها بالحركة والحيوية، مع شيء من العبثية في الرمزاحياناً/ يحتسيها الهواء- يرشف ماء النشبد- فراغ ودود/ وبالتضافر مع تقتية تراسل الحواس والأحاسيس والصور السمعية والبصرية. مما أعطى إشارات موحية عن تعاليات نصية وإبداع شاعري أصيل، يتدفق من نبعه اللغوي بكثير من السلاسة والجمال.
وتكرار لازمة /الكلام الجميل/ والصور الرمزية التي أشرنا إليها، تدل على أن الشاعر يؤكد تعامله بمسوحات اسطورية مع التراكيب الدلالية للغة بعبارات فيها الرمز الشفاف والغموض المحبب والتعقيد أحياناً، وهو ما يفسح المجال لقارئه بتشغيل متخيله الذهني، وفض الإشتباك الرمزي والتلذذ بفك إيحاءات صوره الفنية والعبارات اللغوية الموحية.
هذه الرمزية والإنزياحات اللغوية، والبعد عن التقريرية والمباشرة، هي سلاح الشاعر الفعال لسبر أغوار مخزونه الشعري، والنهل من إبداعاته كحالة من التماهي بين اللغة والذات الشاعرة والمحيط الإجتماعي الراهن، لترسيم إيقونات شعرية معبرة عن حالات إنسانية مفعمة بالأحاسيس والمشاعر. وفي الحال والمآل فإن ابراهيم اليوسف يشمر عن ساعديه ليخوض غمار معترك الحياة في سبيل غايات إنسانية سامية متمثلة بالأحاسيس التي تصدرها ألفاظ مثل – تدثر في حكمة- التوجس- التلظى- القوس- السلم والحرب- غاراً وناراً- ولهذا فقد استطاع الشاعر عن طريق ترابط الافكار وتسلسلها، والأنسنة والتجسيد لصوره المعنوية، والإيقاع الشجي لسطوره الشعرية، والتوظيف المناسب لرموزه المعبرة، أن ينجز التواصل مع المتلقي وتحقيق سلطة النص بالتعبير النقدي الحديث.
وفي نفس القصيدة يقول الشاعر:
للكلام اللذيذ..
لغبطته تنتهي بأسى
لأحزانه رفلتْ بالفرح
ناشراً اسمه شجراً يستهلّ مساءاته
بالهسيس
…….
لاحبولة للهباب تكاشف لحظتها
بعض حلم حرون
يؤاتي مدارجه هابطاً دارة الأبجدية
لاتستبيح جنائنها
نأمة
أو
تلف
هنا يرتشف ابراهيم اليوسف من رصيد أرشيفه الشعري المخزون في فضاءات متخيله الذهني، إنه يطرح الفكرة بإسلوب شاعري مبتكر، مستخدماً الومضة الشعرية الخاطفة داخل الفكرة الواحدة للنص الشعري، وضمن مسار الوحدة العضوية للقصيدة الحداثية، بعيداً عن التطويل والثرثة والوصف الممل، مجيداً تشذيب وتقليم حوافي قوادم سطوره الشعرية، بتقنية التكثيف، والعبارة الموجزة، والإيحاءات الرمزية المعبرة للوصول إلى أجوبة تنبيء عن حالة من القلق والتوتر، ومقدرة في إشراك القاريء بانفعالات دواخل قلب شاعر غاص في لجج بحرز اخر بالدرر الثمينة والجواهر النفيسة.
ولا يمهل ابراهيم اليوسف قارءه للخلود إلى الراحة والهدوء، فينبهه ويقاسمه الهموم بصوره الرمزية، وطريقته المعبرة في كتابة نصه الشعري، خالقاً بذلك حالة من التماهي بين دخائل الذات الإنسانية والحالة الإجتماعية الراهنة، يبحر في ذاكرته الإبداعية فينتشل اللقطة الشعرية بإسلوب فيه الكثير من السلاسة والإيقاع المتناغم، وإدهاش القاريء بحضورها الغرائبي ودلالاتها الرمزية المتفائلة، مفجراً – في اللحظة- طاقات عباراته المثيرة للمشاعر والأحاسيس/ لاحبولة للهباب- حلم حرون/ وبمحمولاتها التعبيرية، عبر تناقضاتها الدلالية وحركاتها المتداخلة الشبيهة بحركة حصان امرؤ القيس في الكر والفر،/لغبطته- أسى/ لأحزانه- رفلت بالفرح/ لتصوير حالة من التناقض والصراع الداخلي، عن طريق تداخل الكلمات الدالة على الفرح والحزن معاً/اللذيذ- أسى- غبطته- أحزانه- بالفرح/.
ثم الرنين الموسيقي الشفيف المنبعث من ناي كلمات عذبة الصوت والصدى مثل- اللذيذ- رفلت- الهسيس- حرون- نأمة- بالتآلف مع السيمفونية الشجية في كلمة/ حرون/ بتنغيمية حرف الحاء وطول الصوت المنبعث من حرف الواو اللينة، وبالتضافر مع تنغيمية حرف السين المهموس والمتكرر /ناشراً اسمه شجراً يستهل مساءاته بالهسيس/ مما يضفي مزيداً من الرونق والألوان وتناغم الأصوات وانسجامها في نسيجه الشعري الأصيل، بل لانجانب الحقيقة إذا قلنا أن الشاعر يمارس هنا في لوحته التعبيرية ثلاث حركات متداخلة في آن واحد، تتراوح بين الإنقباض والإنبساط. الإنقباض في الجار والمجرور/لغبطته- لأحزانه/ والإنبساط في الفعل المضارع /تنتهي/ ثم العودة إلى الخلف (الفلاش باك) مع الفعل الماضي/رفلت/ وبهذا يكون الشاعرقد عبرعن مقدرته الشعرية مفصحاً – في الوقت نفسه- عن قلقه وتفاؤله وعاطفته الجياشة وإنفعالاته المرهفة، تجاه القضايا الإنسانية المصيرية التي تشغل متخيله الذهني، والتعبير عنها بإسلوب شاعري جميل، مما يدل على التجربة الثرية للشاعر مع الكلام الجميل، واللغة الرمزية المعبرة عن موتيفات الحالة الإجتماعية الراهنة، والقضايا الإنسانية النبيلة.
كما خاض الشاعر ابراهيم اليوسف غمار الشعر الغزلي في كثير من قصائده المثيرة كما في قوله:
يقول لها: ياصديقة هيا املأي خافقي بالرجاء
دفتري بالقصائد
لاتعرف الوسن النحويّ
ولا “خدَر” النأي عن منزل اللغة الواقدهْ
-هل تكونين عندي سوى امرأةٍ؛
…………..
تستظلّ بكفي لتندسّ في كوة القلب
ريّانةً
بالديانة
مكسورةً
بالغناء
الطويل..!
يبدو حضورالمرأة الكرنفالي لافتاً هنا – وعلى الدوام- في شعر ابراهيم اليوسف، وجاء الإبتداء بالعبارة الإلتفاتية/يقول لها/ لتفتح آفاقاً رحبة أمام قاريء السطور، ولتشد انتباهه إلى مايطلبه السارد من حبيبته لتملأ خافقيه بالرجاء. مع ما نلاحظه من توهج للعاطفة وتعامل صوفي مع اللغة في قصيدته الجميلة هذه.
فما أمامنا هو نص غزلي متألق ألق جمال المرأة، نص ينبض بخلجات قلب شاعر آنس الحب والهوى، مظهراً براعته في الرقص على أنغام ناي المرأة العذبة، ووصف أوضاعها الإجتماعية بمهارة فيها الكثير من الإحساس بالمسؤلية الأخلاقية، حيث لم يجتز الشاعر خطوط العشق الحمراء مثلما يفعل شاعر الغزل الأشهر نزار قباني، لأن ابراهيم اليوسف التزم بقضايا الجيل والمرأة والإنسانية المعذبة، وهو يمتح من تجربته في الحب والتعامل الإنساني معها، ولكنه لن ينسى ولهه بها وتخصيص مكان لها في القلب/هل تكونين عندي سوى امرأة – تستظل بكفي لتندس في كوة القلب/ وهو تعبيرجميل وفي صياغته بهذا الشكل فيه الكثير من الشعرية والذكاء، فتبدو العبارات كمن يتلاعب بعواطف القاريء فتأخذه ذات اليمين وذات الشمال، وعلى طريقة المدح بما يشبه الذم، أو في ما يمكن أن نسميه بالتنافر المنسجم، وهو ما يحفز القاريء للتفكير بتساؤله التقريري الموارب /هل تكونين عندي سوى امرأة/ أي يظن للوهلة الأولى أن الشاعر ينتقص من شأن المرأة ولكنه سرعان ما يبهت القاريء، بطريقة اعلائه من مقامها، فيمررها إلى أنبل عضو من أعضاء جسده ألا وهو/ القلب/.
ومن هنا ندرك، كم يجيد اليوسف لعبة التنسيق اللغوي في سطوره الشعرية الرمزية غالباً والمراوغة أحياناُ، فهو لاعب سيرك شعري بارع، يفجر قنابله الموقوتة في الزمان والمكان المناسبين، ويضع ملفوظاته في مكانها الأنسب.
وعلى العموم فالمرأة لدى الشاعر ابراهيم اليوسف هي المرتجى والأمل، وهي صديقته وملهمته في صياغة عباراته ونسج صور قصائده الغزلية الجميلة. ورغم أن عبارة/كوة القلب/ العاطفية أصبحت قولاً معاداً ومكروراً لدى معظم الشعراء الآخرين، ألا أنها توحي بمصداقية الشاعر في حبه الإنساني الأصيل، وتقديره السامي للمرأة وتعاطفه معها، رغم أنها حصلت على بعض حقوقها، لكن لها تاريخ مكسور، وماض مليء بالإذلال والقهر والآهات والدموع.
ونود هنا ألا تفوتنا الإشارة إلى مهارة الشاعر في استخدامه لفراغات صفحة الورقة المستوية في قصيدته هذه، حيث صورة الكتابة العمودية في السطور الأخيرة الشبيهة بسلم هابط نحو الأسفل، تبدو أشبه بصورة امرأة تتردى نحو هوة سحيقة، ما يعطي احساساً بمعاناة المرأة والإنكسار التاريخي المديد لشخصيتها ومكانتها الإجتماعية أمام الرجل/مكسورة بالغناء الطويل/ ثم اللهفة الموسيقية الشجية المنبعثة من أنين الياء المندغمة صوتياً بالواو اللينة، ثم الفرملة الصوتية المفاجئة لللام المهموسة الناعمة، أدت إلى إثارة إنفعالات المتلقي، وخلق حالة من الحزن الشفيف في دواخله المتهيجة أصلاً. وبمقارنة بين الشاعرين ابراهيم اليوسف ونزار قباني في موقفيهما من المرأة يظهر لنا تشابه واختلاف، تشابه
في سطري إبراهيم:
هل تكونين عندي سوى امرأة …. تستظل بكفي لتندس في كوة القلب
وفي سطري نزار:
أنت امرأة تبقى امرأة.. في كل الأوقات
سوف أحبك
وبغض النظر عن الصياغة اللغوية والشعرية لهما، فقد نلمس بينهما تشابهاً في موقفيهما الإنساني من المرأة تماماً، ولكن في مواضع أخرى نرى الشاعر نزار يمارس فحولته الذكورية الطاغية على المرأة، حسب تعبير الناقد السعودي عبدالله الغذامي.
فلنسمعه يقول عن المرأة:
بدراهمي
لا بالحديث الناعم
حطمت عزتك المنيعة كلها بدراهمي
بينما يترفع الشاعر ابراهيم اليوسف عن قول ذلك ويبدو مختلفاً هنا كما في قوله:
ريّانةً
بالديانة
مكسورةً
بالغناء
الطويل..!
وهذا لايرقى إلى وضع الفحولة الذكورية الطاغية بأي شكل من الأشكال. ولذا فابراهيم اليوسف، هو أكثرقرباً واحتراماً لإنسانية المرأة، وألين عريكة في تعامله الإنساني معها، من زميله الشاعر الشهيرنزار قباني.
ويتابع الشاعر عن المرأة القول:
هو وجهها
استعصى على صور القصيدة
هو وجهها
أسطورة للشاعر المذهولِ..
هل لي من مكان كي أفك رموزها
وهنا يبدو الشاعر في محاورة مع قارئه حول الجمال الأسطوري للمرأة، هذا الجمال الذي تمرد عن التجسيد في صور ولوحات قصائده الشعرية، فانتابه الحيرة والذهول أمام لغز المرأة وهو يمعن التفكير بفك طلاسمها المحيرة/هل لي من مكان كي أفك رموزها / والسطور هنا تنزع إلى تشكيل الصورة الإيقونية البديعة لجمال المرأة، لتتحرر من سجن استواء السطح الورقي، والتحول نحو حالة أكثر إيحاء وجاذبية، في مشهد حسي حي نابض بالحركية والجمال، ليدخل في روع المتلقي مفارقة المشهد الأنثوي المثير! مما ينم – مرة أخرى- عن صوفية التعامل مع اللغة الأنثوية في محراب طقس شاعري جميل.
وفي قصيدته الموسومة بـ(كان وجهها يقول) مقطع (نجمة) يقول:
الطفلة التي سألت أباها
بإلحاح شديد
منذ أكثر من عتمة
هاطلة
ترى لماذا لاتتدلى من سقف غرفتهم
نجمة
كي تنشر القصص
والضوء
وتطرد الدلف
ماتت
هذا المساء
رغم التقريرية هنا والمباشرة في الجانب الشكلي الخارجي لهذه القصيدة القصصية والنثرية المؤثرة في آن واحد، ألا أن الجانب الموضوعي الإنساني فيها يدخل ابراهيم اليوسف في زمرة الشعراء الإنسانيين بامتياز! حيث أفلح من خلال تجربته الشعرية في رسم لوحة إنسانية دراماتيكية مثيرة، كان بطلاها الفتاة البائسة والآخر هو الشاعر نفسه، فالفتاة بسؤالها اللهيف وحوارها مع أبيها عن سبب بؤسهم وعوزهم ووضعهم المعيشي المزري، والشاعر الذي أبدى على لسان الفتاة عاطفته الجياشة وتوقفه المثير عند القفلة المفاجئة بهمسة السين المهموسة الشجية/ماتت هذا المساء/ أفصح عن مقدرة شاعرية ذكية في الضرب على الوتر الحساس لقلب المتلقي، وتسجيل لحظة مفاجئة من القلق والإدهاش لديه، واستدرار العواطف والمشاعر الإنسانية النبيلة، عن طريق التركيب المحبب، والتجسيد المعبر، أوتحويل الصورة المعنوية إلى حسية في عبارة/عتمة هاطلة/ وهي عبارة – رغم غرائبيتها- جاءت ضمن تنسيق ملفوظي رامز ومحبب لصورة بصرية مثيرة للتعبير عن الحالة المأساوية المزمنة – منذ- التي أحاطت بحياة عائلة الطفلة، بالتضافر مع كلمات يستشف منها نبرة التمني والرجاء والأحلام والأماني/كي تنشر القصص والضوء/ ولكنها أماني وأحلام فتاة بائسة وئدت في مهدها/ماتت هذا المساء/ مع كلمات تجسد عمق المآسي الإنسانية – عتمة – الدلف- ماتت – جاءت كلها لتنسجم مع منهج رؤية شعرية حداثية للحالتين الفردية والجماعية، لانتاج دلالة إجتماعية معاصرة توحد بين التجربتين الخاصة والعامة، في متخيل الشاعر الذهني، وفي إيقاعات نسيج سطوره الشعرية الترميزية المحببة، أدت إلى إكساب تجربة الشاعر- كما قلنا – طابعها المتفرد وخصوصيتها المتميزة.
وحيث لم يرض الشاعر ابراهيم اليوسف أن يقبع وحيداً في برجه العاجي، بل نجده في حركية دائبة ينسج موتيفاته الإجتماعية مع ملاحمه الشعرية في ضفيرة واحدة، حاملاً في ذهنيته المتحفزة هموم شعبه ووطنه، ويغني للإنسانية كلها غناء الأمل والتفاؤل، كما في قصيدته(محمد الدرة) مثلاً.
وهكذا، وبمثل هذا الإنسجام في سطوره الشعرية وصور الرمزية الموحية، وبمشاعره الحساسة والمرهفة، يملأ ابراهيم اليوسف بطاقته الشعرية بعلاماتها الفارقة المميزة، مبيناً فيها عواطفه تجاه الفقراء والمستضعفين في العالم، بذوق شاعري رفيع وإحساس إنساني عميق، وفي تناسق تام بين الفكرة المعبرة واللفظة الموحية حتى في أكثر المواضع الشعرية غموضاً والتباساً، ومن هنا تأتي مقدرته على التحكم بناصية اللغة، وبإيحاءات المفردة اللفظية بإسلوب شاعري متميز.
وفي قصيدة بعنوان(سيزيف) يقول:
ها أنا حالم أن أكون الذي كنته
ثم غادرته، كي يغادرني
واهماً.. خاسراً..
قبل تهلكة الورد في ناظري
…………
وأنا خائب
ذاهل
خائف
لائذ بالكرى
…..
بعد هرولتي
بعد كل الذي… والذي قد جرى
كيف ضاقت هنا لحظتي:
كيف
تذبحني
قهقهرى..!!
يشي العنوان الإسطوري بحالة من الحيرة والقلق تنتاب الذات الشاعر، في فضاءات حياته المثيرة للجدل، وحرف/الهاء/ هنا استخدم للإلتفات وتنبيه القاري إلى ماسيقوله الشاعر لاحقاً، مستخدماً تقنية قصيدة القناع المحبب لدى النقاد. وقصيدة القناع كتقنية شعرية حديثة العهد نسبياً في منطقتنا قلما استخدمها الشعراء الكرد وغير الكرد في قصائدهم الحديثة، حيث – وفي مثل هذه القصائد- يتشاكل الماضي بالحاضر للتعبيرعن حالة من ماض مجيد وراهن مثقل بالأوزار والألم.
ويبدو أن الشاعر اتخذ هنا بطل الإسطورة اليونانية (سيزيف) الذي عاقبته الآلهة مع صخرته الأبدية قناعاً له، مما يوحي بأنه يشبه نفسه بهذا البطل الإغريقي المعذب، ليتواصل هكذا وعن طريق الرمز مع مفاصل إيحاءات النص الشعري، ومعاناة التفكك والإنكسار وإفراغ تجربته الشعرية بلقطة درامية نسجت بشاعرية وإتقان، وفيها تماهى الشاعر مع تتالي حركة صوره الرمزية التي يوظفها في فضاءات اللحظة وتشكيل النص، وتكرار الكلمة الحائرة /كيف/ في سطوره الشعرية والتحول السريع ضمن مسار زمن النص المستوعب لحركة الصراع وجودياً واجتماعيا، مابين الجمل الإسمية السكونية/ها أنا حالم/ وحركية الافعال المضارعة والماضية، وبصيغة الضمير المتكلم على لسان بطله (سيزيف) وباستخدام تقنية تيار الوعي/أنا حالم- أكون – كنته- غادرته- يغادرني- ضاقت- تذبحني- ما يوحي بتشظي زمن الحياة والخيبات الأليمة في أعماق الذات الحائرة، ومكابدات الشاعر النفسية، وتشتت واقعه الأليم في سؤاله الوجودي المر/كيف ضاقت هنا لحظتي- كيف تذبحني القهقرى/ بالتضافر مع الصوت القوي لحرفي القاف في كلمة/القهقرى/ ثم النبرة العاطفية التي تلون صرخة الشاعر المدوية بالإحتجاج والشكوى- واهماً- خاسراً- خائب- خائف- ذاهل- تذبحني – القهقرى- ليرسم صورة للذات المعذبة ضمن مسار النص الإسطوري كمعادل موضوعي للمعاناة الإجتماعية والسياسية على أرض الواقع المعيش. هذا الواقع الذي لافكاك منه إلا بالإنسحاب إلى حالة من اللاوعي والنوم/لائذ بالكرى/ ورغم أن هذه العبارة تضفي نوعاً من السلبية على بطل النص الشعري الذي يهرب من مواجهة واقعه بالنوم وفقد الأحاسيس، إلا أن الشاعر استطاع أن يحقق التماهي بين القصة الإسطورية وخيبات الواقع الراهن للإنسان الشرقي المسلوب الإرادة لتجسيد حالة إنسانية ملفوفة بنسيج إجتماعي مزخرف بموتيفات حداثية معاصرة.
وبذلك يكون ابراهيم اليوسف قد أمعن الحفر في منجمه الشعري، واستخلص درراً نفيسة من الدلالات اللغوية الحداثية المتميزة، مع مهارة في اقتناص المعاني العباراتية الرشيقة والسطور الشعرية الموحية، والقدرة على الغوص في أعماق التفاصيل الإجتماعية والنفس الإنسانية، بتكثيف خريطته الشعرية، وتجسيد ما هو معنوي إلى حسي، واكتناز دلالاته الرمزية الموحية وانزياحاته النصية المناسبة.
وفي(الدريئـــة) يقول:
لهبٌ في فمي
ودواتي بحار..
أيّ أمدائي الآن لايرتئي أزرقي
ليكافئ أمواج أصدائها
…………..
صوى الانكسار
…..
والهاً يحتسيه البريقْ…
هل تكون المتاهة أرحبَ من حلُمٍ
أم تراها تحوك الأناشيد
سادرةً
دون حاديها
دون
ماءٍ
لحاهْ!
الدريئة هي مجمع المصائب والهموم وهدف لسهام جارحة، وهو مايدل مرة أخرى على الذات الشاعرة المعذبة والحيرة المنسوجة بأسئلة الشاعر المتلاحقة/ هل تكون المتاهة ارحب من حلم- أم تراها تحوك الاناشيد/ ثم المجابهة والتمرد بما اتيح له من مقدرة شاعرية/لهب في فمي- دواتي بحار/ واعتماد تقنية التناص والتعالقات النصية في سطوره الشعرية مع التراث الإسلامي والقرآن الكريم( قل لو كان البحر مداداً من كلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا). وهو ما يوافق مضامين رؤية حداثية وتجربة شعرية مصبوغة بروح عصرية، وببعد إنساني شامل ومعبر.
وبذلك يظهر ابراهيم اليوسف – مرة أخرى- أنه ينهل من جذر شاعري أصيل، يفجر قوة اللغة التعبيرية المكتنزة بطاقة شعورية، لتكثيف دلالاتها الإيحائية الرمزية في خطابه الشعري المتناسق، متجنباً المباشرة والتقريرية في سطوره الشعرية. ولكن قد نلمس هنا الذات الشاعرة المعذبة وقد انتابها نوع من الخيبة واليأس، بدلالة كلمات وعبارات مثل- صوى الإنكسار- المتاهة- سادرة- ثم تكرار كلمة/ دون/ في النص الشعري تظهر الكثير من أحاسيس وانفعالات الدواخل النفسية الإنسانية، مع هسهسات محراب اللفظة المنتقاة بعناية من قبل الشاعر، لإشراك القاريء معه في مشاهد كرنفالية لصور إيقونية فيها الكثيرمن الإثارة والإدهاش.
فمعمارية ابراهيم اليوسف الشعرية هنا، تبنى على تناغم الإيقاعين الخارجي والداخلي اللهيف، مع تنغيمية الحروف المهموسة والمساحة اللونية المعبرة، ورنة الكلمات الموحية بدلالات إيحائية رامزة وواقع متخيل، بإسلوب يعبرعن سلطة نصه الشعري(عنصر التشويق) مقتحماً به ساحات المجتمع وزواياه المنسية، متسلحاً بالتراكيب والمعاني المعبرة عن فكرته التي يريد إيصالها للمتلقي، مع الكثيرمن الشاعرية المحبوكة في فضاءات نسيج فنه الشعري المنمنم، وهو ما ينم عن هندسية في المبنى، وصحة في المعنى، ومصداقية في القول، ومبدئية في الموقف.
وهنا اشيرإلى أن الإهتمام بالمشاعر الذاتية يدخل ضمن سياقات القصيدة الحداثية، التي أضحت من الهموم اليومية للشاعر الحداثي، إستجابة لما يعانيه الضمير الإنساني، نتيجة الصراع بين العالمين الداخلي والخارجي، الأمرالذي جعل الحركة الشعرية تتفاعل معه، وتكتسب مضامين امتلائية وقيم جمالية في النص. وهو مايندرج ضمن إطار التحولات الحثيثة من السطحية لدلالة النص إلى البنية المعرفية له، ليعبر به عن الشقاء والألم، وتأزم دواخل الذات الإنسانية المعذبة.
ثم يتابع الشاعر القول:
لهبٌ في الوريدِ
خطاي رمادْ
هل أظلّ أهيم على فرحةٍ كنت
أذرفها
قرب ياقاتها المطرية مرهونةً
للنشيشْ
قرب قارئها موقداً روحه في موات
الصورْ..
قرب هسهسة لاتنيخ خيول
الشّذا
لهبٌ في فمي
وخطاي نقوشْ
هل أوازي اللهاث قليلاً
أخيط الهواءَ
لأمضيَ في نزهةٍ من نزيفْ
يمكن ان نذهب هنا بأن الشاعر تتلبسه لحظة اندهاش وأسئلة تلفها الحيرة والقلق، باستخدامه كلمة/هل/ مرتين ثم ضياع وتشظي الذات الشاعرة كما في – خطاي رماد- أخيط الهواء- أهيم- موات الصور- اللهاث- ولهذا نرى أن الكثير من الومضات الشعرية تبدو عند ابراهيم اليوسف إبداعاً خالصاً، كنتيجة لتجريب يبدو واضحاً في التناقضات الدلالية بين عبارات فيها الكثيرمن البراعة والذكاء، وبإسلوب يجمع بين ما أسميته بالإنقباض والإنشراح معاً مثل / فرحة(إنشراح)- أذرفها(إنقباض)/ فهي فرحة ولكنها فرحة اقترنت بالآهات والدموع / نزهة(إنشراح)- من نزيف(إنقباض)/ نزهة لفرفشة الروح لكنها المخضبة أبداً بالنزيف.
أي أن ما هنا هو صورة مبتكرة لمعركة حقيقية مرعبة/نزهة من نزيف/ تدوررحاها في دواخل الذات الشاعرة، تلتحم فيها الملفوظ بالأحاسيس، والداخل بالخارج. وباستخدام التشخيص والأنسنة/أخيط الهواء – خيول الشذى- موقداً روحه في موات الصور/ استطاع الشاعر تجنب التقريرية والمياشرة في نصه الشعري، والتعبيربالإيحاء عن حالة من البوح والوجد ومهرجانات من الإنفعالات النفسية المؤثرة، وهو مايرفع من مرتبة السمو الشعري لدى ابراهيم اليوسف، وانفتاح شعرية التعبيرلديه، على فضاءات التخييل والانزياح نحو التراكيب الغرئبية المبتكرة المنسوجة مع واقعية معبرة، والإتكاء على ملحمة من الرموز كمعطى جمالي للقصيدة الحداثية، تسهم في تفجير الطاقات الإبداعية الكامنة في المتخيل الذهني للشاعر، ويحدث توافقاً وانسجاماً فنياً في تنامي صوره الشعرية كما سنرى في رموزه التراثية والتاريخية في قصيدة القافلة.
كما قد نرى في هذه القصيدة وفي غيرها من قصائد الشاعر ابراهيم اليوسف، تنوع البنية التركيبية مابين الشفافية في المعنى والغموض المحبب، أو المطلسم أحياناً بالرمزية والتعقيد رغم ما قلناه عن منهج الإعتدال لدى الشاعر في هذا الأمر مثل- الدهاء الموارب أفياءه- يحتسيها الهواء- يرشف من ماء النشيد- كهرمان الأهلة- دهشة أوصدت بابها- وغيرها الكثير، وقد تسبب الطلاسم الرمزية في القصيدة الحداثية أحياناً إلى خلق حالة من التراخ والخمول الشعري نوعاً ما، وتبرماً لدى المتلقي والقاريء معاً. كما نجد مثل هذه الطلسمية والمراوغة اللغوية لدى الشاعر الفلسطيني الاشهر محمود درويش، الذي خرج معظم – وليس كل- شعراء الكرد في سورية الذين يكتبون بالعربية من كم معطفه.
يقول محمود درويش:
أمر على الحب كالغيم في خاتم الشجر
وأستل من تينة الصدرغصناً
وأقذفه كالحجر
نلاحظ الطلسمية والمراوغة هنا في عبارتي- خاتم الشجر- وتينة الصدر- وهكذا تكون لكل شاعر وجهة هو موليها.
وفي قصيدته الموسومة بـ(الهواء) في ديوانه: عويل رسول الممالك يقول ابراهيم اليوسف:
لادم، كي أبكي مجزرة
لا شاهدة قبر لأرنو على قبر
………………..
لو أفتح فمي وأقول
الهواء
………….
لأعيدني وأفك الوثاق
هذا المنهك..صوتي
هذا الناهض نشيدي
هذا أنا
لا وشيك إلا المدخل
لادم، وأنا خاو، جوزتي تعاتب الإنحناء
……………
لابد من وطن كي نوازي ظلنا
لابد منكم كي ننفخ في الطين
……….
هذه امرأة تعرفها ضلعي، يقيناً
يشي العنوان /الهواء/ بشيء لم يتحقق بعد ويلح الشاعر في تحقيقه، أو بما أن الهواء الثاني جاء بعد كلمة/أقول/ فهو إما تمرد لأجل الحق، أو تهديد بسر ما إن فتح الشاعر فمه وباح به فسيفضح به الخصم، أودفاع مستميت في سبيل الحياة وفسحة الأمل والتنفس.
والإبتداء بآداة النفي/لا/ المتكررة ثم اتباعها بالكلمة المرعبة/دم/ وتكرار عبارة/لو أفتح فمي وأقول/ وتغليب الضمير المتكلم في السطور الشعرية. ما يجسد حالة من الصراع النفسي الحاد وصدام بين الداخل والخارج، الداخل مقموعاً والخارج قامعاً. والإحساس بمعاناة الذات الشاعرة، وبمزيد من المرارة والخيبة التي ألمت بضمير الشاعر المرهف الإحساس، جراء ما يرتكبه الإنسان من فظائع بحق أخيه الإنسان، وإخفاء معالم جرائمه المروعة، سواء أكان في حلبجة، أو في فلسطين، ودارفور، وغيرها من الأوطان الجريحة والأسيرة، التي تسفك فيها دماء شعوبها على قارعة الطريق/- دم- مجزرة- شاهدة قبر- خاو- أبكي- الوثاق- الصوت المنهك-/ ولكن الشاعر – كما هو عادته- يبدو متمرداً أبداً، ويشعل في كل مكان يتواجد فيه الظلم نيران ثورته على الطغاة وجبابرة الأرض، يستنهض الشعوب ومنها شعبه الكردي ليفك قيوده ويزوده ببصيص من الأمل والتفاؤل، في استعادة وطنه السليب/لأعيدني وأفك الوثاق- لابد من وطن- ننفخ في الطين- / في إشارة إلى خلق إنسان جديد ووطن جديد يعيد كرامة أبنائه التي اهدرت على مذابح أطماع الناهبين والمغتصبين.
والتمرد دفاعاً عن الحق هو أبداً من منهجيات حياة الشاعر ابراهيم اليوسف اليومية، وهو الشاعر الجسور بامتياز!. ولكن رغم هذا فهو يحلم – ولاشك- بالأمن والسلام، وفي عالم خال من الحروب والدمار والمجازر الرهيبة، عالم يسوده الحرية والعيش الكريم، لشعوب تعيش في أوطانها حرة عزيزة/لابد من وطن كي نوازي ظلنا/.
وهنا لابد من القول مرة أخرى: أن ابراهيم اليوسف يتذكر مدشني المقابر الجماعية الأفظاظ، الذين كانوا وبالاً على الإنسانية بأجمعها، والمجازر التي ارتكبت بحق الشعبين الكردي والفلسطيني بل بحق الإنسانية كلها، فالشاعر إنساني النزعة والتفكير، يشير إلى المجرمين الذين – كما قلنا- أخفوا معالم جرائمهم المريعة، ودفنوا ضحاياهم في مقابر جماعية مخفية، لاشواهد عليها ولادم، مبرزاً بذلك حقده الدفين على هذه الضواري البشرية الذين يفحون كالأفاعي في الليل، ويزهون بعباءتهم الوطنية في النهار.
وقد أثرى الشاعر سطوره أكثرمن مرة، بتعالقات نصية من التراث الكردي والثيمات الإجتماعية الكردية بكلمات من قبيل: الحجل، والخنجر، والطواويس، وزرادشت…الخ. كما وظف الشاعر التراث الإسلامي في قصيدته بشكل مناسب ومؤثر/لابد منكم كي ننفخ في الطين/ في إشارة إلى خلق الإنسان/آدم/ في الآية القرآنية/ كلكم لآدم وآدم من تراب، ثم /هذه امرأة تعرفها ضلعي/ في إشارة إلى انكسار المرأة وحلقها من ضلع آدم حسبما تقر به الديانات السماوية جميعها.
وبهذا يصور ابراهيم اليوسف هذا التوتر النفسي المتصاعد في الذات الشاعرة وتوالد الصور والإنفعالات النفسية، التي تنبيء عن حالة من الشعور بالظلم والإغتراب الوجودي ولكن ليس دون تمرد وأمل وتفاؤل، وهو ماعبر عنه سطوره وصوره الشعرية بجلاء، حيث الشعر مثل التصوير كما يقول(هوراس) اليوناني. فهناك – على الدوام- حالة من التماهي بين الذاتي والموضوعي في قصائد الشاعر ابراهيم اليوسف المزركشة بنسيج أصالتها وخصوصياتها التفردة، والتي تجسد أفكاره وعواطفه الإنسانية في صور فنية رامزة تحمل إلينا رؤية الشاعر للأمور، وترسم فيه مواقفه الإجتماعية، والنفسية، وتجربتة في الحياة التي جاءت على شكل التماعات تضيء بين ثنايا قصائده ذات الإيقاع الشاعري اللهيف وأحاسيس تثمر في شجرة الهموم المستنبتة من خلجات قلب الشاعر وفي صوره الإيحائية الرامزة.
وفي ديوانه الرسيس من قصيدته(برقية أولى) يقول:
متأخران صديقتي
والوقت ينسج في ذهول
للمراثي
قبعة…
………
متأخران حبيبتي
لم يبق
فينا واحد
يرضى ليغدو
الأمعة..
إني
لأسمع هاتفاً
يزدان بالوعد الجميل،
مردداً:
هو ذا
أفول
الزوبعة..!!
جاء العنوان هنا موحياً بالسرعة وتوتر المسافة بين الصديقين/برقية أولى/ وكلمة أولى تعبرعن بداية ما في البرقية من متاعب ومعاناة المحبين، ثم العبارة الموحية/تأخرنا يا صديقتي أو ياحبيبتي/ كلازمة، تعبر- بدورها- عن انفعال داخلي وإحساس بالقلق والتأثر. كما أفلح الشاعر مع أنسنة الوقت والمراثي/والوقت ينسج- للمراثي قبعة/ ومع عبارات/ التأخر- الذهول- المراثي-/ أفلح في تحريك المشاعر وإحداث حالة من الصدمة والإدهاش لدى المتلقي.
وبهذا ينقل الإيحاء الرمزي في ادكارات ابراهيم اليوسف تأثيره في النفس والتسرب إلى أغوار الدواخل الإنسانية، وإثارة الزوابع الكامنة في عوالم اللاوعي، وتفجير الطاقة اللفظية ضمن البناء الفني لقصيدته الحداثية، واستنطاق الصور الرامزة، في لقطاته الدرامية المثيرة، مترنماً بقافيته الجميلة- قبعة- مشرعة- اليانعة- أربعة- الأمعة- الزوبعة- مع تضافرقوة الصوت الحلقي لحرف الروي/ع/ وتناغم الدفقة الموسيقية الخارجية، ورنة الإيقاع الداخلي للسطور الشعرية كوحدة صراعية وعضوية مترابطة، بالتضافرمع المشهد الحواري الذي حرك المواقف والإنفعالات النفسية الكامنة، مما ساعد على امتلاء الخطاب الشعري بالحيوية والحركة، وجعل السطور الشعرية تنفتح على آفاق رحبة، سهلت الدخول أمام القاريء إلى دهاليزالنفس البشرية، واستكشاف فضاءات المواقف الذاتية للشاعر ولشخصيات النص الشعري.
ولكن يبدو في النصوص الشعرية ماينبيء عن نبض الشاعر وأحاسيسه في الصورة السمعية/إني لأسمع/ وعن نبرة من الأمل والتفاؤل بمستقبل إنساني زاهرقادم، وإحساس ينتاب الشاعر بأفول عصر الحروب والطغاة، وفق رؤية مستقبلية تعبرعن حالة من الكفاح والنضال وحلم الإنسان الطامح إلى الحرية والسلام، كما في عبارات/ إني لأسمع هاتفاً- يزدان بالوعد الجميل- أفول الزوبعة/ والقول الأخير رغم كثرة استخدامها لدى آخرين أيضاً، ألا أنها صورة رائعة عن زوال عهد الكوابيس والطغاة ثم التحول نحو عصر يتسم بالهدوء والراحة النفسية الكبرى. وهو ما يدخل ابراهيم اليوسف في زمرة شعراء المقاومة والتمرد، ضد القامعين للشعوب والمبددين لحقها وحقوقها والمغتصبين لأرضها وخيراتها.
ومن حيث الشكل نرى في النص لقطة فنية جميلة تتمثل في مضمون العبارتين / يزدان بالوعد الجميل- هو ذا/ فالوعد يدل – في العادة- على شيء لم ينجز بعد، أي شيء ترك إنجازه للمستقبل، أما عبارة/هوذا/ فكأنما نحس معها بأن أحدهم يشير بوعد قد أنجز، أو هو بدا ينجز أمام عينيه. وهما تدخلان هنا ايضاً ضمن ما أسميناه بـ(التنافر المنسجم) حيث تبدو العبارتين للوهلة الاولى للقاريء غير المدقق أنهما متناقضتان، ولكن – وبقليل من التامل – سوف ندرك أن العبارتين منسجمتان وقد جاءتا لتأكيد وقوع الإنجاز مستقبلاً، فيما يشبه إسلوب الآية القرآنية البليغة/أتى أمرالله فلا تستعجلوه/ فهنا كلمة أتى القرآنية جاءت أيضاً لتأكيد وقوع مالم ينجز، أو ما لم يقع بعد ولكنه مؤكد الوقوع. ومرة أخرى تدل ترتيب السطور العمودية الأخيرة على بداية الإنحدار والعد العكسي لأفول زمن عصيب، وآخر مشوب بالتفاؤل قادم وقريب.
وفي(القافلة) يقول:
ليكن، لاخوف على ظلالهم
أيديهم على الجراح، والأرجل للسفح
شغفهم عاكف على خنجره
والأفق يختصر سطواته
فطنتهم واسعة
وسلالتهم تركن على عاداتها
لاخوف على هؤلاء
لقد مضوا..
ثم عادوا أكثر من مرة..
كلمة القافلة في قصيدة الومضة هذه، ترمز إلى الرعب في تاريخ شعوب المنطقة عموماً، والتاريخ الكردي المليء بالداء والآهات والفرمانات وقوافل الموت والمجازر الرهيبة، ومن هنا تأتي حيرة قافلة ابراهيم اليوسف، وهي تتلوى في أباطح الوجود الإنساني بتثاقل تحت وطأة المعاناة والقر والحر، وقد زادتها الإبتداء بكلمة/ ليكن/ المزيد من الحذر والتوجس لما هو قادم من الاحداث وعثرات الأيام والأزمان. وهنا نلمس مرات ومرات هذا النفس الإبداعي الأصيل لدى الشاعر رابراهيم اليوسف، المنبعث من مواجد قلب مواطن كردي مفعم بالإباء وبالإحساس، يحمل هموم قومه كما يحمل هموم الآخرين ومعاناتهم، مفسحاً المجال لقريحته الشعرية لتعبر عما يعتلج في الذات الشاعرة وما يختلج في القلب من معان وعواطف نبيلة، مستخدماً ضمير/الغائب/ في إشارة إلى تاريخ الكرديء المرير، واستدعائه للتراث الكردي بإسلوبه المميز،والتناص مع هذا التراث بصورة شاعرية عميقة الايحاء والرمز كما في – السفح والجبل – والخنجر- والحجل- وحيث يقول الشاعر الإنكليزي الشهير ت. س. اليوت بشأن توظيف التراث في الرموز الشعرية: (إن إفضل ما في عمل الشاعر، وأكثر ما في أجزاء هذا العمل أصالة وتفرداً، هي تلك التي يثبت فيها أسلافه الراحلين).
وبذلك يثبت الشاعر ابراهيم اليوسف أسلافه الراحلين في لوحته الكردية المتفردة والموشاة بلون الجراحات، والدماء، والخنجر، والجبال، ويعبر عن ماضيهم وحياتهم السياسية والإجتماعية أيضاً، بإسلوب ممتع ومشوق ينم عن الكثير من الشاعرية والجمال.
وبإعادة قراءة هذه اللوحة الشعرية بتمعن، سوف نلمس فيها قدر الكردي الأزلي وحياته الأليمة التي قضاها ويقضيها – على الدوام- بين الكر والفر، هذا الكردي الذي يأبى فراق الجبل والخنجر، قضى ويقضي حياته كلها معارك لاتنقطع، وعنت وظلم وتعسف وجورمن الإستعمارمرة ومن الشعوب المجاورة مرات ومرات. هذه هي حاله منذ ماقبل المبلاد حتى اليوم. ولكننا قد نحس – مرة أخرى- هسيس نبرة حماسية مليئة بالتفاؤل المشوب بالتيقظ والحذر من بين السطور الشعرية المثيرة للمشاعر الإنسانية/ لا خوف على هؤلاء/ وأن هذا الشعب الجبلي ذكي بما فيه الكفاية/ فطنتهم واسعة/ وهو مدافع جيد عن نفسه ووطنه/والأرجل على السفح- وشغفهم عاكف على خنجره/ وإن يكن قد ظلمهم التاريخ وطغت عليهم موجات الشعوب وأجلوهم عن ديارهم مرات ومرات، ولكنهم – وفي كل مرة- كانوا يعودون فيها إلى مواطنهم، دون أن ينال أحد من عزيمتهم في شيء، رغم سليل السيوف، وهدير المروحيات، وآلات الموت والدمار، والأسلحة الكيمياوية الفتاكة والمحرمة دولياً.
ويقول عن أحداث حلبجة الكردية وبكثيرمن المرارة والألم:
بعد طائرة مروحية
لاتشبه الحمام والملائكة
احتست القرية كيمياءها العجول
من
ظمأ
ثم سارت إلى المقبرة
نلاحظ هنا القتل والتدمير السريع للقرى الكردية بالأسلحة المحرمة دولياً/ بعد طائرة مروحية- احتست القربة كيمياءها العجول- ثم سارت إلى المقبرة/ إلى المقبرة سريعاً وبدون مقدمات، وهي صورة بصرية ولوحة توثيقية دقيقة رائعة التعبير عن المجازر الكيماوية المروعة التي ارتكبت بحق الكرد شيباً وشباباً نساء واطفالاً، لأن المروحية لاتميز بين أي من هؤلاء الأجناس وتوزع عليهم الموت العجول بالقسطاس المستقيم. وهي صورة مريرة تكشف مدى الإستهتار بالقيم الإنسانية من قبل بائعي الموت المجاني والجراثيم البشرية في هذا العالم المليء بالمجرمين والاشرار.
وقد أفلح الشاعر هنا في رسم لوحة تعبيرية شديدة الوضوح، ناطقة بالسخرية والتهكم المريرين على مرتكبي المجازر الوحشية /احتست القرية كيمياءها العجول من ظمأ/ فكأن الأطفال الأبرياء كانوا ظمآى، ينتظرون كيمياويات هؤلاء القتلة والسفاحين، الذين قدموا لأطفال كردستان الظامئين إلى الألعاب البريئة والحرية والسلام، قدموا لهم بدلاً من ذلك، سموم كيمياءاتهم التي تكمن في طياتها الموت العجول.
وهذا التنوع والثراء في مضامينه النصية مايؤكد غزارة القاموس الرمزي للشاعر ابراهيم اليوسف، وخصوبة وتنوع رؤاه الشعرية، بالتضافرمع أدواته الفنية التي تنهل من تجربة شعرية غنية بالإيحاء والتلميح. وهو ما يشكل بعداً جمالياً في كل قصائده في فترة نضوجه الشعري، إذ يمكن تقسيم تاريخ الشاعرابراهيم اليوسف إلى مرحلة البدايات مع الإالتزام والشعر الشفاف الذي يخاطب جمهوره مباشرة، ثم مرحلة الرمز والحداثة الشعرية واضعاً شعره وقريحته الشاعرية اللاهبة في خدمة وطنه بل الإنسانية كلها، وهي هنا المرحلة التي يحلق فيها إلى مستوى مرموق من القدرة على حسن توظيف اللغة الرامزة، وتفجير طاقاتها الإيحائية بكثير من الإبداعية الشاعرية والإتزان.