بقلم: خالص مسور
العنوان جاء معبراً بدقة متناهية عن موضوع القصة، التي تجري أحداثها على الأرض الفلسطينية تحديداً، تلك الأرض التي شهدت درب آلام السيد المسيح وعذاباته المريرة، على أيدي أسلاف الصهاينة في العهد الروماني، ولكن القاص يبين أن هناك اليوم ما هو أشد إيلاماً، ومحناً، مما حدث في الغابر، فليس هناك درب الآلام، بل دروباً للآلام، حيث جاء العنوان بصيغة الجمع -آلام- أي إذا كان السيد المسبح قد صلب مرة فإنه يصلب اليوم في فلسطين عشرات المرات، وهو ما حقق به القاص جمالية التعبير، لمضمون قصته التراجيدية الشيقة.
بعد العنوان، تبدأ القصة بإسلوب جميل ملفت للنظر، مستخدماً الجملة الكنائية (أوغل الليل في جوف الظلام)، وقد تم أنسنة الليل للإنتقال في ذهنية القاص من المعنى إلى المحسوس، وكأن الليل شخص يوغل في جوف العتمة، وهو ما يعطي للتخييل في اللقطة المبدعة، قوة في إثارة المشاعر والأحاسيس لدى المتلقي، وقد استخدم القاص في التخييل إسلوب الأبداع والإبتكار، للتجسيد والأنسنة والربط بين ما المعنى والمحسوس، الليل والعتمة، وهما مربوطان بالأ صل، ولكن بطريقة مبتكرة ومغايرة هذه المرة، وضمن تقنية إسلوبية فيها الكثير من الإنزياحية الإبداعية، لجلب انتباه القاريء والتأمل في العبارة، قبل الشروع في قراءة القصة كاملة، وكأنه يوحي بالمزيد من هذه الكنايات وتبهير العبارات. وورود الجملة ( أوغل الليل…) بهذا الشكل الإيحائي في بداية القصة كناية عن الزمن، وهو الوقت المتأخر من الليل، لأن الليل كلما تقدم نحو هزيعه الأخير كلما اشتد حلكة وقتامة، ومغزى آخر نستقيه من الإبتداء بـ.. الليل.. وهو موضوع القصة التي تروي حكاية الليل الفلسطيني الطويل، الذي لازال يزداد تعاسة وشقاء، وهو ذاته الليل الفلسطيني الذي ينيخ بكلكله على ضباط العدو وجنوده أيضاً، فيقض مضاجعهم، ويثير فيهم القلق والهموم، والرعب والخوف..
وهكذا – ومنذ البداية- يصور لنا القاص مشهداً درامياً مثيراً، تملؤه الهواجس والوساوس، القلق والخيالات المرعبة، تنتاب شخصاً ما وهو في منزله، وقد ملأ الرعب قلبه، وهجر الكرى أجفانه، دون أن يكشف لنا القاص عن هويته بشكل مباشر، بينما عبر بجمل قوية الدلالة، على ما يعانيه الرجل في منزله (……. متقوقعاً على ذاته- تسمر أمام النافذة- بنزق شديد- عض على ناجذيه- خبط بجماع كفه على الطاولة…) وقد نرى في السرد عبارات فيها غرائبية وانزياح، ولكنها شيقة ومفهومة بعيدة عن الغموض واللبس، والغرائبية في العبارات تأتي من أجل لفت الأنظار على مضمون القصة، وهو مانجح فيه القاص بعملية التناغم بين الشكل والمضمون معاً وبإسلوب الواقعية الجديدة، مما ساعده ذلك في إعطاء صورة تليفزيونية واضحة، شيقة، ومثيرة، أستطيع أن أسميه بالصورة المأساوية الساحرة، أي مأساوية من حيث معاناة الشعب الفلسطيني على أيدي جلاديه من الجنودج الصهاينة، وساحرة من حيث النقل الحي والمباشر وبتقنية الإنزياح والتنميق في الكلمة المعبرة مثل: ( بخطوات ثقيلة باردة- كالأفعى التي دمرها البرد، أي دمرها بدلاً من حاصرها مثلاً- قلب الفاعل مفعولاً في قوله: تناوب عليه الجلوس /والوقوف بدلاً من تناوبه هو على الجلوس/- الوقوف الأرعن- الإنتظار الأرعن- الضجيج المبهم المكبوت /فهو ضجيج ومكبوت/- ثم أنسنة الجماد – كالصنم المتجهم). ويبدو كأن القاص يتعمد الفجائية والتدريج معاً في الإفساح عن الحدث.
فهو يصور للقاريء مشهد القلق لشخص ما دون أن يبدي هوية ذاك الشخص الذي أضناه القل والسهاد حتى أوغل الليل في جوف الظلام، ليفاجيء القاريء بعد أسطر بالشخصية الأولى في الظهور، في ذلك المشهد المثير للأعصاب حقاً، فإذا بها تسمى (مادلين)، ودون أن يفسح عنها من تكون هي، ولكن يبدو أن اسمها ليس عربياً على الأقل، فلم تتوضح كامل شخصيتها حتى الآن، إلى حين يسحبك القاص خطوة أخرى نحو الحل وفك العقدة الأولى للقصة حينما تسأل مادلين
…… حاييم… مابك؟؟!!.. لماذا أنت ساهر حتى الآن!؟
وهنا يستوقفنا القاص أمام اسم عبري لهذا الرجل، وأن تلفظ مادلين باسمه حاييم حاف وبدون كلفة، وفي منزل واحد ليلاً، لنفهم على الفور أننا في منزل اليهودي حاييم، وأن مادلين هي زوجته، ولنكشف في النهاية، وبعد خبط، ونزق، ولصق، أن ذاك الرجل الذي كان يخبط على الطاولة ما هو إلا الميجر(حاييم) الضابط الإسرائيلي الخائف والمرعوب من انتقام حجارة الإنتفاضة الفلسطينية. واستخدم القاص في حواريته لفك عقدة القصة، إسلوب المتكلم في البداية ثم الإنسحاب، تاركاً الشخصيات تكشف عن هويات بعضها، بإلحواريات الدرامية التي تجري بينها، وبكثير من الدقة والبراعة، كالحوار التالي الذي جرى بين الضابط حاييم، ومادلين زوجته.
… دلفت مادلين، تقدمت نحوه بجطوات بطيئة وملامح خائفة متسائلة…. اقتربت منه سألته باصرار:
…. حاييم مابك؟؟!!.. لماذا أنت ساهر حتى الآن!؟……
…. إنني خائف… نادم…تأكلني الحيرة
…. أمثلك يخاف!! ضابط قوي مثلك يخشى من شيء!!
…. فأي شيء تخاف؟؟
…. نظر إليها بانكسار وعيون ذابلة
…. لايا مادلين.. ماجئت لأجل ذلك.. جئت من أجل حياة ناعمة مترفة سعيدة.. وها أنذا أخاف من كل شيء…
وتصور الحوارية في القصة، مدى القلق والإضطراب الذي ألم بالجنود الصهاينة من جراء الجحيم الذي قذفتهم إليها قادتهم الصهاينة، وأطماعهم في اغتصاب أرض الغير. وقد أصبح الإستقرار لهم حلماً لذيذاً، ولكن لااستقرار لهم حتى وهم داخل منازلهم، فأصابهم الملل والخوف مما هم فيه، وهم يريدون تربية أولادهم بعيداً عن الهم والقلق، وأن يحظوا بقسط من النوم الهاديء في ظل الأمن والأمان، ولكن هيهات فقد جنت عل نفسها براقش. وأعتقد أننا هنا أمام لوحة إبداعية في غاية التعبير والروعة والإتقان، للحالة النفسية التي تنتاب الجنود الصهاينة المحتلين، وهم حيارى نادمين، لقدومهم إلى فلسطين مستوطنين، محتلين، ومغتصبين لأراضي الغير، ولكنه يوم لاينفعهم فيه توبة أو ندم، رغم الحراسات المشددة وطوابير الجنود المدججين بالسلاح، ولكنها لاتساوي شيئاً أمام الإرادة الحرة، والإيمان بالوطن والشعب.
وفي المشهد المثير للطفلة الصغيرة رجاء، التي تحاول الإتصال بلداتها وأترابها، لتتواصل معهم في الضفة الأخرى من نهر الأردن، فليس لها سوى إرسال رسائلها على صفحة ماء النهر، فتكتبها على ورق وترسلها عبر أمواج النهر العاتية، علها تلقي إجابة من أحد، ولكن ما من مجيب، فكانت الامواج تبتلع في كل مرة رسائلها وتضيع أمانيها هباء منثورا.
(…… كثرت رسائل الفتاة كانت تعيش أحلامها، أحلام الحياة السعيدة…….فكانت تكتب للآخرين تدعوهم لزيارتها…شهقت….انبثقت في ذهنها سؤال مرير: أين تستضيفهم إن لبوا دعوتها؟….تراجعت عن الفكرة وانتابتها حيرة شديدة……أي أناس سعداء يسكنون هناك بعيداً عن الضفة الغربية).لاشك تلك صورة إيحائية في غاية الجمالية والتعبير،عن واقع الشعب الفلسطيني تحت الحصار، حيث ابتعدت الصورة عن التقريرية والمباشرة، مع الكثير من الحيوية والخصوبة في الخيال، وهذه الصورة الإيحائية المثيرة، تعبر بجلاء- وكما قلنا- عن حالة الحصار التي فرضها الصهاينة المحتلون على الشعب الفلسطيني وأطفالهم، وحرمان حتى الأطفال من التواصل مع العالم الخارجي، وقتل أحلام الطفولة وعواطفهم الجميلة، على عتبة حواجز جيش الدفاع. وقد أفلح القاص في تجسيد آثار ذلك الحصار على الشعب الفلسطيني، في هذه اللقطة الطريفة لحالة الطفلة الفلسطينية البريئة، التي تشكل النموذج المحاصر للأطفال الفلسطنيين، لخلق المزيد من التعاطف معها، ومع كل الأطفال الفلسطينيين إلى جانبها.
إنها – في الحقيقة- حيرة الشعب الفلسطيني أمام تصرفات هذا الغاصب الغدار! الذي يدمر الحياة وكل شيء في بلاده، يدمر المساكن ، يضع الحواجز والجدران العازلة، يفصل بين الأهل والأحباب، وينشر الجوع والخراب، والموت والدمار، ولكن هيهات! فالفلسطينيون سيقاومون وسوف لن يغمض لهم جفن، ما لم يسترجعوا أرضهم السليبة، ولهذا يبقي القاص على بصيص من الأمل والتفاؤل، بالعودة إلى الوطن والديار التي سلبها الغزاة على قارعة الطريق، وعلى مرآى ومسمع من العالم كله. ولهذا يوحي لنا القاص هنا، بنوع من التفاؤل الفلسطيني وهو يغوص في دواخل هذا الشعب، عن طريق قراءة أحلام /رجاء/ والطفولة الفلسطينية البريئة، رجاء هو الإسم الذي تم اختياره بمغزاه الكبير، ليشير إلى حلم العودة والأمل.
(….. عادت أدراجها بطيئة وأحلام الحياة السعيدة تنبض في قلبها..)
وقد عبر القاص عن هذا التفاؤل – مرة أخرى – بقوله: ( وأحلام السعادة تنبض في قلبها..) وكلمة تنبض تدل على النهوض والمقاومة والأمل بما هو قادم. أما كلمة – بطيئة- فهي كناية تعطي انطباعاً عن الحرب الشعبية الطويلة الأمد، والخطوات الرصينة التي يخطوها الفلسطينيون نحو التحرير والاحلام السعيدة.
ثم يفاجأنا القاص – بعد ذلك- بالشخصية الفلسطينية المقاومة ألا وهو الشاب فارس، وهو صديق ماجد الذي قتل الصهاينة أباه فبدا يفكر بالإنتقام له من جلاديه، كما بدا فارس جريحاً ينزف من تحت شمس الظهيرة، ممدوداً في أحد شوارع نابلس، وجنود العدو يتجولون بين الأموات وقد داس أحدهم على صدره، كناية عن مآسي الفلسطينيين وثقل وطأة الإحتلال الجاثم على صدورهم. والقاص أبرع في إعطاء أسماء الشخصيات التراثية العربية للمقاومين- ماجد- فارس- للتذكير بأمجاد العرب وتراثهم العريق في الحرب والحضارة. وفي إشارة موحية يغمض فارس عينيه – وهو في هذه الحال- فيحلم بـحبيبته- هيفاء- الجميلة، فبعدما أدرك (…..أنه تدريجياً يدخل طقوس الموت… غاب في بحر من التداعيات…تراءت له هيفاء…أغمض عينيه وراح يحلم بها….) ثم رآها تزوره ويناديها: (هيفاء.. هيفاء.. اقبلي.. اقبلي..إنني هنا). وهو ما يدلل به على أن الشعب الفلسطيني يملك أيضاً بين جنبيه قلباً إنسانياً نابضاً بالحب والحياة، وإنه يحلم بالحب، والزواج، والإستقرار، فهو ليس فظاً غليظ القلب، لايحب سفك الدماء ولكن ألجأه الصهاينة إلى ذلك، ليدافع عن تربة الوطن والجيران، والأهل والأحباب.
وهنا نرى – مرة أخرى- بوارق الأمل والتفاؤل بالمستقبل لدى الشعب الفلسطيني، على لسان فارس، حينما يرى فتاته هيفاء قادمة نحوه( ويقرأ في عينيها كل حروف المدينة الباسلة أحس بنشوة جارفة لها شكل خارطة الوطن، فأدرك بعمق أنه لن يموت) تلك صورة معبرة عن تشبث الشعب الفلسطيني بالحياة وعشقه لوطنه، حيث يرمز هيفاء هنا إلى الوطن بأسره، إنها خارطة فلسطين، وهل هناك ما هو أعز من فلسطين على قلوب أبنائها والعرب جميعاً؟ فمجرد رؤية خارطة فلسطين المثلثة الشكل، تبعث في نفوس أبناءها الأمل والحياة، وقد يموت الفلسطيني شهيداً ويصبح دمه نسغ الحياة لأرضها وثراها، ولكن فلسطين لن يموت أبداً. كما يشير القاص إلى مأساة مدينة جنين الباسلة، التي أعاد فيها الصهاينة إلى الأذهان مذابح دير ياسين وقبية ونحالين وصبرا وشاتيلا بكل مآسيها وفظائعها المريرة، معبراً عن ذلك بكلمات مثل:
قصص الكوارث- الموت والدمار- الدبابات الزاحفة- الموت الزؤام- الكوارث المأساوية- افترس- الجثث متناثرة…… و(بعدها يهدأ كل شيء ويتوقف صوت الرصاص بسكون مخيف منذراً بعظم الفاجعة) فالسكون هنا أشبه بالسكون الذي يأتي قبل العاصفة وبعدها أيضاً، أي سكون عقب الدمار والخراب الذي خلفتهما وراءها عاصفة الإحتلال المدمرة. ويتابع القاص سرده مستخدماً الضمير الغائب، فيعود إلى الفدائي ماجد، الذي لبس حزاماً ناسفاً وتقدم نحو القدس الغربية، شارع شالومو، أي شارع السلام، وهناك يترجل من الحافلة المكتظة بالركاب، وفي الشارع يفجر نفسه وكأن لسان حاله يقول: لاسلام مع الإحتلال والإغتصاب، وأن تسمياتكم للأشياء زائفة أيها المحتلون. ووصف ماجد بصفات معبرة عن الحالة الإستشهادية تماماً: الهدوء ورباطة الجأش- الإطمئنان- ليس نزقاً- الإتزان- واثقاً من نفسه- البطل- خفة عصفور- وعيون الباشق.
وفي هذا الموقف، تم ابراز دور العقيدة الدينية في اكتساب الجسارة واستمداد القوة والشجاعة منها، والمقارنة بين موتى الفلسطينيين وهم شهداء رفعت أرواحهم إلى السماء، وبين موتى العدو الذين تمرغوا في أوحال تراب فلسطين الحزينة، (تحولت حروفه إلى نور ونار، وعشرات من جثث العدو الصهيوني تتمرغ على التراب الحزين.. وخصلات نورانية تتدلى من السماء، تختطف أجزاءه التي لاتحصى). وكأنما يستحضر هنا التراث العربي الإسلامي، مجسداً في أمجاد معركة أحد، حينما خاطب الرسول كفار مكة قائلاً: (قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار) وبمعنى آخر، فإن القاص يريد القول: بأن روح ماجد الطاهرة قد صعدت إلى السماء مع الصديقيين والشهداء والصالحين الأبرار. هكذا بقي أن أقول: أن نهاية القصة يلفها شيء من الغموض في معناها ومغزاها. فلماذا ينزل الإستشهادي ماجد من الحافلة المكتظة بالصهاينة دون أن يفجر نفسه فيهم؟ فهل كان فيها سكان من العرب مروا بالقدس الغربية، فلم يرض أن يفجرهم؟ وإن كان لايريد أن يفجر نفسه بالمدنيين، فالمنظمات الفلسطينية المقاومة هناك تعامل الصهاينة بالمثل، وفي الحالة الأخرى فهي تعتبر كل المستوطنين دخلاء ومسلحين. أم أن له هدف آخر محدد، ولكن لم يظهر لدينا من خلال السرد القصصي، أي هدف ثابت توخاه ماجد، وكأنما جاء تفجيره لنفسه بغير إرادته، لمجرد إحساسه وارتيابه بنظرات من حوله (عندما أحس أن النظرات المرتابة بدأت تتجه إليه، انسابت يده اليمنى بخفة واطمئنان…… وبسرعة البرق ضغط بأصبعه زراً يكمن داخل سترته الأنيقة..) وقد جاءت كلمة الإطمئنان هنا للتدليل على شجاعة ماجد وجلده، وقوة إيمانه وتحمله، بينما لم نره يتوقف عند أي من الأهداف الثمينة للعدو ليفجر نفسه، ففي العلم العسكري يجب أن يوقع المهاجم أكبر عدد ممكن من الخسائر بالعدو، ولذلك تكون الاهداف محددة سلفاً وبدقة، فهل كان يقصد موقعاً للجنود، ولكنه فجر نفسه بالشارع بدون تحديد لافتضاح أمره، فلم يتمكن من الوصول إلى هدفه؟ وحتى لو كان هدفه شارع شالومو، فيجب أن يكون مكاناً معيناً في الشارع، إذ ليس كل مكان في شارع شالومو مكتظاً بالناس وعندها قد لايموت إلا القليل من العدو.
وأخيراً فقد وصف القاص هول الإنفجار وكأنه فتح الجحيم بعينه على العدو (فتحت السماء أبوابها- تمطت الأرض عن لهيب- يحرق الأخضر واليابس- صفق الهواء بجناحيه.) فكانت صورة واقعية حية تحدث أمامنا كل يوم تقريباً، وهي لحظات مرعبة للعدو حقاً.ليدلل على أن الشعب الفلسطيني قادر على زلزلة عروش الطغاة وإرسالهم إلى الجحيم، وأنه قادر على رد الصاع صاعين، وأن كل دبابات الصهاينة وطائراتهم وسائر أسلحتهم الفتاكة لاتجديهم نفعاً، ولن تنقذهم كل هذه الأسلحة الفتاكة من الغضب الفلسطيني العارم والمقدس.
وهكذا – ومنذ البداية- يصور لنا القاص مشهداً درامياً مثيراً، تملؤه الهواجس والوساوس، القلق والخيالات المرعبة، تنتاب شخصاً ما وهو في منزله، وقد ملأ الرعب قلبه، وهجر الكرى أجفانه، دون أن يكشف لنا القاص عن هويته بشكل مباشر، بينما عبر بجمل قوية الدلالة، على ما يعانيه الرجل في منزله (……. متقوقعاً على ذاته- تسمر أمام النافذة- بنزق شديد- عض على ناجذيه- خبط بجماع كفه على الطاولة…) وقد نرى في السرد عبارات فيها غرائبية وانزياح، ولكنها شيقة ومفهومة بعيدة عن الغموض واللبس، والغرائبية في العبارات تأتي من أجل لفت الأنظار على مضمون القصة، وهو مانجح فيه القاص بعملية التناغم بين الشكل والمضمون معاً وبإسلوب الواقعية الجديدة، مما ساعده ذلك في إعطاء صورة تليفزيونية واضحة، شيقة، ومثيرة، أستطيع أن أسميه بالصورة المأساوية الساحرة، أي مأساوية من حيث معاناة الشعب الفلسطيني على أيدي جلاديه من الجنودج الصهاينة، وساحرة من حيث النقل الحي والمباشر وبتقنية الإنزياح والتنميق في الكلمة المعبرة مثل: ( بخطوات ثقيلة باردة- كالأفعى التي دمرها البرد، أي دمرها بدلاً من حاصرها مثلاً- قلب الفاعل مفعولاً في قوله: تناوب عليه الجلوس /والوقوف بدلاً من تناوبه هو على الجلوس/- الوقوف الأرعن- الإنتظار الأرعن- الضجيج المبهم المكبوت /فهو ضجيج ومكبوت/- ثم أنسنة الجماد – كالصنم المتجهم). ويبدو كأن القاص يتعمد الفجائية والتدريج معاً في الإفساح عن الحدث.
فهو يصور للقاريء مشهد القلق لشخص ما دون أن يبدي هوية ذاك الشخص الذي أضناه القل والسهاد حتى أوغل الليل في جوف الظلام، ليفاجيء القاريء بعد أسطر بالشخصية الأولى في الظهور، في ذلك المشهد المثير للأعصاب حقاً، فإذا بها تسمى (مادلين)، ودون أن يفسح عنها من تكون هي، ولكن يبدو أن اسمها ليس عربياً على الأقل، فلم تتوضح كامل شخصيتها حتى الآن، إلى حين يسحبك القاص خطوة أخرى نحو الحل وفك العقدة الأولى للقصة حينما تسأل مادلين
…… حاييم… مابك؟؟!!.. لماذا أنت ساهر حتى الآن!؟
وهنا يستوقفنا القاص أمام اسم عبري لهذا الرجل، وأن تلفظ مادلين باسمه حاييم حاف وبدون كلفة، وفي منزل واحد ليلاً، لنفهم على الفور أننا في منزل اليهودي حاييم، وأن مادلين هي زوجته، ولنكشف في النهاية، وبعد خبط، ونزق، ولصق، أن ذاك الرجل الذي كان يخبط على الطاولة ما هو إلا الميجر(حاييم) الضابط الإسرائيلي الخائف والمرعوب من انتقام حجارة الإنتفاضة الفلسطينية. واستخدم القاص في حواريته لفك عقدة القصة، إسلوب المتكلم في البداية ثم الإنسحاب، تاركاً الشخصيات تكشف عن هويات بعضها، بإلحواريات الدرامية التي تجري بينها، وبكثير من الدقة والبراعة، كالحوار التالي الذي جرى بين الضابط حاييم، ومادلين زوجته.
… دلفت مادلين، تقدمت نحوه بجطوات بطيئة وملامح خائفة متسائلة…. اقتربت منه سألته باصرار:
…. حاييم مابك؟؟!!.. لماذا أنت ساهر حتى الآن!؟……
…. إنني خائف… نادم…تأكلني الحيرة
…. أمثلك يخاف!! ضابط قوي مثلك يخشى من شيء!!
…. فأي شيء تخاف؟؟
…. نظر إليها بانكسار وعيون ذابلة
…. لايا مادلين.. ماجئت لأجل ذلك.. جئت من أجل حياة ناعمة مترفة سعيدة.. وها أنذا أخاف من كل شيء…
وتصور الحوارية في القصة، مدى القلق والإضطراب الذي ألم بالجنود الصهاينة من جراء الجحيم الذي قذفتهم إليها قادتهم الصهاينة، وأطماعهم في اغتصاب أرض الغير. وقد أصبح الإستقرار لهم حلماً لذيذاً، ولكن لااستقرار لهم حتى وهم داخل منازلهم، فأصابهم الملل والخوف مما هم فيه، وهم يريدون تربية أولادهم بعيداً عن الهم والقلق، وأن يحظوا بقسط من النوم الهاديء في ظل الأمن والأمان، ولكن هيهات فقد جنت عل نفسها براقش. وأعتقد أننا هنا أمام لوحة إبداعية في غاية التعبير والروعة والإتقان، للحالة النفسية التي تنتاب الجنود الصهاينة المحتلين، وهم حيارى نادمين، لقدومهم إلى فلسطين مستوطنين، محتلين، ومغتصبين لأراضي الغير، ولكنه يوم لاينفعهم فيه توبة أو ندم، رغم الحراسات المشددة وطوابير الجنود المدججين بالسلاح، ولكنها لاتساوي شيئاً أمام الإرادة الحرة، والإيمان بالوطن والشعب.
وفي المشهد المثير للطفلة الصغيرة رجاء، التي تحاول الإتصال بلداتها وأترابها، لتتواصل معهم في الضفة الأخرى من نهر الأردن، فليس لها سوى إرسال رسائلها على صفحة ماء النهر، فتكتبها على ورق وترسلها عبر أمواج النهر العاتية، علها تلقي إجابة من أحد، ولكن ما من مجيب، فكانت الامواج تبتلع في كل مرة رسائلها وتضيع أمانيها هباء منثورا.
(…… كثرت رسائل الفتاة كانت تعيش أحلامها، أحلام الحياة السعيدة…….فكانت تكتب للآخرين تدعوهم لزيارتها…شهقت….انبثقت في ذهنها سؤال مرير: أين تستضيفهم إن لبوا دعوتها؟….تراجعت عن الفكرة وانتابتها حيرة شديدة……أي أناس سعداء يسكنون هناك بعيداً عن الضفة الغربية).لاشك تلك صورة إيحائية في غاية الجمالية والتعبير،عن واقع الشعب الفلسطيني تحت الحصار، حيث ابتعدت الصورة عن التقريرية والمباشرة، مع الكثير من الحيوية والخصوبة في الخيال، وهذه الصورة الإيحائية المثيرة، تعبر بجلاء- وكما قلنا- عن حالة الحصار التي فرضها الصهاينة المحتلون على الشعب الفلسطيني وأطفالهم، وحرمان حتى الأطفال من التواصل مع العالم الخارجي، وقتل أحلام الطفولة وعواطفهم الجميلة، على عتبة حواجز جيش الدفاع. وقد أفلح القاص في تجسيد آثار ذلك الحصار على الشعب الفلسطيني، في هذه اللقطة الطريفة لحالة الطفلة الفلسطينية البريئة، التي تشكل النموذج المحاصر للأطفال الفلسطنيين، لخلق المزيد من التعاطف معها، ومع كل الأطفال الفلسطينيين إلى جانبها.
إنها – في الحقيقة- حيرة الشعب الفلسطيني أمام تصرفات هذا الغاصب الغدار! الذي يدمر الحياة وكل شيء في بلاده، يدمر المساكن ، يضع الحواجز والجدران العازلة، يفصل بين الأهل والأحباب، وينشر الجوع والخراب، والموت والدمار، ولكن هيهات! فالفلسطينيون سيقاومون وسوف لن يغمض لهم جفن، ما لم يسترجعوا أرضهم السليبة، ولهذا يبقي القاص على بصيص من الأمل والتفاؤل، بالعودة إلى الوطن والديار التي سلبها الغزاة على قارعة الطريق، وعلى مرآى ومسمع من العالم كله. ولهذا يوحي لنا القاص هنا، بنوع من التفاؤل الفلسطيني وهو يغوص في دواخل هذا الشعب، عن طريق قراءة أحلام /رجاء/ والطفولة الفلسطينية البريئة، رجاء هو الإسم الذي تم اختياره بمغزاه الكبير، ليشير إلى حلم العودة والأمل.
(….. عادت أدراجها بطيئة وأحلام الحياة السعيدة تنبض في قلبها..)
وقد عبر القاص عن هذا التفاؤل – مرة أخرى – بقوله: ( وأحلام السعادة تنبض في قلبها..) وكلمة تنبض تدل على النهوض والمقاومة والأمل بما هو قادم. أما كلمة – بطيئة- فهي كناية تعطي انطباعاً عن الحرب الشعبية الطويلة الأمد، والخطوات الرصينة التي يخطوها الفلسطينيون نحو التحرير والاحلام السعيدة.
ثم يفاجأنا القاص – بعد ذلك- بالشخصية الفلسطينية المقاومة ألا وهو الشاب فارس، وهو صديق ماجد الذي قتل الصهاينة أباه فبدا يفكر بالإنتقام له من جلاديه، كما بدا فارس جريحاً ينزف من تحت شمس الظهيرة، ممدوداً في أحد شوارع نابلس، وجنود العدو يتجولون بين الأموات وقد داس أحدهم على صدره، كناية عن مآسي الفلسطينيين وثقل وطأة الإحتلال الجاثم على صدورهم. والقاص أبرع في إعطاء أسماء الشخصيات التراثية العربية للمقاومين- ماجد- فارس- للتذكير بأمجاد العرب وتراثهم العريق في الحرب والحضارة. وفي إشارة موحية يغمض فارس عينيه – وهو في هذه الحال- فيحلم بـحبيبته- هيفاء- الجميلة، فبعدما أدرك (…..أنه تدريجياً يدخل طقوس الموت… غاب في بحر من التداعيات…تراءت له هيفاء…أغمض عينيه وراح يحلم بها….) ثم رآها تزوره ويناديها: (هيفاء.. هيفاء.. اقبلي.. اقبلي..إنني هنا). وهو ما يدلل به على أن الشعب الفلسطيني يملك أيضاً بين جنبيه قلباً إنسانياً نابضاً بالحب والحياة، وإنه يحلم بالحب، والزواج، والإستقرار، فهو ليس فظاً غليظ القلب، لايحب سفك الدماء ولكن ألجأه الصهاينة إلى ذلك، ليدافع عن تربة الوطن والجيران، والأهل والأحباب.
وهنا نرى – مرة أخرى- بوارق الأمل والتفاؤل بالمستقبل لدى الشعب الفلسطيني، على لسان فارس، حينما يرى فتاته هيفاء قادمة نحوه( ويقرأ في عينيها كل حروف المدينة الباسلة أحس بنشوة جارفة لها شكل خارطة الوطن، فأدرك بعمق أنه لن يموت) تلك صورة معبرة عن تشبث الشعب الفلسطيني بالحياة وعشقه لوطنه، حيث يرمز هيفاء هنا إلى الوطن بأسره، إنها خارطة فلسطين، وهل هناك ما هو أعز من فلسطين على قلوب أبنائها والعرب جميعاً؟ فمجرد رؤية خارطة فلسطين المثلثة الشكل، تبعث في نفوس أبناءها الأمل والحياة، وقد يموت الفلسطيني شهيداً ويصبح دمه نسغ الحياة لأرضها وثراها، ولكن فلسطين لن يموت أبداً. كما يشير القاص إلى مأساة مدينة جنين الباسلة، التي أعاد فيها الصهاينة إلى الأذهان مذابح دير ياسين وقبية ونحالين وصبرا وشاتيلا بكل مآسيها وفظائعها المريرة، معبراً عن ذلك بكلمات مثل:
قصص الكوارث- الموت والدمار- الدبابات الزاحفة- الموت الزؤام- الكوارث المأساوية- افترس- الجثث متناثرة…… و(بعدها يهدأ كل شيء ويتوقف صوت الرصاص بسكون مخيف منذراً بعظم الفاجعة) فالسكون هنا أشبه بالسكون الذي يأتي قبل العاصفة وبعدها أيضاً، أي سكون عقب الدمار والخراب الذي خلفتهما وراءها عاصفة الإحتلال المدمرة. ويتابع القاص سرده مستخدماً الضمير الغائب، فيعود إلى الفدائي ماجد، الذي لبس حزاماً ناسفاً وتقدم نحو القدس الغربية، شارع شالومو، أي شارع السلام، وهناك يترجل من الحافلة المكتظة بالركاب، وفي الشارع يفجر نفسه وكأن لسان حاله يقول: لاسلام مع الإحتلال والإغتصاب، وأن تسمياتكم للأشياء زائفة أيها المحتلون. ووصف ماجد بصفات معبرة عن الحالة الإستشهادية تماماً: الهدوء ورباطة الجأش- الإطمئنان- ليس نزقاً- الإتزان- واثقاً من نفسه- البطل- خفة عصفور- وعيون الباشق.
وفي هذا الموقف، تم ابراز دور العقيدة الدينية في اكتساب الجسارة واستمداد القوة والشجاعة منها، والمقارنة بين موتى الفلسطينيين وهم شهداء رفعت أرواحهم إلى السماء، وبين موتى العدو الذين تمرغوا في أوحال تراب فلسطين الحزينة، (تحولت حروفه إلى نور ونار، وعشرات من جثث العدو الصهيوني تتمرغ على التراب الحزين.. وخصلات نورانية تتدلى من السماء، تختطف أجزاءه التي لاتحصى). وكأنما يستحضر هنا التراث العربي الإسلامي، مجسداً في أمجاد معركة أحد، حينما خاطب الرسول كفار مكة قائلاً: (قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار) وبمعنى آخر، فإن القاص يريد القول: بأن روح ماجد الطاهرة قد صعدت إلى السماء مع الصديقيين والشهداء والصالحين الأبرار. هكذا بقي أن أقول: أن نهاية القصة يلفها شيء من الغموض في معناها ومغزاها. فلماذا ينزل الإستشهادي ماجد من الحافلة المكتظة بالصهاينة دون أن يفجر نفسه فيهم؟ فهل كان فيها سكان من العرب مروا بالقدس الغربية، فلم يرض أن يفجرهم؟ وإن كان لايريد أن يفجر نفسه بالمدنيين، فالمنظمات الفلسطينية المقاومة هناك تعامل الصهاينة بالمثل، وفي الحالة الأخرى فهي تعتبر كل المستوطنين دخلاء ومسلحين. أم أن له هدف آخر محدد، ولكن لم يظهر لدينا من خلال السرد القصصي، أي هدف ثابت توخاه ماجد، وكأنما جاء تفجيره لنفسه بغير إرادته، لمجرد إحساسه وارتيابه بنظرات من حوله (عندما أحس أن النظرات المرتابة بدأت تتجه إليه، انسابت يده اليمنى بخفة واطمئنان…… وبسرعة البرق ضغط بأصبعه زراً يكمن داخل سترته الأنيقة..) وقد جاءت كلمة الإطمئنان هنا للتدليل على شجاعة ماجد وجلده، وقوة إيمانه وتحمله، بينما لم نره يتوقف عند أي من الأهداف الثمينة للعدو ليفجر نفسه، ففي العلم العسكري يجب أن يوقع المهاجم أكبر عدد ممكن من الخسائر بالعدو، ولذلك تكون الاهداف محددة سلفاً وبدقة، فهل كان يقصد موقعاً للجنود، ولكنه فجر نفسه بالشارع بدون تحديد لافتضاح أمره، فلم يتمكن من الوصول إلى هدفه؟ وحتى لو كان هدفه شارع شالومو، فيجب أن يكون مكاناً معيناً في الشارع، إذ ليس كل مكان في شارع شالومو مكتظاً بالناس وعندها قد لايموت إلا القليل من العدو.
وأخيراً فقد وصف القاص هول الإنفجار وكأنه فتح الجحيم بعينه على العدو (فتحت السماء أبوابها- تمطت الأرض عن لهيب- يحرق الأخضر واليابس- صفق الهواء بجناحيه.) فكانت صورة واقعية حية تحدث أمامنا كل يوم تقريباً، وهي لحظات مرعبة للعدو حقاً.ليدلل على أن الشعب الفلسطيني قادر على زلزلة عروش الطغاة وإرسالهم إلى الجحيم، وأنه قادر على رد الصاع صاعين، وأن كل دبابات الصهاينة وطائراتهم وسائر أسلحتهم الفتاكة لاتجديهم نفعاً، ولن تنقذهم كل هذه الأسلحة الفتاكة من الغضب الفلسطيني العارم والمقدس.
———–
رابط قصة الإستاذ اسكندر نعمة – دروب الآلام- في الملحق الثقافي لجريدة الثورة: