ذكرى تأبين الدكتور رشيد احمد رحمه الله.

محمد قاسم (ابن الجزيرة)

في السابع والعشرين من شهر كانون الثاني من عام 1995 كانت خيمة منصوبة أمام عيادة طبيب تكتظ بمدعوين من عدد كبير من سكان مدينة “ديرك” المعروفة في اللغة العربية بـ”المالكية”. للمشاركة في تأبين الدكتور رشيد أحمد.
هذه المدينة التي يبعدها عن قرية “عين ديوار” الحدودية، والمطلة على نهر دجلة؛ في إطلالة رائعة على موقع ومدينة “جزيرا بوتان” أو بالعربية”جزيرة ابن عمرو” حيث  مكان ملحمة “مم و زين” أو كما يكتبها “الدكتور محمد سعيد البوطي” ؛ “مموزين”  لاقتضاء اللغة العربية ذلك بينما هي في اللغة الكردية –وبالأحرف اللاتينية تكتب :Mem u Zin.وحيث مركز أمراء بوتان -بوطان- وأشهرهم الأمير جلادت بدرخان .
لقد قامت نقابة الأطباء  بمشاركة نقابة المهندسين وآخرين؛ بترتيب إجراءات حفل التأبين هذا..كانت باقات الورد تزين قبالة الخيمة ..وعبارات ثناء ومديح وتعهد باقتداء نهج الدكتور، كلها تشير –مع الحشد المنوع، انتماء دينيا واثنيا واتجاهات مختلفة – أن هنا حدث مهم.
وان هذا الدكتور له اثر في نفوس الناس، ليكون أول طبيب عام-وربما آخر طبيب- يُحتفل بتأبينه في أربعينيته.
من هو الدكتور رشيد احمد؟
ولماذا هذا الاهتمام به من كل سكان المدينة وريفها ..؟

اسمه د.رشيد احمد.. أبواه فلاحان في إحدى قرى عفرين واسمها، بعدينه –بادينه- ترقد وسط حدائق الزيتون، لكنها تنبئ عن بعض بؤس في حياة هؤلاء السكان..
لمسنا ذلك عندما حضرنا مراسم دفن المرحوم بطريقة فولكلورية أشارت الى مدى ارتباطهم بالقديم –الأسطوري إذا جاز التعبير..- من هذه القرية المتكئة على منحدر بسيط خرج الى تركيا لدراسة الطب..كيف ؟ من الذي موّله؟ لم ابحث في هذا ولا اعلم عنه شيئا..!
المهم بعد أن تخرج طبيبا؛ جاء الى “ديرك ..ليستأجر عيادة متواضعة-من اللبن والطين- كما يفعل الكثيرون؛ إما إلزاما من الدولة، أو بقصد العمل بتكاليف اقل ريثما يكوّن مالا يعينه على الانتقال الى مدينة كبيرة؛ حيث الغلاء في كل شيء.فيكون جاهزا للتعامل مع ذلك.
كثيرون فعلوا ذلك وذهبوا ..واذكر منهم مثلا ..الدكتور عبد الحليم السيوطي ..الدكتور ماجد ..الدكتور صبحي دبابو-والدكتور  ….عساف- ويقال انه أخ الممثل رشيد عساف. والدكتور فايز شيشكلي ..وربما كان أقدمهم الدكتور عبد العزيز حباش…
مع فارق طبعا في طبيعة التفكير والسلوك المهني..ولمن يتذكر أسماء أخرى فليسفني بها مشكورا، وحبذا لو أعانني في شروح موجزة عنهم أيضا.
لكن الدكتور رشيد لم يترك المدينة..استقر فيها، أحبها، أحب أهلها وأحبوه.. وتزوج فيها، فتاة من إحدى العائلات الشهيرة- سينم  بنت نواف نايف باشا…- .
كان وسيما أشقر الشعر ذا طول معتدل ربما ربعا. وبالرغم من معاناة ترتسم ملامحها على محياه أحيانا، كان ذا بسمة مشرقة عندما يشعر بالقرب من أحبابه وأصدقائه..
لكل منا ما يؤخذ عليه ولكن ما سجل له كان عظيما..
كان طبيبا لا طمع في سلوكه..
فهو يعتذر عن معالجة من لا يفهم مرضه..ويعيد إليه اجر المعاينة..مع انه كان أكثر أطباء المدينة خبرة في التعامل مع المرض حينئذ.
كان يعيد اجر الذين يشعر بأنهم فقراء بغض النظر عن انتمائه –دينا أم قومية أم انتماء سياسيا …الخ. لذا أحبه الجميع، وكان الكلمات من رجال دين مسيحيين تصفه بصفات أقوى مما يصفه بها رجال دين المسلمين الأقرب إليه دينا..وكان العرب يمدحونه أكثر –ربما- من الكورد الأقرب إليه قومية –وهو قومي يحب شعوره هذا ويبديه بأساليب مختلفة نظريا وعمليا بجرأة تتجاوز التقييدات التي كانت أجهزة أمنية تضعها فيما يتعلق بالكورد ولا تزال.
ولمن يريد ان يستوثق فليعد الى أرشيف تأبينه ويقرأ –أو يشاهد كلمات التأبين ذاك.

والى اللقاء في حلقة قادمة أكثر تفصيلا وإحاطة بحياته –المهنية خاصة..ان شاء الله.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبدالعزيز قاسم

(كان من المقرر ان اقدم هذه المداخلة عن “اللغة الشعرية في القصيدة الكردية المعاصرة ـ ڕۆژاڤا” في مهرجان فولفسبورغ للشعر الكردي اليوم السبت ٢٥ اكتوبر، ولكن بسبب انشغالي بواجب اجتماعي قدمت بطاقة اعتذار إلى لجنة إعداد المهرجان).

وهذه هي نص المداخلة:

من خلال قراءتي لنتاجات العديد من الشعراء الكرد (الكرمانجية) المعاصرين من مناطق مختلفة “بادينان،…

إبراهيم محمود

 

تلويح خطي

كيف لرجل عاش بين عامي” 1916-2006 ” وفي مجتمع مضطرب في أوضاعه السياسية والاجتماعية، أن يكون شاهداً، أو في موقع الشاهد على أحداثه، ولو في حقبة منه، إنما بعد مضي عقود زمنية ثلاثة عليه، دون تجاهل المخاطر التي تتهدده وتتوعده؟ وتحديداً إذا كان في موقع اجتماعي مرصود بأكثر من معنى طبعً، كونه سياسياً…

د. محمود عباس

حين يمرض الضوء، تبقى الذاكرة سنده.

قبل فترةٍ ليست بعيدة، استوقفني غياب الأخت الكاتبة نسرين تيلو عن المشهد الثقافي، وانقطاع حضورها عن صفحات التواصل الاجتماعي، تلك التي كانت تملؤها بنصوصها القصصية المشرقة، وبأسلوبها المرهف الذي حمل إلينا عبر العقود نبض المجتمع الكوردي بخصوصيته، والمجتمع السوري بعموميته. كانت قصصها مرآةً للناس العاديين، تنبض بالصدق والعاطفة،…

خالد حسو

 

ثمة روايات تُكتب لتُروى.

وثمة روايات تُكتب لتُفجّر العالم من الداخل.

ورواية «الأوسلاندر» لخالد إبراهيم ليست رواية، بل صرخة وجودٍ في منفى يتنكّر لسكّانه، وثيقة ألمٍ لجيلٍ طُرد من المعنى، وتشريحٌ لجسد الغربة حين يتحول إلى قَدَرٍ لا شفاء منه.

كلّ جملةٍ في هذا العمل تخرج من لحمٍ يحترق، ومن وعيٍ لم يعد يحتمل الصمت.

فهو لا…